lunedì 7 marzo 2011

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الحق و العدالة

محاور الدرس




1) الحق بين الطبيعي و الوضعي.



2) العدالة كأساس للحق.



3) العدالة بين الإنصاف و المساواة.
الدلالات .




تعد العدالة واحدة من أكثر الموضوعات قدسية وشيوعا في السلوك الاجتماعي، ويمكن أن تتخذ وجوها متضاربة جدا حتى ضمن المجتمع الواحد.



فمن الناحية التاريخية، يعود إنسان وادي الرافدين أقدم مشرعي أحكام العدالة، ÿÿ إذ أن اÿÿ1604;شرائع العراقية القديمة تسبق أقدم ما هو معروف منن شرائع وقوانين في سائر الحضارات الأخرى، كالفرعونية والإغريقية والرومانية بعشرات القرون، فقد وضع الإنسان العراقي القديم تصوراته لموضوع العدالة والظلم في صميم نظرته للآلهة والكون والإنسان. فارتبطت العدالة بالنظام مثلما ارتبطت قيم الخير كلها به، وارتبطت بنشاطات الحياة المختلفة، فقد عدها إلها للحق والعدل، ومزيلا للغموض وكاشفا للحقائق، فإله العدل هو إله المعرفة نفسه، فكان العراقيون يحتفلون في العشرين من كل شهر بعيد مكرس لإله العدالة " شمس " الذي أنجب ولدين هما " كيتو " و " ميستاو " أي العدالة والحق.



غير أن هذه التمثلات ظلت خدمة للإله من طرف الإنسان، أما فكرة " أن العدالة شيء عن حق كل إنسان " فلم تأخذ في التبلور إلا في الألف الثاني ق.م، وهو الألف الذي ظهرت فيه شرائع حمورابي. إذ يذكر هذا الملك البابلي الذي تولى الحكم خلال المدة ( 1792- 1752) ق.م. في مقدمة شريعته : " إن الآلهة أرسلته ليوطد العدل في الأرض، وليزيل الشر والفساد بين البشر، ولينهي استعباد القوي للضعيف، ولكي يعلو العدل كالشمس، وينير البلاد من أجل خير البشر، ويجعل الخير فيضا وكثرة".



بعد ذلك أصبحت هذه المشكلة الأخلاقية بعناصرها الاستفهامية نقطة وحاولت الخوض في ماهية العدالة وغايتها وأساليب تحقيقها عمليا، ومن هنا جاءت تعددية أشكاها : العدالة الطبيعية، العدالة القانونية ، العدالة الاقتصادية، العدالة الاجتماعية...إلخ.



وإذا كان الاهتمام الفلسفي في مراحله الأولى قد اهتم وركز على المجالين الأنطلوجي، فإن الفلسفة الحديثة والمعاصرة ستفكر في مفهوم العدالة والحق من زاوية سياسية، قانونية، أخلاقية .



أما مفهوم الحق فإنه يشير من الناحية اللغوية إلى اليقين والاستقامة والثبات، غير أن تنازله بشكل إجرائي وربطه بالممارسة العملية، يعطيه مكانة في اهتمامات الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر فقد اعتبره" لالاند، في معجمه الفلسفي : معيارا أو قاعدة قانونية أخلاقية، تؤطر علاقات الأفراد فيما بينهم داخل مجتمع سياسي منظم، وذلك أن تنظيم الحياة في المجتمع حسب " كانط" هي التي تفرض " وجود تحكيم عادل ومنصف يطبق على المجتمع ".



وإذا أردنا تحديد بعض الأصول النظرية والتاريخية التي كان لها الفضل في تناول مفهوم الحق نشير إلى تراث بعض الحضارات القديمة وتعاليم الديانات الكبرى، وتطور الفلسفة السياسية والأخلاقية في أوربا مثل: نظريات العقد الاجتماعي، فلسفة عصر الأنوار، بالإضافة إلى صدور إعلانات ووثائق تاريخية إثر حدوث ثورات اجتماعية كبرى مثل : ثورة 1648، الثورة الفرنسية 1789، صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948...إلخ.



ويقترن مفهوم الحق بالعدالة، حيث لا يمكن الحديث عن أحدهما دون استحضار الآخر، الشيء الذي يدفعنا إلى الدخول في حقل استفهامي واسع نحدد بعض تساؤلاته كالتالي :



- هل العدالة فطرية وذات جذور في طبيعة الإنسان؟ أم أنها مكتسب حضاري ناتج عن المجتمع ؟ أي عن التعاقد الضمني بين الأفراد بهدف تنظيم التعايش الاجتماعي ؟.



- وإذا كانت العدالة هي تجسيد للقواعد القانونية والمعايير الأخلاقية بما هي" قيمة أخلاقية يتحدد بموجب هذه القواعد والمعايير، حيث لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن أشكال تجسيداته داخل الدولة، فما هي علاقة الحق بالعدالة ؟ وهل يكفي القانون لضمان الحق والعدالة ؟.



المحور الأول : الحق بين الطبيعي والوضعي .



يؤكد الفيلسوف الإنجليزي TH ( 1588-1679) إلى كون الحق الطبيعي، يتجلى في الحرية التي يتمتع بها كل إنسان، ومادام كل إنسان يهدف إلى تحقيق مصالحه وأهدافه فإن النتيجة المترتبة عن ذلك هي نشوب حرب الجميع ضد الجميع.



فالحق الطبيعي بهذا المعنى هو حرية التصرف والفعل، وغياب الحواجز الخارجية ، التي تمنع الإنسان من فعل ما يريده، ويمكن أن تميز بين الحق والقانون هنا، إذ أن الحق يكمن في حرية القيام بفعل أو الامتناع عنه، في حين يعد القانون إلزاما بأحدهما - أما القيام بالفشل أو الامتناع عنه- إذ يختلفان بالقوة التي يختلف بها الإلزام عن الحرية.



إن أهواء الناس ميولاتهم المتناقضة والمتضاربة من شأنها أن تؤدي بالمجتمع الإنساني إلى العودة إلى حالة الفوضى التي كانت سائدة في حالة الطبيعة، فيقدر ما يحافظ كل واحد منا على حق القيام بما يريد بقدر ما نكون في حالة حرب، إن الحق يقتضي حسب هوبز وضع حد لحالة كانت سائدة في حالة " حرب الكل ضد الكل " وبناء على ذلك فإن العقل الإنساني بناء على قانون طبيعي أكشف قاعدة ضرورة التنازل عن الحرية المطلقة وتعايش الإنسان مع غيره حفاظا على سلامته وأمنه في إطار توافق اجتماعي .



وينطلق سبينوزا ( ق17) من نفس التصور الذي بنى عليه هوبز أطروحته: ( السمك الكبير يأكل السمك الصغير) أي أن قانون القوة يسير على جميع الموجودات والكاتبات حيث القوي يأكل الضعيف، وفي كتابه "رسالة اللاهوت والسياسة"، الذي درس فيه المجتمع المدني وأشكال الأنظمة وأسس المجتمع المدني، يرى أن الحق الطبيعي هو حق لا يخضع لأية ضوابط إلا ضوابط الذات، وتبعا لذلك يكون الكل موجود طبيعي حق مطلق على كل ما يوجد تحت سيطرته، ومن ثم يكون الحق بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها.



إن سبينوزا وإن كان يبدو ظاهريا مع هوبز في موقفه ، إلا انه يلتقي معه في نفس التصور لحالة الطبيعة، إلا أن سبينوزا العقلاني يستبعد أن تكون هناك سلطة خارجية، لها القدرة على وصف حالة الطبيعة ، إلا سلطة العقل، وللتخلي عن حالة العنف والحرب يجب أن يتنازل الفرد في الحق الطبيعي عن طريق تعاهد حاسم.



إن الحق الطبيعي ليس له حدود، سوى حدود ذلك الشخص الذي يمارس ذلك الحق، لكن استمرار هذا الوضع و تشبت كل فرد بحقه الطبيعي سيؤدي إلى تعارض الحقوق والنهاية ستكون مأساوية، لهذا يرى سبينوزا أن العقل هو الذي يميزنا عن باقي الكائنات، هكذا فإن التعاقد السليم هو ذلك الذي ينبني على العقل والغاية من التعاقد هو الخروج من حالة العنف والقوة إلى حالة السلم والأمن والتعاقد بصفة عامة تحتم على الذات التحلي عن كبريائها وليحل ما هو أخلاقي محل ما هو غريزي،فحالة المجتمع أو حالة التمدن كما يسميها روسو (1712-1778) تجعل الإنسان يضمر ما هو أعظم، وهي الحرية الأخلاقية وأعراف الجماعة وبالتالي يكون الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدينة وهو انتقال من حق القوة إلى قوة الحق، أي من الاحتكام إلى القوة الطبيعية الفيزيائية إلى القوة القانونية التشريعية والأخلاقية، والقوة المشروعة في نظر روسو هي قوة الحق، لأن حالة التمدن التي يتحدث عنها تضمن للإنسان نفس الحقوق والواجبات، ومعها تنتهي الحقوق الإنسانية فيتم إقرار العدالة عن طريق عقد القوانين والاتفاقات التي تجمع بين الشمولية وكونية الإدارة وشمولية وكونية الموضوع.



وضمن نظرة عامة للسيادة أرسى روسو قواعد الاجتماع المدني على أساس الحرية والمساواة وتكريس حالة المدنية من خلال انتقال الإنسان من كائن حيواني إلى كائن إنساني ، فإذا كان العقد الاجتماعي قد أفقد الإنسان حريته الطبيعية الغير محدودة، إلا انه أكسبه ملكية جميع ما يقتنيه.



لكن إذا كان الحق يروم إلى العدل فإن القانون لا يرقى دائما إلى هذا المستوى لذلك فما هو قانوني أو مؤسساتي لا يكون بالضرورة حقا، هنا يطرح علاقة العدالة بالحق، كيف يمكن الاحتكام إلى الحق لتحديد ما هو عادل ؟



المحور الثاني : العدالة كأساس للحق.



يظهر مفهوم العدالة مرتبطا بمفاهيم أخرى خصوصا في المجتمع، وارتباطها بحقوق الإنسان وبالأخلاق ومن ثمة تطرح التساؤلات التالية نسفها : هل هناك فعلا عدالة ؟ أم أن العدالة مجرد مثال يصعب حقيقة الوصول إليه ؟ هل العدالة قيمة مطلقة أم نسبية ؟ و أخيرا ما هو البعد الأخلاقي للعدالة باعتبارها قيمة ؟



لقد كان السوفسطائيون من أوائل من عالجوا إشكالية العدالة، فكانوا يعتبرون الفرد مقياس كل شيء وعلى هذا الأساس اعتقدوا أن العدالة غير موجودة أو على الأرجح إنها مفهوم غامض وقيمة لا يؤمن بها الضعفاء، وقد أتت الأطروحة الأفلاطونية لتصحح الفكر السوفسطائي، علما أن أفلاطون لايؤمن بالمفهوم الديمقراطي للعدالة، حيث أكد أفلاطون بصريح العبارة أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبدا لأن الناس خلقوا غير متساويين بطبعهم، ومن ثمة فإن العدالة تتجسد عمليا في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه، فيجب أن يكون التقسيم الطبقي للمجتمع متطابقا مع تقسيم قوى النفس، القوة الشهوانية، القوة الغضبية، والقوة العاقلة، والحكمة تقتضي أن تخضع القوتان الشهوانية والغضبية إلى القوة العاقلة لتصل القوة الغضبية إلى فضيلتها التي تتجلى في الشجاعة .



إن قيمة العدالة هي التي توجه قوى النفس وتضمن تراتبيتها باعتبارها فضيلة الفضائل، وعلى غرار ذلك لا يمكن أن تضمن مدينة مثالية في نظر أفلاطون دون أن يضم المجتمع ثلاث طبقات ( علاوة على طبقة العبد ) وهي : طبقة العامة وطبقة الجند وطبقة الحكام، وهم الفلاسفة الذين عليهم الانصراف إلى إدراك العدالة كقيمة عليا ترتبط بعالم المثل.



أما أرسطو وإن كان هدفه محاربة الفكر السوفسطائي، إلا أنه يختلف مع أفلاطون في تمثله للعدالة، حيث يرى أرسطو أن العدالة تتمثل نظريا في الوسط الذهبي ( لا إفراط ولا تفريط ) الذي يستطيع وحده أن يضمن الفضيلة، وعلى هذا تتأسس العدالة العملية التي تتجلى في توزيع الثروات بين الأفراد بطريقة رياضية تناسبية، بمعنى أن العدالة تقتضي أن يتقاسم الأفراد بينهم بطريقة عادلة الصالح والطالح، كما تتجلى في سن قوانين كفيلة بضمان الأمن والسكينة لسكان المدينة وتقوم العلاقات بين أفراد المجتمع على صداقة حقيقية ومثالية، لأن المؤسسة والقوانين لا يمكن أن تكون مصدرا للعدالة ما لم تكن مؤسسة على الطبيعة، ولن تكون هناك عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة لها، من هنا ضرورة الفصل بين العدالة والمنفعة وهو فصل يؤسس لفضيلة مبنية على الحب والاحترام كأساس للحق، وفي هذا الصدد نجد " شيشرون " cioceron يؤكد أن هناك معيار أساسي للتمييز بين القوانين حيث يقول : " فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح لا نتوفر عن قاعدة غير طبيعية "، وسيكون من باب الحماقة الاعتقاد بأن هذه التمييزات تقوم على الحب والإخاء، فأساس الفضائل هو حب الناس هو أساس الحق ومتى قام الحق على الطبيعة الخيرة للإنسان كان ملزما.



ويعتبر سبينوزا من الفلاسفة الذين تبنوا أطروحة الحق الطبيعي ودعا على تأسيس الحق الديمقراطي، وأكد أن هذا الحق يتلخص في أن لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، وليس هناك فرق بين الإنسان والكائنات الأخرى، فلذا كل الحق في أن يتصرف وفق ما تشتهيه وتمليه عليه طبيعته، فمن هو بطبعه ميال إلى " منطق الشهوة " يتصرف وفق هذا المنطق ( الغاية تبرر الوسيلة ) ومن ينزع بطبعه نحو " منطق العقل " فإنه يتصرف وفق هذا النزوع، لكن لكي يعيش الناس في وفاق وأمان كان لزاما عليهم أن سعوا إلى التوحد في نظام واحد، وذلك من خلال الخضوع لمنطق العقل وحده، وبالتالي كبح جماح الشهوة وهذا أمر لا يتناقض مع الحق الطبيعي باعتبار العقل جزءا منه، وسبينوزا ينظر للعدالة باعتبارها تتضمن حق كل واحد في الحفاظ على حياته ومصلحته بالتساوي.



كما تعتبر فكرة الحق الطبيعي القاعدة المطلقة لكل تشريع والنواة الحقيقية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد شكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعا دوليا لما يحتويه من حقوق لا يجوز التصرف فيها ويتوخى منه أن يكون معيارا مشتركا تقيس به كافة الشعوب والأمم منجزاتها قصد التأسيس والاعتراف بحقوق الإنسان و.........، المبنية على العدالة والمساواة وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للإعلان العالمي الإنسان وما يتضمنه من حقوق لا يجب محاكمتها باسم تجريديتها وباسم ما هو كائن إذ تبقى هذه الحقوق على مثاليتها المعيار الذي تحاكم من خلاله الحقوق الفعلية المتاحة في الدول المعاصرة وتبقى هذه الحقوق المثال الذي تسعى الإنسانية إلى تحقيقه على أرض الواقع عبر إزالة كل العراقيل المناوئة لها



وإذا أردنا تناول قيمة العدالة كأساس الحق من منظور ليبرالي فلا يمكننا أن نمر دون التطرق لأطروحة فريديريك فون هايك الذي عرف السلوك العادل بأنه سلوك يكفل الحق في منظومة قانونية ، شرعية ، في إطار مجتمع تسوده الحرية حيث لا تعكس العدالة دلالتها إلى في نظام شرعي فالقانون الذي يستند على قواعد العدالة له مقاما استثنائيا لا يجعل الناس يرغبون في أن يحمل إسما مميزا فحسب بل يدفعهم أيضا إلى تمييزه بوضوح عن تشريعات أخرى تسمى قوانين ولعل مبرر ذلك يكمن في أنه لو شئنا الحفاظ على مجتمع تسوده الحرية فإن ذلك القسم من الحقوق الذي يقوم على القواعد العادلة هو وحده الكفيل بأن يكون ملزما للمواطنين ومفروضا على الجميع.



وفي نفس السياق يؤكد الآن أن الحق لن يكون عادلا ما لم يتم الاعتراف به من طرف السلطة القائمة ، إن عدالته مبنية على الاعتراف به وإلا حصل العكس حيث القوة تؤسس لحق طبيعي ، لكنه غير عادل ويدعم الآن موقفه ، هذا بأمثلة بسيطة من الواقع المعيش ، فحيازة ساعة ووجودها في جيب اللص ليس في أمر الملكية مطلقا ، ويؤكد الآن على المساواة كأساس للحق حيث ابتكر الحق ضد اللامساواة والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية ، سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا أو مرضى أو جهالا أما أولئك الذين يقولون حسب الآن أن اللامساواة من طبيعة الأشياء فهم يقولون قولا بئيسا .



المحور الثالث : العدالة بين المساواة والإنصاف.



تدور الإشكالية العامة لهذا المحور حول تساؤل أساسي هو كالتالي: إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع ، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟



وللإجابة على هذه الإشكالية لا بد من مقاربة بعض المواقف الفلسفية التي تناولتها عبر تاريخ الفلسفة .



يرى أفلاطون(424-348ق.م) أن العدالة تتحدد باعتبارها فضيلة تنضاف إلى فضائل ثلاث هي: الاعتدال والشجاعة والحكمة ، فالعدالة حسب هذا الأخير هي أن يؤدي كل فرد الوظيفة المناسبة لقواه العقلية والجسدية والنفسية ، فهي (أي العدالة) تتحقق على مستوى النفوس حيث يحدث انسجام بين القوى الشهوانية والعقلية لدى الإنسان فالضامن الوحيد لتحقيق الفضيلة والعدالة هو الدولة التي تملك سلطة القانون والحكمة وتبعا لذلك فإن الوظائف التي تستدعي قدرات عقلية وانسجام الغرائز مع العقل ستكون من نصيب الحكماء والفلاسفة لأنهم هم القادرون على تحقيق الحق والعدالة



الشيء الذي سيختلف معه أرسطو( 384-322ق.م ) فالعدالة بالنسبة إليه لم تعد صفة من صفات النفس بل فضيلة مدنية والعدالة قد تلحقها أخطاء لذلك فإن الإنصاف وحده يصلح قوانين العدالة فالعدالة بالنسبة لأرسطو تقوم على مبدأين هما : المساواة والإنصاف : أي منح الأفراد ما يستحقونه بغض النظر عن القانون.



ما يمكن استنتاجه من خلال نموذج أفلاطون وأرسطو هو أهمية العقل النظري في تحديد الممارسة سواء عند أفلاطون في تصوره للعدالة من منظور رؤيته للخلاص أو عند



أرسطو في تصوره للحياة السعيدة فالحكيم الذي يكرس حياته للتأمل كان يخص بالتقدير والاحترام وينظر إليه كنموذج لأنه يمثل الطريق إلى تحقيق العدالة وتكريس الحق.



أما دافيد هيوم ( 1711-1776م) وهو (من رواد المدرسة التجريبية ) فإن العدالة بالنسبة إليه تفقد معناها عندما تكون غير ذات نفع، ويدعو إلى التصرف أكثر إنصافا من أجل مصلحة ما، حيث ما وجدت مصلحة وجدت العدالة مادام الإنسان يميل بطبيعتها إلى تحقيقها.



وهناك من يذهب إلى السخرية من العدالة لاستحالة تحقيقها، أما الإنصاف فيتحقق بفعل العرف الذي يعتبر بمثابة الأساس الروحي لسلطته وسببا في القبول به، هذا ما عبر عنه أحد المفكرين يدعى باسكال.



وابتداءا من الستينات وبداية التسعينات من القرن الماضي ستعرف نظرية العدالة كإنصاف انتشارا كبيرا.



وقد حاول " جون راولس " تطوير نظرية أرسطو فيما يتعلق بالعدالة، من خلال نقده للفلسفة النفعية وذلك من خلال إعطائه قيمة كبرى لفكرة الإنصاف في المجتمع متنكرا للمفاهيم البراغماتية للحق والعدالة التي كرستها فلسفة : الإنسان حر في تحقيق منافعه الخاصة ولو على حساب الآخرين.



ويعني الإنصاف بالنسبة لراولس،إعطاء كل فرد في المجتمع حق الاستفادة بالتساوي من الحقوق الأساسية واعتبر أن اللامساواة مقبولة عقليا على أرضية تكافؤ الفرص التي تسمح للأفراد بلوغ مراتب ووظائف عليا في المجتمع، هكذا يحكم راولس على المؤسسات السياسية والاجتماعية هل هي عادلة ؟ أم ليس كذلك ؟.



يظهر إذن أن الإنصاف باعتباره الضامن الوحيد للمساواة بين الأفراد فيما بينهم أساسي لتحقيق العدالة، ذلك أن هذه الأخيرة " يمكن أن تقع في أخطاء وتنحرف " وبالتالي فإن هذه القاعدة عندما تغدو مرجعية شمولية، آنذاك يتحقق الحق شرطا أساسيا لتحقيق العدالة ؟.



هذه النتيجة يمكن استنتاجها على أرضية نقد القانون الوضعي الذي يكون في أغلب الأحوال بعيدا كل البعد عن الحق والعدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات، أي أن القانون الوضعي لا يكون دائما مرجعية للدفاع عن الفرد والجماعة ضد الدولة، فحتى يتسنى للحق أن يشتغل فعليا كقيمة مشتركة من أجل العدالة والمساواة والحرية، بين مختلف جماعات المجتمع الواحد، أو بين مختلف المجتمعات وحتى يمكن أن يكون بمثابة حس مشترك للحوار والتواصل، يعني أن يظهر كإطار مرجعي شمولي تكمله الحياة الاجتماعية للناس.



العدالة أساس الحياة الراقية، ولتحقيقها على الإنسان الالتزام بمبادئها القائمة على الحرية والمساواة واحترام حقوق الأفراد السياسية.



وذلك لا يعني البقاء في حالة الطبيعة، كما صورها هوبز، ولكن المسألة تقتضي الاحتكام إلى معايير تنسجم وطبيعة الإنسان ككائن متميز، عاقل، واع، منتج، فالظلم رافق الإنسان منذ بداياته، ظلم الطبيعة، وظلم البشر للبشر...، خصوصا عند ظهور الملكية التي أدت إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولعل حلم الإنسان لتحقيق العدالة ليس وليد اليوم، ولكنه ضارب في تاريخ البشرية، نصادف في مساره ما يسمى قوانين حمورابي التي ستبلور مبدأ العدالة حق لكل إنسان.



فالتاريخ البشري يمكن النظر إليه بوصفه تاريخ الظلم وتاريخ الصراعات الدامية من اجل فرض معيار موحد للعدالة ولعل اختلاف المواقف والاتجاهات الفلسفية التي تناولت هذا الإشكال تعكس ذلك الرهان.




دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : العنف

محاور الدرس




1) أشكال العنف.



2) العنف في التاريخ.



3) العنف و المشروعية.

تقديم المفهوم:




يبدو أن مظاهر العنف كثيرة، فهو يمارس بأشكال متنوعة. هناك العنف الفزيائي من ذلك مثلا القتل و الاغتيال، لكن هناك العنف السيكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من خلال استغلال الطبقات أو البلدان الضعيفة. مثلما، أن هناك عنف الأنظمة التوتاليتارية ذو الأهداف السياسية و عنف العنصرية... إلخ و اللائحة طويلة إلى درجة تدفع إلى إثارة السؤال عما إذا كان هذا التعدد في صور العنف و أشكاله يعبر عن واقع ثابت أم أن استعمال مفهوم وحيد لا يعكس الإختلافات بين مظاهره ليس من الناحية الكمية فحسب. و إنما أيضا الجوهرية. إنه يوجد في كل مكان. و يمكن استعماله كموضوع للبروباغندا و إلا كعنصر من عناصر تاكتيك للوصول إلى السلطة و المحافظة عليها. إذا أدى العنف إلى تدمير الوجود برمته أو جزء منه، فإن العنف المنجز قد يكون أداة في خدمة مشروع يمكن ألا يكون عقلانيا، لكن شروط استعماله تبدو قابلة للعقلنة.



يمكن أن نسلم بصفة أولية أن العنف يوجد كلما كان هناك إلحاق للأذى بالغير بصفة جسدية أو نفسية، سواء أخذنا الغير كفرد أم كجماعة أو مجموعة بشرية.



إذا اعتبرنا هذا التعريف جيدا يجب أن نتصور العنف كواقعة تارخية و يتحدد بإعتباره كمحرك أو دينامو للتاريخ من وجهة نظر معينة، و يقوم على استخدام القوة بشكل غير مشروع لسبب من الأسباب. فكيف يمكن مراقبة العنف و التحكم فيه إذا كان يجب أن نبدأ بقبول حضوره الجذري في الإنسان؟



لقد أنتجت البشرية على مدى التاريخ آليات و وسائل للحد من العنف حيث يعتبر الدين و الثقافة كعنصرين كابحين للعنف بشكل معنوي و أخلاقي، على أن أهم تقنية للتحكم في العنف تتمثل في التنظيم السياسي للمجتمع ينبني فيه هذا الأخير في صورة مؤسسات حديثة تجتث العنف و تجعل استخدامه حكرا على جهاز الدولة. و في هذا السياق تبرز الديموقراطية كنظام يتطلع إلى القضاء على العنف و تدبير الخلافات و الصراعات السياسية بكيفية حضارية تقوم على قوة القانون و ليس على قانون القوة: فإلى أي حد نجحت الدولة الحديثة في القضاء على العنف؟ و هل من حق الفرد أو الجماعة ممارسة العنف من أجل فرض ما يعتقد أنه حق و عدل و خير؟



المحور الأول:



أشكال العنف: ما طبيعة العنف؟



أفرز التاريخ البشري أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نميز ضمنهما بين نوعين، هما: العنف الجسدي و العنف الرمزي. كلاهما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار بقدر تطور العلم و التقنية. و ليس بديهيا أن تكون هذه الأشكال دائما ظاهرة، ذلك ن أن أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال متخفية مثلما هو الأمر في << نقص التغذية>> كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو. يرى هذا الأخير أن إنتاج وسائل العنف يشمل << وسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل التخريب الجماعي>>.



و بما أن هذه الوسائل أصبحت في متناول الكل: أفرادا، جماعات، دولا، فإن العنف يصير أكثر فتكا. كما أنه أضحى أكثر اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن هذا الأخير يسخره عن طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص هذا الفيلسوف إلى أن << تطبيق التقدم التقني و العلمي على استعمال العنف و على كيفية تدبيره يمكننا من فهم.



أ- الفعالية المضاعفة التي تم التوصل إليها فيما يخص أشكال التحطيم و التخريب . فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة مزروعات، و تهديد حياة الملايين من الناس تتطلب وسائل و تنظيما لم يسبق له مثيل.



ب- من حيث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حيث أصبح من الممكن فرض السيطرة بواسطة التعذيب و القمع و التهديد به>>. فهل معنى هذا أن العنف هو ما يشكل ماهية الإنسان؟ هل الإنسان كائن عنيف بطبعه؟ هل يوجد العنف في طبيعة الإنسان؟ هذا السؤال يطرح نفسه بالنظرإلى قدم الظاهرة و استمرارها عبر التاريخ البشري، و هو يتعلق بما إذا كان الإنسان شغوفا بالتدمير؟ من يجيب الفيلسوف و عالم الإجتماع و المحلل النفساني الألماني إيريك فروم عن هذا السؤال بالقول:<< إن دراسة بعض الظواهر الإجتماعية و الطقوس الشعائرية القديمة قد توحي بأن النزعة التدميرية لها جدورها النظرية في طبيعة الإنسان . إلا أن التحليل المعمق لدلالات هذه الظاهرة ، يثبت أن كل الممارسات التي تؤدي إلى التدمير ليست ناتجة بالضرورة عن < شغف بالتدمير> . بالتالي فإن التدمير ليس سلوكا ينتج بصفة عملية عن غريزة تدميرية توجد في طبيعة الإنسان بقدر ما ينتج عن دوافع ونزعات ليس من الضروري أن تكون طبيعية وذات علاقة بالممارسات والشعائر الطقوسية الدينية . يترتب عن ذلك أن الطبيعة البشرية ليست هي التي تولد العنف وإنما هناك < طاقة تدميرية كامنة تغديها بعض الظروف الخارجية والأحداث المفاجئة هي التي تدفع به إلى الظهور> .



وأما المقصود بالعنف الرمزي فهو مختلف أشكال العنف غير الفيزيائي القائمة على الحاق الأذى بالغير بواسطة الكلام أو اللغة أو التربية أو العنف الذهني ، وهو يقوم على جعل المتلقي يتقبل هذا العنف <<اللطيف>> مثال ذلك العنف الرمزي الذي تقوم به الإديولوجيا من حيث هو عنف لطيف وغير محسوس . يعرف عالم الإجتماع الفرنسي المعاصر بيير بورديو هذا الشكل من العنف بالقول أنه هو ذلك الذي < يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته > وبلغة أخرى < فإن الفاعلين الإجتماعيين يعرفون الإكراهات المسلطة عليهم وهم حتى في الحالات التي يكنون فيها خاضعين لحتميات يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعا من التحديد و الإكراه> و بالنظر إلى أن هذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية، أي التواصل و تلقين المعرفة.



المحور الثاني:



العنف في التاريخ: كيف يتولد العنف في التاريخ البشري؟



يتحدد وجود كل مجتمع بشري – حسب ماركس- بوجود صراع بين طبقتين اجتماعيتين، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض و الثانية لا تمتلكها.



و ذلك منذ أقدم المجتمعات البشرية و أكثرها بدائية إلى المجتمعات الرأسمالية المتطورة . و هكذا ، فإن صراع الطبقات الإجتماعية يمكن أن يتخذ أشكالا فردية لا واعية عند الأفراد أنفسهم، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح المعالم.



كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس في هذا السياق السابق: <<نلاحظ أنه منذ العصور التاريخية الأولى كان المجتمع في كل مكان مقسما إلى طبقات متمايزة ... ففي روما القديمة كان هناك سادة و فرسان، وأقنان و عبيد، و في العصور الوسطى كان هناك سادة و شرفاء، و سادة الحرف، و الحرفيون العاديون و أقنان، كما أن هناك داخل كل طبقة من هذه الطبقات سلم تراتبي خاص>> و قد أصبح الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي بين البرجوازية و البروليتاريا.



و بالمقابل يرى المفكر الفرنسي روني جرار أن أساس العنف هو تنافس الرغبات ، و ذلك أن الرغبات الإنسانية تخضع لقانون المحاكاة،أي كرغبات في ما يرغب به الأخرون،<<كلما كانت رغبة الأخرين (في شـيء ما) قوية و شديدة كانت رغبتي أنا أيضا قوية و شديدة (فيه). ينتج عن ذلك احتمال اندلاع العنف.



وهكذا فإن الصراع الإنساني يتولد عن صراع أو تنافس بين الرغبات. و إذا صح أن الرغبات تتشكل و تتطور من خلال المحاكاة، فإن العنف سيكون معديا من خلال انتشاره في الجماعة من فرد إلى أخر. و دواء هذا المرض المعدي هو القتل.



و هذا الطرح يرجع بنا إلى تصور الفيلسوف الأنجليزي الحديث طوماس هوبز حول جذور العنف الذي يعتقد فيه أن مصدر هذا الاخير ثلاثي، و يتمثل في: التنافس، الحذر ، الكبرياء، و هي أسباب توجد في الطبيعة الإنسانية. الأول يجعل الهجوم وسيلة لتحقيق((المنفعة))، الثاني وسيلة ((للأمن)) و الثالث وسيلة لحماية ((السمعة)).



على أن العنف له صلة أيضا بالتقديس و بالحقيقة، فهو يشكل إلى جانبهما << الأركان الثلاثة لكل تراث مشكّل و مشكّل للكينونة الجماعية>> كما سماها المفكر العربي محمد أركون الذي يشرح هذه العلاقة على نحو ما يلي:<< الجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف، و تقديس، و إلى حقيقة لكي يعيش و لكي يجد له معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس و التقديس مرتبط بالعنف و كلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يعتقد أنه الحقيقة. و الحقيقة مقدسة و تستحق بالنسبة لأصحابها، أن يسفك من أجلها دم >>.



المحور الثالث:



العنف و المشروعية: هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق و القانون و العدالة؟



يرى عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، و أنها وحدها تملك الحق و المشروعية في استعماله. من أين ينبع هذا الحق أو المشروعية؟ إنهما يرتدان إلى التعاقد الإجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب للدولة عن حق استعمال العنف على أساس نظام سياسي حديث يتميز بتقسيم السلط و مراقبتها لبعضها و بإجراء انتخبات بصورة منتظمة من أجل تشكيل هذه السلطة. و بالتالي يصبح العنف مرتبطا بالدولة الديموقراطية الحديثة التي تضبط العنف و تحتكر استعماله. و يستشهد م.فيبر في هذا الصدد بقولة تروتسكي : << الدولة هي كل جهاز(حكم) مؤسس على العنف>> و هذه هي ميزة عصرنا الحالي، بحيث أنه لا يحق لأي كان استعمال العنف إلا عندما تسمح الدولة بذلك . فهذه الأخيرة << تقوم على أساس استعمال العنف المشروع >> و ستكون السياسة هي ((مجموع الجهود المبذولة من أجل المشاركة في السلطة أو من أجل التأثير على توزيع السلطة)).



لكن هل استخدام العنف حق مشروع لكل أشكال الدولة بما فيها الدولة الاستبدادية أم هو حق فقط للدولة القائمة على أساس ديموقراطي حديث؟



الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن عنف الدولة لا يكون مشروعا إلا عندما تكون هذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي على التمثيلية، الإنتخابات، الحريات العامة، التعدديةالسياسية، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن يفترض هنا ان العنف هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف أي مواجهة القوة بالقوة. و ضد هذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعيم الهندي الشهير أن العنف رذيلة، و إذا كان العنف قانونا حيوانيا، فإن اللاعنف هو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف هذا الأخير على نحو ما يلي:((الغياب التام للإرادة السيئة تجاه كل ما يحيى)) إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا، << هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيى>> الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بين الأفراد و الأمم. و ذلك ليس فيه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على العكس من ذلك فاللاعنف مناهض للشر لكن بوسائل الخير. إن القوة الحقيقية بهذا المعنى هي قوة الروح التي تستطيع أن تنجح في جعل اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحية على القوة الفزيائية.

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الدولة

محاور الدرس




1) مشروعية الدولة و غاياتها.



2) طبيعة السلطة السياسية.



3) الدولة بين الحق و العنف.



تقديم :




تعتبر الدولة أهم مؤسسة تسهر على تسيير المجتمع و تدبير شؤونه ؛وهي بذلك أشمل تنظيم



يعكس مجموعة أفراد المجتمع.ويتجلى هذا التنظيم في عدد من المؤسسات الإدارية و القانونية والسياسية و الإقتصادية التي تتطابق مع متطلبات المجتمع. إن وجود الدولة نابع من قصور المجتمع عن تسيير شؤونه في غياب هذه المؤسسة التي تحفظ وجوده و تضمن



استمراريته.



لكن بالرغم من هذه الأهمية التي تشغلها مسألة الدولة ؛يبقى سؤال ماهي الدولة غامضا. وهذا الغموض نابع من الأدوار المعقدة التي تلعبها الدولة والتناقضات الواضحة التي ترافقها .وإذا كانت الغاية من وجود الدولة هي تنظيم أمور المجتمع فهل يقف دورها عند مسألة التنظيم؟ هل يمكن الحديث عن حياد الدولة؟ ثم كيف يكون وجود الدولة مشروعا.؟



يمكن معالجة هذه الاشكالات من خلال المحاور التالية :




- المحور الأول : مشروعية الدولة وغاياتها



1- غاية الدولة تحقيق السلم .( نص هوبز)



لقد جعلت الطبيعة الناس أحرارا و متساويين ؛ غير أن هذا التساوي لا يتحقق مع حالة الطبيعة التي تقوم على اساس الحرب الدائمة والفوضى و الخوف ،وهذا ما يؤدي إلى فناء الجنس البشري .ولذلك كان من الضروري ان يبحث الإنسان عما يساعده على تحقيق الأمن والإستقرار والسلام .لقد اعتبر هوبز حالة الطبيعة حالة حروب و نزاعات بين الأفراد وهي ما سماها بحرب الكل ضد الكل ، لذلك كان لزاما وقف استشراء العنف والإنتقال بالتجمع البشري الى مجتمع الدولة المنظمة . والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الإنتقال هو التعاقد الإجتماعي الذي يضمن السلم والأمن بوجود حاكم يكون خارج هذا العقد حيث يتنازل الأفراد برضاهم عن بعض حقوقهم الطبيعية لفائدة الحاكم قصد تحقيق المنفعة العامة . وهذا التوافق بين الشعب و الحاكم ادى الى نشوء الدولة . والحاكم في نظر هوبز لا يمكن ان ياتي بتصرف يخالف المصلحة العامة لانه بعيد عن الوقوع في الخطأ و بالتالي يفرض تصور هوبز الخضوع التام لهذا الحاكم .



2- غاية الدولة هي الحرية.( نص اسبينوزا)



يشير اسبينوزا في هذا النص الى أن الغاية التي انشئت من أجلها الدولة هي حماية حرية الأفراد و سلامتهم وفسح المجال أمام طاقاتهم و قدراتهم البدنية و العقلية والروحية .إن تحقيق هذه الأهداف (الأمن،الحرية ...) يقتضي تنازل الفرد عن حقه في أن يسلك كما يشاء .ومقابل هذا التنازل يتمتع الأفراد بحرية كاملة في التعبير عن آرائهم و أفكارهم مع بقائهم متمتعين بهذا الحق مادام تفكيرهم قائما على مبادىء العقل واحترام الأخرين و ايضا ما دام الفرد لم يقم باي فعل من شانه الحاق الضرر بالدولة.



3- الدولة تجسيد للعقل.(هيغل).



ينطلق هيجل من محاولة إبراز قصور التقليد الفلسفي السياسي التعاقدي بجعل غاية الدولة تقف في حدود تحقيق الأمن والحرية والملكية الخاصة .إن الدولة غاية في حد ذاتها , باعتبارها نظاما أخلاقيا يكون في احترامه احتراما للعقل باعتبار الدولة تجسدا للعقل، لذلك كان من الواجب الإنخراط في الدولة؛ فلا وجود لحرية الأفراد في غياب حرية الدولة فمنها يستقي الأفراد حريتهم .



إن اقتصار دور الدولة على تحقيق غايات خارجية (السلم ،الملكية الخاصة،الحرية....) يجعل الإنتماء الى الدولة مسالة اختيارية والحال أن علاقة الفرد بالدولة أوثق واوطد.فمصير الفرد ان يعيش في حياة جماعية كلية . هكذا تختفي النزعة الفردية في التصور الهيجيلي للدولة والذي يجعل لها سلطة مطلقة تسحق الفرد تحتها كما أنها ذات سيادة وروح كليتين.



ملحق: مشروعية سلطة الدولة(نص ماكس فيبر)



يستعرض ماكس فيبر في بداية الفصل الثاني من كتابه"العالم والسياسي"لنظرية في خصائص مشروعية السلطة في المجتمعات ؛ حيث اعتبر ان الدولة هي المعبر الفعلي عن علاقات الهيمنة وذلك وفق نموذج سياسي معين ؛ إذ تتنوع أشكال الممارسة السياسية بتنوع البعد التاريخي للمجتمعات .وفي هذا الصدد يمكن النظر مع فيبر الى تاريخ الدول /السلط /المشروعيات بماهي تعبير عن السلطة كمؤسسة حاكمة وقائمة في التاريخ . واولى هذه السلط ؛ تلك التي يمثلها"الأمس الأزلي" من خلال الاحتكام إلى العادات و التقاليد .وهذا ما يبرر ذلك الاحترام و التقديس الذي يحف تلك الأعراف السائدة في هذا التحمع القبلي أو الاجتماعي ؛ حيث تبرز هذه السلطة التقليدية في شخص الأب الأكبر او السيد . أما ثاني هذه السلط؛ فتلك المبنية على المزايا الشخصية لفرد ما لكونه يتمتع بكارزمية تجيد لفت الإنتباه إليه مادام يتمتع بقدرات خارقة تجعله ملهما وبطلا في أعين من يحيطون به ؛ مما يكسبه هالة من الوقار والاحترام والثقة تجعل منه زعيما لهذا التجمع البشري ..وهذا النوع من السلط هو الذي مارسه الانبياء ؛ أو قائد الحزب أو الديماغوجي الكبير .واخيرا تلك السلطة التي تفرض نفسها في إطار فضيلة المشروعية ؛ بمعنى تلك السلطة التي تؤمن بصلاحية النظام السياسي القائم من خلال الايمان بمشروعه وكفاءته واحتكامه لقواعد عقلانية ؛ او لانها سلطة قائمة على مبدأ الخضوع والا متثال للواجبات و الإلزامات المطابقة لقوانين النظام القائم ؛ وهذه السلطة هي التي يمثلها "خادم الدولة الحديثة".



إن دوافع احتكام الناس إلى السلطة منبعه خوف الناس من الممسكين بزمام السلطة؛ أو ذلك الأمل الذي يحيا في كل فرد بالجزاء الذي قد يحصل عليه سواء دنيويا أو في العالم الأخر . ويمكن القول أن تبرير مثل هذه التمثلات يكتسي اهمية كبرى بالنسبة لبنية السيطرة ؛ بل ومن الأكيد أن مصادفة مثل هذه النماذج في الواقع يعد أمرا نادرا جدا ؛ومع ذلك لم يعد اليوم ممكنا الحديث باستعراض كل تفاصيل هذه النماذج إلا بدمجها في إطار النظرية العامة للدولة.





-المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية.



1-السياسة بما هي صراع(نص مكيافيللي)



تعتبر السلطة السياسية شكلا من أشكال التنظيمات التي تنظم حياتنا الاجتماعية والسياسية وذلك بوسائل وطرق مختلفة وطبائع متعددة، فلا يمكن تصور حياة اجتماعية منظمة دون وجود سلطة سياسية وراءها.و يعد مكيافلي من الأوائل الذين فكروا في إشكالية السلطة وطبيعتها داخل الدولة بعد أن تم استقلال الدولة الأوربية عن سلطة الكنيسة؛ وهو ما يصطلح عليه بنموذج الدولة الحديثة التي أصبحت ترتبط بشخص الأمير وقدراته في استخدام كل الوسائل الممكنة المشروعة وغير المشروعة ، القانونية والغير القانونية ،بتحقيق الوحدة و إرساء القوانين.



فما يذهب إليه مكيافلي في كتابه الأمير،كيف للأمير أن يحكم ؟ وأن يحفظ حياته وحياة الناس معه داخل الدولة ؟ فالدولة حسب مكيافلي غير منفصلة عن الأمير الذي يحكمها، فهما شيء واحد.



لهذا نجد مكيافلي يقدم مجموعة من النصائح للأمير من أجل توطيد سلطته السياسية وذلك عبر استغلال الفضائل الحميدة والرذائل وتوظيف الوسائل المتاحة و لكن شريطة ألا يفقد الأمير حب شعبه له لأنه قد يحتاج هذا الحب في وقت الشدائد،وهذا ما يجعل الأمير يتعامل وسط الناس بحيطة و حذر حيث يرى مكيافلي أنه على الأمير أن يكون ثعلبا وأسدا في نفس الوقت فكيف للحاكم ان يكون مثل ذلك؟



إن هذا الاعتبار يعني أن هناك طريقتين في ضبط الحكم ، الطريقة الأولى و كما يشير إليها مكيافلي هي الطريقة القانونية والتي تعتمد أو تستند إلى ماهو قانوني. أما الطريقة الثانية فهي طريقة القوة و التي من خلالها يستطيع الأمير إرهاب وتخويف الأعداء، لهذا على الأمير ان يعرف كيف يحكم ، وكيف يتصرف انطلاقا من هاتين الطريقتين؟ فأن يكون ثعلبا معناه ان يعرف كيف يحمي نفسه من الوقوع في الفخاخ و أن يكون أسدا معناه أن يكون شديد القوة و الجهامة حتى يخيف الآخرين.



فممارسة السياسة حسب هذا الطرح تكون بحب الطبائع البشرية، فالأمير يحكم بوفاء وإخلاص مع وجود الناس الأخيار، وطبعا ليس كل الناس مثل ذلك، فمنهم الأشرار وهؤلاء يستوجب معهم نوعا من السلطة التي تحول دون هذا الشر، فمن أراد أن يكون ثعلبا من اجل أن يخدع الناس قد يجابه بخداع اكبر منه ويسقط في فخ قد يكون وهو الذي نصبه بنفسه.



فإلى أي حد يمكن القول معه أن السياسة هي نتاج الصراع والقوة؟



2-السياسة بما هي اعتدال(نص ابن خلدون)



إن ما ينطلق منه ابن خلدون في تصوره لطبيعة السلطة السياسية قد يختلف تماما عن ما ذهب إليه مكيافلي في تصوره السالف الذكر، فما مضمون تصور ابن خلدون للسلطة؟



في تحليل ابن خلدون لمفهوم الدولة وكيف ينبغي للدولة ان تكون وما يجب ان تقوم عليه العلاقة بين السلطان والرعايا،يذهب إلى انه لا يمكن للرعية ان تستغني عن السلطان ولا للسلطان أن يستغني عن الرعية، فالعلاقة جدلية بينهما فالسلطان هو من له رعية، والرعية هي من لها سلطان. وهذه العلاقة هي نموذج السياسة المثلى التي تقوم على الاعتدال،وإذا كانت هذه الملكة( الاعتدال) تقوم على الرفق والحكمة حصل المقصود بين السلطان ورعيته .أما إذا كان السلطان على بطش وعقاب فسدت هذه الملكة وحل الذل والمكر محل هذا الرفق، فحسن الملكة بين السلطان ورعيته هو التوسط و الاعتدال، بمعنى لا إفراط في الشجاعة والكرم حتى التهور وبالتالي الانحلال ، ولا إفراط في الجبن و البلادة حتى الجمود. فهذا يتنافى و الصفات الإنسانية حسب ابن خلدون؛ فالحاكم والسلطان هو من يحكم رعاياه باعتدال و توسط وليس الدخول معه في صراع وتحايل ومكر وخداع .



3-فصل السلط و استقلالها(نص مونتيسكيو)



يذهب مونتسكيو في كتابه" روح القوانين" الى التمييز بين ثلاث وظائف أساسية للدولة وهي : السلطة التشريعية- السلطة التنفيذية- السلطة القضائية.فالأولى متمثلة في البرلمان وهي التي تشرع القوانين داخل الحياة في الدولة.أما الثانية تتمثل في الحكومة والتي تكون بتنفيذ تلك القوانين , كما تعمل أيضا على توفير شروط الأمن للمواطنين.أما النوع الثالث فيتجلى دوره في تطبيق تلك القوانين وممارستها و هذا النوع الأخير كما يقول مونتسكيو هو الكفيل بضمان الأمن و الحرية. لهذا يذهب مونتسكيو الى الفصل بين هذه السلط الذي من أجله يتأتى جو الأمن والحرية والمساواة و أن تداخل هذه السلط حسب مونتسكيو قد يؤدي إلى الجور والظلم وإهدار حقوق المواطنين وسلب حرياتهم. ولذلك وجب استقلال كل من السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية بحيث لا يجوز لهذه الأخيرة أن تصدر أحكاما كما لا يجوز لها أن تعرقل الأحكام التي أصدرها القضاء أو الحكومة.



ونفس الأمر بالنسبة للسلطة القضائية بألا تتدخل في اختصاصات السلطة التنفيذية وأيضا نفس الأمر بالنسبة للسلطة القضائية مع السلطة التشريعية بمعنى ألا يكون المشرع قاضيا،فهذا قد يؤدي حسب مونتسكيو إلى تعذر قيام العدالة والمساواة والتي قد تضيع معها كل القوانين والمراسيم من جهة ، ثم الأحكام –التي هي من اختصاص القضاء –من جهة ثانية. بهذا وجب أن يستقل القضاء عن السلطة التشريعية حتى نتجنب الظلم و الطغيان كما يوضح مونتسكيو.وهذا لا يعني الانفصال المطلق والتام بين هذه السلط كما يدعو مونتسكيو، بل إن هناك في الحقيقة تعاون وتعاضد فيما بينها.فكل واحدة من هذه السلط تكمل الأخرى فالسلطة التشريعية أو البرلمان هي الرافد الأساسي الذي يستند إليه القضاء في إصدار الأحكام ،وهذه الأحكام بالضرورة تحتاج إلى تنفيذ والذي يتولى هذه المهمة هو الحكومة أو السلطة التنفيذية.



من هنا يمكن القول على أن التكامل بين السلط طبيعي ومقبول وإن كنا قد أكدنا مع مونتسكيو على ضرورة الفصل والاستقلال وعدم تداخل إحدى هذه السلط في مجال الأخرى الذي قد يؤدي الى ضياع الحقوق . بالإضافة إلى كل هذا يجب على الدولة ان توفر لمواطنيها حقا آخر يرتبط في الواقع ارتباطا وثيقا بحق الحرية، ألا وهو حق الأمن والرعاية ضد الأخطار الخارجية.



ملحق: الدولة مجموعة من الأجهزة( نص ألتوسير)



طرح تجديد الفكر الماركسي إشكالا نظريا فيم يخص مسألتين : الأولى تتعلق بأن كل محاولات التجديد التي لحقت الماركسية اتهمت بالمراجعة ؛ أو اتهمت بتحريف أصول الماركسية.والثانية تتعلق بأن مسألة طرح الماركسية من جديد في المجتمع بعيد عن لحظة ماركس بعشرات السنين؛ معناه إعادة النظر أو على الأقل تكييف الفكر الماركسي مع معطيات العصر. وفي هذا الصدد يحضر لوي ألتوسير كأهم منظر للنظرية الماركسية .وفي هذا النص يكشف ألتوسير عن الأبعاد الأيديولوجية الأجهزة الدولة مستثمرا في ذلك العدة المفاهيمية لماركس من خلال استحضار مفهوم الصراع والهيمنة والتحكم والمراقبة والقمع والعنف. ومن هذا المنظور يميزالتوسير بين نوعين من الأجهزة التي تحكم بها الدولة ؛ النوع الأول يرتبط بجهاز عياني يتمثل في الجيش والشرطة والسجون ؛ حيث يمثل جهازا عنيفا تتم بواسطته قمع كل أشكال الانحراف والتظاهر ؛ أي أن الدور المنوط بهذا الجهاز هو شل حركة المجتمع نحو الثورة .أما النوع الثاني فيرتبط بجهاز اخر أكثر تكتما تسرب من خلاله الدولة إيديولوجيتها الخاصة وفق الشروط والظروف التي تسمح لها بذلك ؛وفي هذا الإطار يمكن إدراج كل مؤسسات الدولة : مؤسسة دينية ، مدرسية، قانونية، إعلامية...



إن كل هذه المؤسسات تمارس الدور المكمل لما تقوم به أجهزة الدولة القامعة،التي و إن كانت تمارس العنف المادي، فإن هذه المؤسسات الأخيرة تمارس نوعا من التعمية و التعنيف الايديولوجي من خلال ما تمارسه من إكراه فكري؛ بل وأن هذه السلطة التي تمتلكها تبقى في كل المجتمعات متخفية لكونها إما تخاطب الجانب الوجداني أو الإلزامي(الدين، القانون) في الإنسان؛ ومن تم، فهذه الأشكال الإيديولوجية لابد وأن تتكامل فيما بينها لتنتج شكلا قمعيا للدولة.



ملحق: السلطة ليست مجموعة أجهزة ( نص ميشيل فوكو)



يمكن القول على سبيل افتراضي أن التصور الفوكوي لطبيعة السلطة السياسية يختلف عدة ونتائج عن التصور الألتوسيري لأشكال أجهزة الدولة وممارستها لفعل القمع .وهنا يجب أن نشير إلى ان فوكو ينطلق من فرضية تقول أن الإستراتيجيات و علاقات القوى المتعددة التي تتداخل فيما بينها هي التي تخلق سلطة الدولة ومؤسساتها .ومن هذا المنطلق ، فإن السلطة عند فوكو لا تعبر عن شكل متعال عن مجال اشتغالها ، بل عن شكل محايث يطلق على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين .



إن التصور الكلاسيكي للسلطة ظل محصورا في مجموع الأجهزة و المؤسسات التي تمكن من إخضاع المواطنين داخل دولة معينة سواء عن طريق العنف أو عن طريق القانون. لكن فوكو سوف يرفض هذا التصور بدعوى أن الانطلاق من فرضية سيادة الدولة في إطار الشرعية و الهيمنة معناه الوصول إلى الشكل النهائي للسلطة، وعليه، فإن الذي يهم ،حسب فوكو، هو البحث عن أشكال تغلغل وتواجد وتصارع مجموعة من القوى داخل مجتمع ما لتفرز شكلا مهيمنا ما. يقول :"يبدو لي أن السلطة تعني بادئ ذي بدء علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة الذي تعمل فيه(....) إنها الحركة التي تحول تلك القوى و تزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات التي لا تنقطع". ولا يخفى ان القول بحتمية الصراع معناه التوسل بخطط واستراتيجيات تضمن دوام المنافسة و الصراع مع الخصم من أجل الهيمنة. فإذن ما السلطة؟يجيب فوكو بقوله "يجب تحليل السلطة كشيء متحرك ، وبالأحرى كشيء لا يمكنه الاشتغال إلا عن طريق التسلسل ، فهي ليست محلية وليست بيد أحد ، بل تشتغل في إطار شبكة ، ومن تم( تضمن) حركة الأفراد بجعلهم مستعدين للخضوع أو ممارسة السلطة ." والقول بشبكية السلطة معناه الإقرار بعدم جدوى البحث عن السلطة في النقط المركزية للدولة كما تمثلها المؤسسات ، بل من الضروري الالتجاء إلى أكثر النقط الهامشية لأنها أكثر فاعلية .ومن هذا المنظور ، يلح فوكو على اعتبار السلطة نوعا من المعرفة الإستراتيجية الموجًهة والموجَهة ، فمن جهة لا تشتغل السلطة إلا على نحو معرفة ، والمعرفة هي التي تضمن سيادة السلطة .ولهذا يمكن القول أن السلطة متواجدة في كل مكان وزمان نظرا لقدرتها على التولد في كل لحظة ؛ إذ بمجرد ما تنبع معرفة ما (علمية أو غير علمية) لابد وأن تتمظهر في شكل سلطة معينة بالغة التعقيد لدرجة يصعب تتبع أصول نشوئها .






- المحور الثالث : الدولة بين الحق والعنف:



-1 مشروعية العنف( ماكس فيبر)



يعبر كتاب "العالم والسياسي" لماكس فيبر عن إشكالية جدلية يحياها المجتمع المعاصر ؛ بين تدخل العلم في شؤون المجتمع ومحاولات تغييره نحو الأحسن وبين رؤية السياسي الذي يمارس نوعا من الهيمنة في إطار من المشروعية.



إذن كيف يمكن تحديد مظاهر تسييس كل مناحي الحياة الاجتماعية وجعلها خاضعة لهذا النموذج السياسي أو ذاك ؟



إن السياسة عند فيبر وإن كانت تحيل في دلالاتها على تمظهرات كثيرة ترتبط بوسائل التدبير والتحكم , فإنها تحيل بشكل أساسي على مفهوم الدولة كقيادة سياسية لتجمع بشري في جغرافية معينة.لكن كيف يمكن للدولة أن تسوس أمور الشعب ووفق أي أدوات ؟



يقول فيبر على لسان تروتسكي أن وسيلة الدولة المثلى هي العنف كضامن وحيد لهيمنة الدولة.غير أن هذا العنف وإن كان ليس وسيلة الدولة الوحيدة ، إلا أنه أكثر أسلحتها نجاعة في قيادة المجتمع ولممارسة السلطة ، مادام أن تاريخ البشرية كشف عن محاولات التعنيف لضمان السلم الاجتماعي . من هذا المنطلق يرى فيبر أن السياسي يتوق إلى السلطة ، إما لأنها وسيلة لتحقيق غايات مثالية أو أنانية و إما لذاتها من أجل إشباع الشعور بالفخر الذاتي والرغبة في الوصول إلى السلطة وامتلاكها، بل وإن الاحتفاظ بها يعني بالضرورة أن الدولة /السلطة تعتمد على علاقة أساسية تربط بها هيمنة الإنسان على الإنسان من خلال العنف المشروع، ومن تم يقول فيبر"لا يمكن أن توجد الدولة إلا بشرط خضوع الناس المهيمن عليهم إلى السلطة"



يمكن القول إذن أن الدولة من هذا المنظور هي المالكة الوحيدة لحق ممارسة العنف داخل تجمع سياسي معين كونها تمتلك وسائل متعددة لممارسة السلطة.



2- الدولة هي نتاج الصراع بين الطبقات ( فريدريك إنجلز )



لا يمكن النظر إلى الفكر الماركسي إلا من داخل علاقاته المتشنجة مع فلسفة هيغل . والواقع أن ماركس أخد عن هيغل في كثير من أطروحاته دون أن يمنعه ذلك من إعادة النظر في التصور الهيغيلي للتاريخ والدولة. إذ إذا كان هيغل قد أقر بأن التاريخ أو الروح المطلق قد انتهى مع الدولة البروسية معبرا عن انصهار العقل في الواقع والواقع في العقل، فإن مثل هذا التصور لا يخفي عن نفسه البعد التبريري والاختزالي للتاريخ ، وربما هذا ما يبرر قلب ماركس للجدل الهيغلي بجعله يسير على قدميه بعد أن كان يسير على رأسه.فإذن كيف يحضر مفهوم الدولة عند كل من ماركس وانجلز؟ وما علاقة تطور التاريخ بالدولة؟



إن الدولة في نظر إنجلز ليست هي الصورة المطلقة لظهور العقل في التاريخ وفي الدولة , بل إنها نتيجة تصارع قوى عديدة داخل هذا المجتمع أو ذاك في مراحل تطوره.وهذا يعني تماشيا مع التصور الماركسي ، أن التناقض والصراع هو المحدد الأول والأخير في تمفصل طبقات المجتمع تبعا للمصالح الاقتصادية لكل طبقة، ومن هنا يمكن فهم أساس قيام الدولة كطرف للمصالحة بين الأطراف المتنازعة ، ومن تم تنصب نفسها فوق المجتمع.



ولهذا السبب يمكن فهم حاجة كل المجتمعات إلى الدولة ، إذ إن كل إفرازات المجتمع الإيديولوجية والدموية بين الأفراد والطبقات تحتاج كلها إلى جهاز سلطة لكبح تعارضاتها وجعلها في مستوى مقبول.لكن لا ينبغي ان نفهم من هنا ان الدولة طرف محايد في معادلة الصراع، بل هي دوما تتشكل من الطبقة الأقوى في المجتمع أي تلك الطبقة التي تسود وتهيمن اقتصاديا ، مما يضمن لها أن تسود سياسيا .وهذا يعني ، حسب انجلز، لم توجد في يوم من الأيام إلا عندما تطور الميدان الاقتصادي وفرض تنظيم المجتمع وفقا لوسائل الإنتاج والاستغلال .



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الحقيقة

محاور الدرس




1) الرأي و الحقيقة.



2) معايير الحقيقة.



3) الحقيقة بوصفها قيمة.




توطئة :



الحقيقة كمفهوم تتجاذبه مجموعة من الأقطاب الفلسفية( عقلانية، تجريبية، علمية...)وأكثر ما خلفه الاشتغال حول المفهوم هو التباين وعدم الاستقرار على نتائج واحدة، ففي اللغة تشير الحقيقة إلى"ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه ،والمجاز ما كان بضد ذلك ، وحقيقة الشيء خلاصه وكنهه" – حسب الجرجاني في التعريفات- وحسب ابن سينا فهي"موافقة ما في الأعيان لما في الأذهان" أما بالنسبة لأبي حامد الغزالي" فحقائق الأمور هي التي ينكشف فيها المعلوم انكشافا ولا يبقى معها ريب ولا يقاربها إمكان الغلط والوهم" كما جاء في المنقذ من الضلال.



وفي الاصطلاح الفلسفي كما حدده لالاند في معجمه هي" خاصية ماهو حق ، وهي القضية الصادقة وما تمت البرهنة عليه ، والحقيقة بمعنى أعم هي الواقع".



من خلال هذه التعريفات يظنه أن مفهوم الحقيقة هو مجال ملتبس، تختلف أبعاد تحديده وفق طبيعة المرجع والمجال التداولي.



الإشكال



إن الالتباس الذي يحيط بمفهوم الحقيقة تزداد وطئته داخل السياق الفلسفي ، لتشابكها مع باقي الحقول المفاهيمية والمعرفية : فهل الحقيقة معطى أم بناء؟ وما معيارها؟ وكيف تتحدد بالنظر إليها كقيمة



المحور الأول : الحقيقة والرأي.



موقف الفارابي :



الرأي بالنسبة للفارابي هو خاص بالعوام ، أي أنهم يقتاتون معارفهم من ما هو شائع و عام و متداول كالخطابة و الشعر وحفظ الأخبار واللسان...، وهي لا تؤسس لمعاني معقولة ، غير أنه بعد ذلك تشتاق النفوس إلى الأخذ بأسباب الأمور في الطبيعيات والرياضيات وليحصل اليقين فيها وجب إتباع الطرق البرهانية ، وهذا النحو من المعارف خاص بالعوام .



موقف ديكارت:



ينتبه ديكارت إلى أن الآراء الشائعة التي تداولها أفهامنا تعود في أساسها إلى عدم الانتباه الذي نبديه أول ما نقيم يقيننا الصلب عليها ، باعتبارها معارف وعلوم .



ولتجاوز التغليط والتضليل الذي تعمل على إيقاعنا فيه دوما يعيد ديكارت في هذه المعارف من وجهة نظر أسسها معتمدا في ذلك على الشك المنهجي الذي يروم امتحان أسس المعارف.



يقول ديكارت" أنا أفكر إذن أنا موجود" فالذات تتحدد في أهم مميزاتها ألا وهي التفكير ومادام الشك عملية تفكيرية في العمق فأن الشك الديكارتي يطمح إلى بناء معارف يقينية لا تتحصل من خلال الحواس كآراء تغلط وتضلل بل كمعرفة تهدي إلى اليقين ، فالمعرفة العقلية التأملية هي أساس قواعد المنهج.



موقف ليبنتز:



إذا كان ديكارت فد أبدى تحفظا في إشارته إلى الآراء ، فلأن ليبنتز يراهن عليها كثيرا في بناء المعارف . فالرأي له القدرة على القيام بدور ثوري في تاريخ الأفكار وتطور العقل البشري، وهنا يدلل ليبنتز بكوبرنيك الذي كان وحيدا في رأيه . إشادة ليبنتز بالرأي الذي يفضي إلى الاحتمال ربما له ما يبرره ، فداخل التيارات الفلسفية المعاصرة قد تم تجاوز مبدأ الوحدة و الذي طالما شكل قطب الرحى للفلسفة المثالية وعوض بمبدأ الكثرة الذي يقول بتعدد التفاسير وتجاوز الإطلاقية ، أي نسبية الحقيقة ومرونتها وتعدد أوجهها .



موقف كانط :



في الحس المشترك ، غالبا ما توصف الحقيقة على أنها تبيان لرأي ما مما يظهر نوعا من الترادف بين الاثنين، غير أن كانط يحدث تمفصلا بين كل من الحقيقة والرأي . هـــــــذا الأخير هو انطباع شخصي وحالة ذهنية ذاتية تتمثل في الاعتقاد بصحة قول ما ، هذا التحديد في تصور كانط يبقى بعيدا وغير موضوعي وإن كان يعد معرفة ، فحتى يصير الرأي حقيقة يقينية يجب أن تربطه بها صلة على شكل قانون يقيني ، لأنه في حالة غياب أي ارتباط تبقى المسألة مجرد لعبة خيالية وكنه هذا الارتباط هو الكونية والضرورة ، فالضروري يلزم أن يكون معروفا بشكل قبلي و من تم يحصل اليقين التام الذي يقود إلى الحقيقة، غير أنه في الرياضيات من العبث تكوين آراء فالأحكام هنا تصدر عن العقل الخالص .



موقف غاستون باشلار:



يميز باشلار بين المعرفة العلمية والمعرفة الناتجة عن الآراء المسبقة ، التي تقوم على الإعتقادات الرائجة عند جمهور الناس . حيث أن المعرفة العلمية محكومة بهاجس التجاوز والتقدم والمراجعة لكل المعتقدات التي تحصلت لدينا" إن معرفة الواقع هي بمتابة تسليط الضوء يترك بعض الظلال" والممارسة العلمية من خلال اجتهادها في تحسين مستوى منهجها وباقي أدواتها اللازمة في مسار تجاوزها للأخطاء ومراجعتها للمعتقدات وتمظهراتها :



*إن الرأي يفكر تفكيرا ناقصا ، بل إنه لا يفكر .



*إن الرأي مرتبط بالمنفعة والفائدة الآنية رغم تأسسها على التناقض .



* الرأي عائق بين الباحث العلمي و الحقيقة ، لأنه يتخذ صورة معرفة لكنها زائفة وتستبطن كل التمثلات الخاطئة والتلقائية.



إن العلم هو غزو العقل لدائرة اللاعقل ، وتاريخه هو تاريخ انتصار للمعقولية والعقلانية لأنه " لا شيء في العلم يسير بديهيا من تلقاء ذاته... بل إن كل شيء فيه منشأ ومبني ".



المحور الثاني : معايير الحقيقة



موقف ديكارت :



يميز ديكارت بين سبيلين نحو الحقيقة وهما الحدس والاستنباط ، الأول هو الوصول إلى البداهة الشاملة المحققة لكل مطالب الذهن اليقظ ، من وضوح وبساطة وإقصاء لكل معطيات الحس وتركيبات المخيلة . أم الاستنباط فهو حدس غير مباشر ينطلق من مقدمات يقينية أو مسلمات متأسسة على الحدوس تنتقل من حد إلى حد بحركة متصلة(الاستدلالات) حتى يصل الاستنباط الى غايته وهو الحدس المركب ، لذلك فإن الحركة العقلية مبدأها حدس ومنتهاها حدس .



موقف ليبنتز :



إذا كان ديكارت قد تحدث على معياري الوضوح والتمايز على أساس أن الفكرة الواضح هي التي تدرك بداهة ودون وساطة ولا يتطرق الشك إلى صدقها ، نجد ليبنتز ينتقد هذا التصور الديكارتي ويرى مقابل ذلك أن الحقيقة تعتمد المنطق والبرهان قصد الفصل بين ما هو حقيقي و ما هو غير ذلك ، بمعنى أن لا نقبل أي شيء يكون فيه خلل على مستوى المادة والصورة ، وذلك الفصل لا يكون إلا بتقدير درجة الاحتمال الموصلة الى اليقين . وأساس هذه النتيجة لدى ليبنتز هي نظريات "المونادات" ، فالعالم هو مجموعة وقائع ذرية منفصلة بعضها عن بعض ، وهي غير مكتفية بذاتها بمعنى أنها حتى تظهر تحتاج الى بعضها البعض.



موقف سبينوزا :



يرى باروخ سبينوزا من داخل التيار العقلاني أنه هناك تلازم حتمي بين الفكرة الصحيحة والاعتقاد بصدقيتها الى درجة اليقين ، وهذا بفعل حيوية التفكير وملكة الفهم ، وبالتالي استحالة إقرار سمة اليقيني على الأفكار الخاطئة ، خصوصا بين الفرد وذاته ، فالفكرة الصادقة لها الوضوح ما يمنع عنها كل مغالطة لذات .



وهذا ما يجعل الحقيقة تستلهم معياريتها الخاصة من ذاتها ، وهذا شرط ضروري حتى لا تصبح في مستوى واحد مع الأفكار الخاطئة اذا ما كان التأسيس للقيمة من خلال المطابقة مع الواقع الخارجي .



موقف ديفيد هيوم :



ينطلق هيوم من ملاحظة أن الفلسفة كما مورست ووفق ما انتهت إليه ، لا تشكل معرفة حقيقية واضحة لأنها لم تهتم إلا بالأشياء البعيدة عن الواقع الحسي المباشر : الله ، الروح ، العلية... ، هي موضوعات تم تناولها بشكل موغل في التجريد والغموض ، لدى لا يجب على الفلسفة أن تقوم بتحليل شامل لقدرات الفهم البشري من أجل تشخيص إمكاناته في علاقته بهذه الموضوعات .



من خلال هذه الأفكار التي توضح وجهة هيوم في إطار مهمته النقدية سيميز في موضوعات العقل البشري بين :



*موضوعات تتأسس على العلاقة بين أفكار محددة ودقيقة .



*موضوعات أخرى تقوم على العلاقات بين الوقائع .



الموضوعات الأولى تدرسها العلوم الرياضية فتعبر عنها قضايا رياضية ، أما الثانية فلا تدرسها العلم التجريبة والأخلاقية وحدها بل هي تشكل موضوع حياتنا العملية ، ليبقى معيار الحقيقة عند هيوم متفرعا إلى :



* حقائق تستند على أساس تجريبي يضمن يقينها بالإضافة إلى مبدأ عدم التناقض المنطقي الذي تقوم عليه ، نموذج ذلك المعرفة الرياضية 4 + 5 = 9 *حقيقة تقوم على الشرط التجريبي فقط ، لا تخضع لمبدأ عدم التناقض (الشمس ستشرق غدا) .



موقف إمانويل كانط :



يتحدث كانط عن كونية المعبار المؤسس للحقيقة بتفريع الإشكال إلى طرحين :



1- هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة ؟



2- هل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة ؟



في تصور كانط من غير الممكن أن يوجد معيار مادي وكوني للحقيقة لأن القول بذلك يقتضي عدم التمييز بين الموضوعات ، وهذا نوع من العبث أن نتجاوز كل اختلاف بينها .



في مقابل ذلك إذا كان الأمر يتعلق بمعايير صورية وكونية فمن اليسير أن نقر بجواز ذلك لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها ،ومن تمت يكون المعييار الكوني الصوري ليس شيئا غير المعيار المنطقي اأي القانون الكلي للفهم و العقل .



موقف فتجنشتاين :



ضد أي نزوع مثالي ، أهتم الفلاسفة التحليليون ورواد الوضعية المنطقية بمسألة تحليل اللغة وأنه لا توجد مشكلات بقدر ما هناك سوء فهم اللغة .الأمر الذي سيحدو بفتجنشتاين إلى جعل المنطق الرياضي الآلة العمدة في التحليل ، فمعيار صدق الفكرة وبطلانها هو مدى قابليتها للتحقق تجريبيا ، مركزا بشكل كبير على تحليل البناء المنطقي للغة القضايا ، والهدف من التحليل هو الوصول إلى الدقة و الوضوح وتجاوز الإبهام و الغموض ، وتخليص اللغة من الشوائب الميتافيزيقية .



فالقضايا الكاذبة أو الفارغة من المعنى هي التي لا تعبر عن أشياء واقعية يمكن الإحالة عليها أي أن بنيتها التركيبية لا تسعفنا ألى أي دلالة ممكنة (مثلا : الأفكار الخضراء تنام غاضبة) .



موقف فتجنشتاين قد يبدو مغريا على مستوى التحليل غير أنه سرعان ما اعتبر تحليلا مهزوزا . فرغم الاعتراف بالأهمية التي تلعبها التجربة في تمحيص الأفكار ، فهذا الموقف يبقى تعسفيا خصوصا أنه يعتبر القضايا الوجدانية والعاطفية والمواقف الشعورية ... قضايا ميتافيزيقية خاوية من المعنى ، وفي هذا إفقار للواقعية واختزال لاختلاف الموضوعات وإفراغها من منطقها الخاص .



المحور الثالث : الحقيقة كقيمة



موقف كانط :



إن الميول أو المصالح أو السياقات أو الظروف لا أهمية لها في إعتبار التصور الأخلاقي المطلق الذي يحدد به كانط مفهوم الواجب ، فالقول الحقيقة والتمسك بها واجب يتعين التاسيس له وإقامته على عقد قانوني مثين ، من هنا يصبغ كانط فهمه للحقيقة بطابع أخلاقي يتشكل في أبعاد مطلقة يجب الالتزام بها ، لأن القوانين المشرعة بناء على نصوص ملزمة و الواجب القانوني يستند في عمقه على الواجب الأخلاقي الذي يرتبط بالإرادة و الإلتزام .



فالفعل/السلوك نابع من كونه غاية في ذاته بغض النظر عن النتائج ، ووسيلة لا تخضع للمزايدات و الظروف .



فكانط يربط بين الحقيقة و أبعاد عملية وسلوكية دون أن يكتفي باستثمارها المصطلحي فقط في مسار اشتغاله المعرفي ، ويحيل على السؤال الذي ينبغي أن تسترد به كل مبادرة سلوك (ماذا لو فعل الناس جميعهم هذا السلوك؟) .من هنا يظهر البعد الغائي و الوظيفي الذ يتناول منه كانط مفهوم الحقيقة ، وكذا باعتبارها ارتباطا باليومي و القانوني من أجل تحقيق السلام الدائم .



موقف نيتشه :



في مقابل هذا الإتجاه يؤسس فريديرك نيتشه اتجاها جذريا للحقيقة ومتوخيا البحث عن غايتها و أصلها ، إن الحقيقة كما هي ليست أكثرمن أوهام ثبتت صحتها في معركة الصراع.



إن قيمة الحفيقة يجب أن تكون مبنية على الغرائز وتثوير لها وليس على العقل كما أسس لها سقراط وأفلاطون ، الذين أحدثا طلاقا بين الحياة والفكر ، لفد أسسا لحقيقة في معناها الضيق



تنشد ضد البقاء و السلم و التعايش مع الآخرين ، في شكل استيعارات وتشبيهات وتجميلات شعرية بلاغية ، صارت إلزاما على المجتمع .



في تصور نيتسه مصدر الحقيقة هو ذلك العود ال أبدي للعصر الهيليني التراجيدي ، حيث الإقبال على الحياة ب آلامها و آمالها ، وحيث تسود الطقوس الديونيزوسية ملغية الوجه الأبولوني للحياة ، إنها تأسس للأنسان الأعلى ، ورغبة في التفوق و إرادة القوة ...



موقف وليام جيمس :



فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي و المجرد . فقيمة الحقيقة هي قدرتها على تحقيق نتائج و تأثيرات في الواقع ، و بالنسبة لجيمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي ، وقد تكون غير مباشرة بمعنى غير فعالة بشكل مباشركحديث وليام جيمس عن تأثير الإيمان بالله في الفرد بحيث ينحت داخله مجموعة من القيم التي باكتسابها تسود قيم من قبيل الخير و الفضيلة .



موقف كيركيكارد :



الحقيقة لها قيمة أخلاقية إنها فضيلة على الطريقة السقراطية قبل أن تكون مجرد معرفة ، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحياة وتعاش بالمعاناة .



الحقيقة ليست شيء ثابت إنها حوار و اختلاف وهي ذاتية لأنها لا تتكرر في كل واحد منا ، إنها أخلاق وفضيلة وليست قضية معرفية وغاية مذهبية بعيدة عن شروط ووجود الإنسان .



موقف مارتن هايديجر :



إن الحقيقة المكتفية بذاتها ليس بوسعها تجاوز العوائق التي تحول دون تحققها ذلك أن الحقيقة كمجال تعانق الخطأ و الوهم ، بل إن الحقيقة في صميمها تستقر اللاحقيقة في دروب التيه .إن النظرة إلى الشيء تحول الشيء إلى مجرد مظهر ، والفكرة الميتافيزيقية للحقيقة تقتصرعلى إقامة علاقة حيوية أو تطابق مع الواهر الملاحظة ، لكنها بهذا تغفل الظاهرة الأصلية وهي ما سماها هايديجر " السر" ، ذلك أن الإنسان لا يستشعر بكينونته التائهة في سديم الأوهام أو المستمسك بالحقائق الزائفة ، لهذا كان الوعي بحالة التيهان هو أولى الخطوات نحو الحقيقة لأن هذه الإخيرة هي الفعل الديناميكي الذي يجعل الأشياء تنبثق على ضوء يقظة فكرنا ليفهم الوجود ، كما أن الحقيقة هي كشف الحجاب الذي يخرج الوجود من النسيان ، ولا أحد يمتلك هذه الحقيقة وإن كنا نسير عاى ضوئها .



من هنا تتبدى أهمية الحرية كقدرة بفضلها ننفتح عن الأشياء ويكشف لنل الوجود ، والوصول للأشياء ليس ممكنا إلا لأننا نملك ملكة الكشف وهي الحقيقة التي تعصمنا التيه .



موقف إيريك فايل :



إذا كان كل خطاب يدعي تضمن الحقيقة أو يقاربها ، وإذا كانت الفلسفة كمعرفة اتخذت من الحقيقة غايتها وأقصى مطالبها فإن غيابها كقيمة عليا ضرورية فإن نتيجته لا تكون هي الخطأ ، بل عاقبة هذا الغياب هو العنف أي الخصم اللذود للمعنى و للإتساق المنطقي والحجاجي . يكون أثر العنف على جهتين : جهة سلبية الفعل و اللغة، ثم جهة الرؤية السطحية والقاصرة على طرح الأسئلة الكاشفة للجوانب المعتمة والمغيبة .



كما أنه لا يمكن الفصل بين الخطاب ومنتجه ، لأنه ترجمة لذاتية المنتج وبهذا تنتفي الدعوة الكلاسيكية التي مفادها : مطابقة الفكر للواقع ، لأن الأحق بهذه المطابقة هو الإنسان مع فكره أي مع التعقل .

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

محاور الدرس




1) الموضوعية في العلوم الإنسانية.



2) علوم الإنسان بين التفسير والفهم.



3) مسألة نموذجية العلوم الإنسانية.



4) نموذج السوسيولوجيا.
تــــقــــديــم:




هناك شيء من الإجماع لدى الباحثين في مجال العلوم الإنسانية أن موضوع الإنسان قد اعتبر منذ زمن طويل- من التاريخ الفلسفي- محط اهتمام الفلاسفة ومرتعا لتأملاتهم، وكذا نظراتهم الفلسفية المجردة، لكن هذا التصور لمفهوم الإنسان ظل حبيس النظر والتأمل الميتافيزيقي.



من الواضح أن هذا التصور الكلاسيكي لمفهوم الإنسان سيتغير نتيجة التقدم الكبير الذي شهده مجال العلوم الطبيعية، وذلك عبر تحكم الإنسان في الطبيعة والسيطرة عليها بطرق عقلانية، الشيء الذي فرض ضرورة التفكير في إمكانية تأسيس ما نسميه بالعلوم الإنسانية، ودراسة الظواهر الاجتماعية بطرق عقلانية تتخذ من المنهج العلمي نموذجا لها، بهدف تحقيق أكبر قدر من الموضوعية.



ولا شك أن نشأة العلوم الانسانية خلال القرن التاسع عشر ساهمت في ميلاد عدة إشكالات وتساؤلات يمكن تلخيصها في النقاشات التي تشهدها الساحة الفكرية حول القيمة الموضوعية للعلوم الانسانية، ومدى إمكانية تأسيس معرفة موضوعية بالظاهرة الانسانية التي يتداخل فيها عنصري الذات والموضوع في الآن نفسه، وهل تخضع الظاهرة الانسانية في دراستها للفهم أم للتفسير؟ وما هو النموذج العلمي الملائم لهذه الظاهرة وأخيرا ما هي السوسيولوجيا؟ وما هو منهجها وموضوعها؟ كل هذه الإشكالات والتساؤلات ستساهم في ميلاد اتجاهين أو موقفين متمايزين، الأول منهما يسمى بالاتجاه الوضعي أو الطبيعي الذي يستمد جذوره من الموقف الديكارتي الذي يطرح إمكانية دراسة الظاهرة الانسانية دراسة موضوعية وذلك من خلال تشييئها ووضع ذات الدارس وكل ما يرتبط بها بين قوسين، وهذا ما تقوم عليه دراسة الظواهر الفيزيائية، غير أن هذا الموقف الذي استلهم المنهج التجريبي، واعتبر أن الظواهر الانسانية لا تتنافى مع الظواهر الفيزيائية من حيث الشروط المنطقية، واجه انتقادات كثيرة أثارت جدالا حول مسألة تداخل الذات والموضوع، باعتبار أن الفعل الإنساني فعل هادف ومقصود، له غايات وإرادات تحددها الذات.



وفي مقابل هذا الاتجاه نجد موقف الفهم الذاتي التأويلي الذي يقر به ماكس فيبر، والذي يعتبر أن الظاهرة الانسانية هي ظاهرة جد معقدة وبالتالي فتطبيق المنهج التجريبي إزاء هذه الظاهرة صعب المنال.



وإذا كانت الظاهرة الفيزيائية نعتمد في دراستها على التفسير والتنبؤ فإن الفعل الإنساني عكس ذلك، يتخذ وسطا بينهما وبالتالي فهو يخضع للتأويل والفهم الذي يساعدنا على فهم مقاصد ودلالات وغايات الفعل الإنساني التي تحددها الذات، هذه الأخيرة التي تحتل مكانة كبرى عند بعض التيارات الفلسفية من خلال التجربة المعيشية التي عاشتها هذه الذات والتي تتلخص لنا في المعرفة التي نكونها عن هذا العالم بواسطة هذه الذات.



هذا النقاش بين مسألة الفهم والتفسير في الظاهرة الانسانية سيجعل الدارسين يطرحون السؤال حول النموذج العلمي بالنسبة للعلوم الانسانية، ومن هنا سيبرز السؤال حول مدى إمكانية تطبيق المنهج التجريبي لضمان أكبر قدر من الموضوعية في العلوم الانسانية. إن إمكانية تطبيق النموذج العلمي في العلوم الانسانية ستفرض ضرورة التفكير في طبيعة هذه العلوم ومدى صلاحية المنهج فيها.



وإذا واجه هذا الموقف رفضا بسبب مدى تعقيد الظاهرة الانسانية فإنه في المقابل نجد أن بعض التيارات أي تمايز بين كل من الظاهرة الانسانية والظاهرة الفيزيائية، فيما يخص مسألة تدخل الذات، لكن هذه التيارات ترى أنه يجب أن تتوفر هناك شروط إضافة للتحكم في الظاهرة الانسانية والتمكن من دراستها دراسة موضوعية، لكن هذه الدراسة الموضوعية تجمل الفلاسفة الفينومينولوجيين يقفون موقف رفض منها، معتبرين أنها تجزئ الإنسان وتنسى تجربته الذاتية التي تزوده بكل معارفه عن العالم وتعتبر مصدرا لها.



أما السوسيولوجيا كعلم يختص بدراسة الإنسان ككائن اجتماعي باعتباره عضوا في مؤسسة اجتماعية فقد اصطدمت بجملة من الصعوبات وعرفت مجموعة من الإشكاليات سواء على مستوى الموضوع أو المنهج أو النظرية ويرجع ذلك إلى طبيعة الظاهرة الاجتماعية باعتبارها ظاهرة واعية يتداخل فيها عنصر الوعي والإرادة والقصد وهنا يطرح التساؤل عن طبيعة المنهج والنظرية المتبعة في دراسة الظاهرة الاجتماعية، وأمام ذلك تجد السوسيولوجيا نفسها حرجا في الجسم بين خيارين متباينين: الأول هو التماهي التام مع العلوم التجريبية ونقصد هنا اقتباس النموذج العلمي المتبع في العلوم الطبيعية وتطبيقية على الظواهر الاجتماعية الثاني وهو القطيعة التامة مع العلوم التجريبية واعتماد نموذج ملائم لطبيعة الظاهرة الاجتماعية بالشكل الذي يحقق الموضوعية ولا يلغي فاعلية الذات.



ما من شك أن العلوم الانسانية في سعيها المتواصل أن تتحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي حيث ظلت على الرغم من ذلك عاجزة عن استيفاء شرط ما يسمى بالموضوعية ومرد هذا يمكن أن نرجعه لأسباب مبدئية تتصل بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتها، كذلك يمكن اعتبار الظاهرة الانسانية، ظاهرة مركبة أو معقدة إن صح القول، حيث أن الظواهر والأفعال الانسانية هي ظواهر واعية إرادية لا تتكرر ولا تخضع للإطراد، من هنا حق لنا أن نتساءل عما إذا كان الإنسان ذاتا للمعرفة، وموضوعا لها في الآن نفسه؟ هل هناك إجماع بين الباحثين في مجال العلوم الانسانية حول القيمة الموضوعية للعلوم الانسانية؟ ما الذي يترتب على استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي وقبليات الحس المشترك وأخيرا ما هي العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الانسانية؟



لمعالجة هذه التساؤلات وغيرها يدعونا هذا إلى الانفتاح على العديد من التصورات بغية اقتفاء أثر الجواب عنها.



I-- الموضوعية في العلوم الانسانية.-



يطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الانسانية، حيث يقر هذا الأخير بعجز العلوم الانسانية عن التحرر من عقال الإرث الفلسفي التأملي نظرا لعدم استيفائها شرط الموضوعية ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الانسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي، وقبليات الحس المشترك، كما يتطرق لوسيان إلى بعض العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الانسانية، ولتدعيم أطروحته هاته يعزز كما يذيل موقفه بالاستناد إلى بعض الحجج التي تصبو إلى إثبات مذكرته، وذلك من خلال إبرازه لمناحي الاختلاف بين شروط عمل الفيزيائي أو الكيميائي يجد منطلقه في اتفاق فعلي أو ضمني بين سائر الطبقات التي تكون المجتمع المعاصر، حول قيمته وطبيعته ومقصده، كما يرى لوسيان أن المغرفة العلمية هي الأكثر مطابقة للواقع الفيزيائي والأكثر فعالية ونجاعة، وفي هذا السياق لا يمكن غزو الشخصية في قبيل غياب روح النسقية، ثم انعدام الرؤية النافذة، وكذا الغرور والانطباع الانفعالي، وفي أقصى الأحوال غياب النزاهة الفكرية، على النقيض من ذلك نجد بأن وضعية العلوم الانسانية تختلف عن المعرفة التي تشكل أرضية أو أساس العلوم الفيزيائية – الكيميائية، فبدلا من الإجماع الضمني أو الصريح بين أحكام القيمة حول البحث العلمي فإننا نجد في العلوم الانسانية اختلافات جذرية في المواقف من هنا يبرز لنا لوسيان غولدمان انعدام الفهم الموضوعي في واقع العلوم الانسانية ثم استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية مما هو قبلي أو مواقف ذاتية، لان الباحث يتصدى في غالب الأحيان للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي، في هذا الإطار نجد بأن إيميل دوركهايم يقر بأن الظواهر الاجتماعية في ذاتها هي ظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها وبالتالي يجب دراستها من الخارج، من هنا نستشف أن الإنسان ليس ذاتا للمعرفة وموضوعا لها في الآن نفسه، في هذا النطاق تبرز أو تقر بوفريس رينيه فكرة جوهرية مفادها أن العلوم الانسانية بالرغم من نشأتها، وإرساء أسسها، في القرن 19، في سياق ابيستمولوجي خاص يصغي إلى الارتقاء إلى مستوى تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي على دراسة الإنسان، فإنها عجزت أن تفي بشرط الموضوعية لأسباب مبدئية تتصل أو رهنية إن صح القول- بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتها، من هنا يتبين لنا جليا أن الباحثة بوفريس تطرح مشكلة الموضوعية في العلوم الانسانية بين التصور الوضعي والتصور النقدي، حيث ترى بوفريس أن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، مشبعة بالذاتية، كما أن النظرة التي تشكل علم النفس هي ظاهرة نفسانية، كذا علم الاجتماع هو ظاهرة سوسيولوجية تخص العالم الحديث، وبالتالي يستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الانسانية من الوصول أو بلوغ الموضوعية المطلقة، أو التخلي عن جزء من أهدافها وغاياتها ثم الاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الانسانية.



في هذا الإطار نجد بأن ميشيل نوكويلتقي مع لوسيان غولدمان، حين يقر بأن مسألة العلوم الانسانية، في علاقتها بالعلوم الأخرى، سعيا وراء إبراز خصوصية الظاهرة الانسانية- باعتبارها ظاهرة معقدة وبالتالي متعددة الأبعاد ونقطة لتقاطع مجموعة من العلوم، مما يجعل دراستها أمرا صعبا، كما يعالج ليڤيستروس فكرة جوهرية في هذا السياق مفادها أن مسألة الظاهرة الانسانية وكيفية موضعتها أمام الصعوبة التي تطرحها ثنائية الملاحظ والملاحظ،، وكذا كيفية الحفاظ على خصوصية هذه الظاهرة الانسانية وكيفية تناولها من طرف علوم الإنسان من جهة، ومن طرف الفلسفة من جهة أخرى، على النقيض من ذلك يحاول دوفرين M.Doufrenne أن يعكس وجهة نظر مغايرة تنتصر للإنسان في أبعاده المتميزة بدل التركيز عليه كموضوع مما يؤدي إلى إفقاره، وسلب الخصائص الوجودية التي تضفي عليه طابعه المتفرد، بيد أن جون پياجي في إبستمولوجية العلوم الانسانية (1970) يقدم تصورا متكاملا عن الإشكالات الإبستمولوجية التي تواجهها العلوم الانسانية وتحقيق العلمية في دراستها، حيث يرى بأن وضعية العلوم الانسانية لهي أشد تعقيدا، وذلك لأن الذات التي تلاحظ أو تجرب على ذاتها أو على غيرها من الذوات قد تعرض لها من جهة تحولات صادرة عن الظواهر الملاحظة، بل وبشأن سياق هذه الظواهر، بل وبشأن طبيعتها في ذات الآن صعوبات إضافية بالقياس إلى وضعية العلوم الطبيعية التي يمكن الفصل فيها، بوجه عام بين الذات والموضوع.



يمثل العمل الإجماعي- التفلسف- معالجة فلسفية وبيداغوجية لبعض المفاهيم والقضايا، وتقدم مساهمة



"فرنسوا باستيان" تحليلا لرهانات العلوم الاجتماعية أو الانسانية في ضوء تعقد الموضوع وتداخل المناهج (مفارقة علاقة الذات بالموضوع) حيث تتمثل المفارقة غير القابلة للاختزال لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهة علمي، غير أن هذا التوجه الوضعي الذي استلهم المنهج التجريبي، والذي أثبت نجاحه في العلوم التجريبية وقال بإمكانية بناء الظاهرة الانسانية، واجه انتقادات تصب كلها في إثارة إشكال التداخل بين الذات والموضوع وهذا الإشكال هو الذي يجعل كل موضعة، بالمعنى التجريبي، صعبة المنال، إن لم نقل مستحيلة، وفي هذا النطاق تنكشف طبيعة هذا التدخل وما يطرحه يتبين من خلال هذه العناصر أنه لا يمكن الحسم بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية، فالقول بذلك يفيد التماثل بين بنية الذات- الموضوع في العلوم الحقة وبنية علاقة الذات- الموضوع في العلوم الانسانية، وهو تماثل لا يصمد أمام الانتقادات الموجهة له، وما ينتج عن ذلك من تأثير سلبي على مكانتي كل من التفسير والفهم، الشيء الذي يطرح إشكالية يمكن إدراجها على النحو الآتي: - كيف تتحدد وظيفة النظرية العلمية؟



-II- علوم الإنسان بين التفسير والفهم:-



- تحتل عملية التفسير مكانة خاصة في العلوم الحقة، بل يمكن القول إنها تمثل مع التنبؤ النواة الصلبة للعقلنة الطبيعية وترييضها، إنها عملية عقلية تسمح باستنتاج اللاحق من السابق، والظواهر في القوانين باسم الضرورة المنطقية التي لا تسمح فقط بالتفسير بل أيضا بالتنبؤ. فهل يمكن القول بإمكانية التفسير بهذا المعنى في العلوم الانسانية؟



للإجابة عن هذا التساؤل وغيره، لابد لنا من أن ننفتح على تصور جيل غاستون غرانجي حيث يطرح هذا الأخير إشكالية الفهم في العلوم الانسانية وعلاقته بالتفسير العلي، حيث تتشكك النظريات العلمية في ميدان العلوم الانسانية، حسب غرانجي، في صورة أبنية عقلية حيث يرى بان نشاط العقل فيها يتراوح بين نموذجين معرفيين التفسير باعتباره كشفا موضوعيا، بوصفه نشاطا عقليا تأويليه يستخلص الدلالات والقيم، فالتفسير من وجهة نظر غرانجي مفاده كشف العلاقات المدروسة تنشأ عنها، وهذا المنهج التفسيري بطبيعة الحال يسلكه أو يسلك مساره العالم الفيزيائي، حيث يعمل جاهدا هذا الأخير على صياغة ثلة من الظواهر المعقدة في منظومة مبسطة من العلاقات تشكل هاته الأخيرة ترسيمة أو خطاطة صورية للظاهرة موضوع الدراسة، ولان كل تفسير سوء هذا سيتجاوز أو يتخطى نطاق العلم ليلتحق بركب الأسطورة والسحر، فهي لا تقف عند حدود التفسير بحيث لا يمكن تفسير الأفعال بل نسعى إلى فهمها، ومعنى هذا أننا نصبو إلى نقل إحساس أو تقدير أو انفعال ما بصورة حدسية، في هذا الصدد نجد بأن علماء النفس وعلماء الإجتماع ينزعون -عموما- إلى اختزال صياغاتهم الصورية للوقائع وردها إلى أوليات مستمدة من طبيعة الواقع المعيش ثم تقديم تأويل يرمي أو يهدف إلى فهم الفعل الإنساني، وبالتالي كان الفهم مشروعا لا محيد عنه ومن تم وجب القول أن الظاهرة الانسانية لا يمكن تفسيرها تفسيرا سببيا بالكشف عن العلاقات الثابتة والقوانين التي تنتظمها، هنا يستند غرانجي بفكرة أساسية مؤداها أن المعرفة أي معرفة الوقائع تتأسس على الفهم، حيث يرى بأن الفهم منهج يتيح إمكانية تأويل الظاهرة الإنسانية ودلالاتها، وعلى الرغم من ذلك نجد بأن غرانجي يكشف لنا عن محدودية منهج الفهم، حينما يستفيض في حديثه، ويقول: "المعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها ومقصرة فيها بان واحد" ثم إن الرغبة في فهم جميع الظواهر، تجنح بالمعرفة في متامات الأسطورة والسحر، من هنا يكشف لنا هذا الأخير عن حدود المقاربة التفهيمية وعوائقها الإبستيمولوجية في هذا الصدد يتضح لنا مليا أن غرانجي يصوغ أطروحته حول محدودية منهج الفهم في تمثل الأفعال الإنسانية، معتمدا على تقنيات حجاجية، وذلك لإثبات أطروحته وتعزيزها، كذلك يبرز لنا غرانجي موقف الفهم، ويرى بأن هذا الأخير مهما كان موقف مشروعا لا محيد عنه، فإنه، مع ذلك، يضع عائقا جسيما أمام فعالية العقل في العلوم الإنسانية...



في هذا الصدد نجد بأن جول مونرو يتساءل حول الفهم كمنهج تأويلي وأهميته في استخلاص دلالات الظواهر الإنسانية، على خلاف جيل غاستون غرانجي، يمنح مونرو للفهم قيمة أساسية تتمثل في استخلاص المعاني والدلالات من التجارب الوجودية المباشرة، فالخاصية المميزة لظاهرة الفهم هي البداهة والوضوح، وما يكون موضوع تفهم يكون على قدر من الوضوح وما يكون كافيا ومكتفيا بذاته، فمن المستحيل سيكولوجيا الشك في البداهة بل يتعين التسليم بها، فالبداهة تأخذ شكل معرفة مباشرة حالما عرضت لنا بوصفها بداهة، وكل محاولة نقوم بها لتأسيس البداهة على أساس الاستقراء هي محاولة ستفضي إلى تفويضها فالفهم حسب مونرو هو فعل معرفي مباشر بدون طرائق موضوعية.



لقد اعتمد بوبر على نقد الحتمية التاريخية كما تتجلى في العلوم الاجتماعية، إذ يرى أن النظريات العلمية لا يمكن التحقق من صحتها تجريبيا، ومن تم فإن معيارية علميتها تستمد من قابليتها للتكذيب أو قابليتها للرفض، ومن هنا فمعيار العلم معيار سلبي وليس معيارا إيجابيا في ظل السياق النقدي لمسألة العلمية في العلوم الانسانية نرى بأن جوليان فروند يضعنا في صلب النقاش التاريخي الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر، حول الفروق المنهجية والإبستيمولوجية التي تميز العلوم الدقيقة عن العلوم الانسانية، ولكي تثبت الأنتروبولوجيا- بوصفها علما إنسانيا مقارنة بالعلوم الدقيقة أو بالعلوم الانسانية الأخرى، قيمتها كعلم كان عليها أن تتوجه نحو موضوع شكل بؤرة للعلوم الإنسانية، وهو الثقافة.. بيد أن حداثة وجدّة الأنتروبولوجيا في الميدان لم تمنع علمائها من الاستفادة من المناهج العلمية التي سبقتها ومن ابتكار مناهج وطرق علمية جديدة تلائم موضوعاتها (مالينوڤسكيMalinowski)



يجيب "كلود ليفي ستروس" عن هذا السؤال الذي قد طرحناه سالفا متحفظ نوعا ما، حيث يرى أن تعبيرات العلوم الإنسانية فضفاضة، وتنبؤاتها غير أكيدة، فهي في وضعية إبستمولوجية حرجة تلزمها أن تكون وسط طريق بين التفسير والتنبؤ لأن موضوعها يستعصي على التعريف العلمي الدقيق الذي يسمح بتفسير الظاهرة المحددة، وبالتنبؤ بردود فعلها وتوجهاتها، ليس للعلوم الإنسانية إذن، من خيال آخر، إما أن تحدد موضوعها بشكل دقيق كالعلوم الحقة، فتفقره وآنذاك يمكنها أن تفسره، وإما أنها تحافظ عليه فتبقى في نصف الطريق بين التفسير والتنبؤ، بين المعرفة الخالصة من جهة والفعالية من جهة ثانية، في هذا المضمار يرفض "دلتاي" هيمنة نموذج العلوم الحقة على العلوم الإنسانية بالنسبة له تفهم ولا تفسير: فهي ظاهرة شمولية تخص إنسانا لا يعطى إلا كليا، ظاهرة يتداخل فيها ما هو نفسي مع ما هو اجتماعي، وتتأطر ضمن تاريخ يعتبر متفردا، إن المناهج الموضوعية التي تعتمد على المعايير الخارجية تعجز عن النفاذ إلى المعنى العميق لتجربة كلية تأخذ شكل "كل معيش". إن الفهم والتأويل هما اللذان يقودان إلى النفاذ داخل الحياة الدالة تأسيسا لما سبق نستشف من خلال التوثر القائم بين الفهم والتفسير أن الرهان الحقيقي هو رهان نموذجية العلوم التجريبية بالنسبة للعلوم الانسانية، فإلى أي حد يمكن الاستفادة من هذا النموذج؟ ألا يتعلق الأمر بمشكل زائف؟



-III- مسألة نموذجية العلوم الانسانية:



إن الخلاف حول نموذجية العلوم الانسانية بدأ يظهر خلال القرن التاسع عشر عندما بدأت العلوم الطبيعية تستقر، حينما بدأت الدعوة إلى دراسة العلوم الانسانية دراسة موضوعية واختيار النموذج العلمي المناسب لذلك، واعتبار الظواهر الانسانية كجميع الظواهر الفيزيائية يمكن أن نعتمد في دراستها على المنهج العلمي.



ومن هنا بدأت تظهر وجهات نظر متعددة سواء تعلق الأمر بالموضوعات التي تناولتها العلوم الانسانية أو بالمنهج المناسب لها.



وإذا كانت العلوم الفيزيائية تتناول بناء المادة والقوى التي تعمل في هذه المادة، فإن العلوم الانسانية تتناول بناء المجتمع والقوى التي تعمل فيه.



فما هو إذن النموذج العلمي الملائم للعلوم الانسانية؟ وهل يمكننا دراسة الظاهرة الإنسانية بنفس الكيفية التي ندرس بها الظاهرة الفيزيائية؟ أم هناك نموذجا آخر للعلمية مناسب لدراسة هذه الظاهرة، وإذا اعتمدنا المنهج العلمي كنموذج لدراسة الظاهرة الإجتماعية ألا يكون الأمر أصعب مما نتوقع باعتبار أن السلوك أو الفعل الإنساني هو فعل ذو معنى وبالتالي فالظاهرة الانسانية هي ظاهرة معقدة.



يضعنا النص الذي كتبه الفيلسوف والمنطقي المعاصر جان لادريير Jean Ladrière 1921 أمام إمكانيتين في تناول ودراسة الظاهرة الإنسانية، تتمثل الإمكانية الأولى في المنهج الذي يتبعه دوركهايم والذي يستمد جذوره من الفلسفة الديكارتية، ويندرج هذا المنهج في إطار ما يمكن تسميته بالمنهج أو الاتجاه الوضعي أو الطبيعي، هذا الأخير الذي يؤكد على وحدة المنهج بين كل من الظواهر الفيزيائية والظواهر الإنسانية معتبرا أن الشروط المنطقية المتوفرة في الظاهرة الفيزيائية تتوفر كذلك في الظاهرة الإنسانية، وبالتالي فالظاهرة الانسانية يمكن اعتبارها كشيء ودراستها دراسة موضوعية من خلال وضع ذات الباحث وما يرتبط بها من دلالات وقيم...بين قوسين.



في مقابل هذا الاتجاه نجد الاتجاه الذي يقر به الفيلسوف ماكس ڤيبيرWeber Max 1864، والذي يمكن تسميته بمنهج الفهم الذاتي الذي يهدف إلى فهم وتأويل الظاهرة الانسانية أو السلوك الإنساني من أجل الوصول إلى مسار هذا السلوك ونتائجه معتبرا أن كل سلوك هو ببساطة الأمر سلوك هادف، أي أنه يتجه نحو تحقيق أهداف وغايات معينة، ومن هنا يكون لكل سلوك إنساني غايات وأهداف تحددها الذات.



يقف جان لادريير موقف إشكال إزاء كلا التوجهين المعتمدين في دراسة الظاهرة الانسانية معتبرا أننا إذا اعتمدنا التوجه الأول (المنهج الوضعي) ستكون إزاء تشييء الظاهرة الإنسانية، وبالتالي سنجدها من كل ما يرتبط بها من مقاصد ونوايا ودلالات وقيم وغايات التي تتحكم في الفعل الإنساني وتكون موجها له، وفي المقابل إذا اعتمدنا التوجه الثاني (منهج الفهم الذاتي) في دراسة السلوك الإنساني، ألا نكون متقيدين إزاء ذلك المنظور الذاتي وبالتالي نفتقد للموضوعية التي تسعى تحقيقها في كل دراسة.



يقف لادريير موقف تساؤل من كل ذلك ويعتبر أنه بإمكاننا أن نعتمد في دراسة الظاهرة الإنسانية والاجتماعية نموذجا للعلمية يختلف على نظيره في مجال العلوم الفيزيائية دون وضع تمييز بين الظاهرة الفيزيائية والإنسانية، وهذا المنهج يكون ملائما للظاهرة المدروسة، وإذا كان جان لادريير يقر بضرورة إيجاد نموذج للعلمية مناسب للظاهرة المدروسة وتكييفه معها، فإن الفيلسوف الفرنسي إدغار موران Edgar Morin1921 ، يميز بين ضربين في المعرفة الانسانية، الخطاب السوسيولوجي الذي يطمح إلى بلوغ قدر أكبر من الموضوعية من خلال تحرره من الثقل الميتافيزيقي، واعتماده المنهج العلمي، وبالتالي فإن هذا النوع من السوسيولوجيا يحتل الصدارة بالمقارنة مع أنماط الخطاب السوسيولوجي الأخرى، ويتخذ هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي النموذج الفيزيائي كنموذج أمثل بالنسبة له، وباعتماده المنهج العلمي، وبالتالي فإن هذا النوع من السوسيولوجيا يمثل الصدارة بالمقارنة من أنماط الخطاب السوسيولوجي الأخرى، ويتخذ هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي النموذج الفيزيائي كنموذج أمثل بالنسبة له، وباعتماده المنهج العلمي، فهو يهتم بتحديد القوانين والقواعد التي تؤثر في الظاهرة المدروسة من خلال العلاقات السببية، مستبعدا كل ما يتعلق بشروط الملاحظة وكل ما يرتبط بذات الباحث، أي كل ما هو خارجي بالنسبة للظاهرة المدروسة.



وهناك خطاب سوسيولوجي آخر يتقابل مع النمط الأول من الخطاب السوسيولوجي، وهذا الخطاب يسميه إدغار موران بالسوسيولوجية الإنشائية فكيف يحددها لنا إدغار موران؟ وما مدى الصلاحية الإبستمولوجية للنموذج الفيزيائي في هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي والذي سماه بالسوسيولوجيا الإنشائية؟ وما هو الأساس الإبستمولوجي لهذا النوع من السوسيولوجيا؟ وما هو التصور الجديد الذي أعطاه موران من خلال هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي؟



يعتبر إدغار موران أن السوسيولوجية الإنشائية هو نمط من أنماط الخطاب السوسيولوجي المعاصر، لكنه لم يتحرر بعد من الثقل الميتافيزيقي والتأمل الأخلاقي، بل أنه لا زال محتفظا بالنظر التأملي في جوهر الموجودات ، فهو يفترض وجود ذوات أو قوى فاعلة تساهم وتؤثر في الظاهرة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق فلا يمكن اعتماده على النموذج الفيزيائي وبالتالي على المنهج العلمي مما يجعله يفتقر إلى الموضوعية.



إن هذا النمط من السوسيولوجيا تحضر فيه ذات الباحث بشكل كبير في موضوع البحث، لكن حضور الذات هنا ليس بالمفهوم الميتافيزيقي، فالذات تحضر بكونها أساسا بيولوجيا، هذا التغير في مفهوم الذات الذي دشنت له البيولوجيا يجعل من الإنسان موجودا يضع ذاته وسط عالمه وبالتالي فالإنسان يصبح متضمنا في الظاهرة المدروسة أي أنه يصبح ذاتا وموضوعا في آن واحد، ويتجاوز كل تعال عن عالمه الذي يعيشه .



ويخلص موران إلى أن السوسيولوجيا رغم تشبثها بالعلمية ومحاولة تطلعها للنموذج الفيزيائي فإنها تبقى مرتبطة بالذات حيث لا يمكن عزل الظاهرة أو الموضوع المبحوث ودراسته بصورة تجريبية هذا يعني أنه مهما حاولنا موضعة الظاهرة الاجتماعية فإن ذات الباحث تبقى حاضرة بشكل واع أو بدون وعي في الموضوع المدروس.



لكن هل هذا الوجود لذات الباحث في الظاهرة المدروسة قد يؤثر بشكل سلبي من الناحية الموضوعية؟ وكيف تساهم الذات في تحديد الوضع الإبستمولوجي للعلوم الانسانية؟



يعتبر كل من طولرا ووارنيي أن العلوم الانسانية حديثة النشأة (ق19) وأن مجالها اعقد من مجال العلوم الطبيعية، إذ أن هذه الأخيرة نعتمد في دراستها على التجربة الدقيقة الشيء الذي يجعلنا نخلص إلى نتائج يقينية، أما بالنسبة للعلوم الانسانية فإننا قد نجد بعض الصعوبات في ذلك، ومنه فإن حضور الذات داخل الظاهرة الانسانية أو حضورها كذات وموضوع في نفس الآن أمر يسهل علينا التعامل معها ودراستها، ذلك لان الذات تكون على علم كامل بكل ما يحيط بها وما يصيبها أحيانا من تناقض ومن تغيرات مفاجئة وتلقائية، ولذلك فإن الابستمولوجيا المعاصرة تركز بشكل كبير على حضور الذات في دراسة الظاهرة الانسانية، وذلك بهدف الإحاطة بشكل كامل بالموضوع .



يعتبر الفيلسوف موريس مرلوپونتي من خلال كتابه " فينومينولوجيا الروح" أن للتجربة الذاتية أهمية كبرى في دراسة الظاهرة الانسانية بحيث أن كل معرفة يتوفر عليها الفرد ويكونها عن العالم فهي معرفة ناتجة عن احتكاك الذات بهذا العالم ومدى تفاعلها داخله، هذا الأخير الذي يختلف من شخص لآخر حسب التجربة الفردية، ويخلص هذا الفيلسوف إلى أن اعتماد المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة الانسانية هو حذف ونسيان للعالم المعيش، وللتجربة الذاتية ولذلك ينبغي العودة إلى الإنسان باعتباره مولدا للمعنى ويعيش في عالم رفقة الغير.



إن هذا النقاش الإبستمولوجي حول نموذجية العلوم الانسانية وحول مدى صلاحية المنهج العلمي في دراسة الظاهرة الانسانية وكذا تداخل الذات والموضوع في دراسة الفعل الإنساني، فرض ضرورة اتخاذ السوسيولوجيا والتعريف بها وتحديد منهجها وموضوعها للإحاطة بشكل أكبر بالظاهرة الانسانية، ومعرفة الصعوبات التي يواجهها دارسها.



VI- نموذج السوسيولوجيا:



يمكن تصنيف العلوم إلى صنفين علوم طبيعية موضوعها الطبيعة كمادة أو كظاهرة جامدة أو كظاهرة حية وعلوم اجتماعية موضوعها الإنسان كفرد أو كعضو في جماعة أي علاقته بالآخرين وفي حالة اندماجه بالمؤسسات الاجتماعية التي يتأثر بها ويؤثر فيها وهذا الميدان يختص به علم الاجتماع باعتباره الدراسة المنسقة التي تدرس الإنسان ككائن اجتماعي لاكتشاف حقائق جديدة تكون قابلة للتحقيق من صحتها ويعبر عنها بواسطة قوانين. إلا أن الحديث عن علم الاجتماع كعلم قائم بذاته أي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يطرح مجموعة من الإشكاليات سواء على مستوى بناء الموضوع أو على مستوى تحديد المنهج أو على مستوى المكانة التي تحتلها النظرية في علم الاجتماع، وتندرج هذه الإشكاليات حول إمكانية عملية العلوم الاجتماعية أو استحالتها ويمكن صياغتها في الأسئلة التالية:



· ما هي طبيعة الظاهرة الاجتماعية؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا وموضوعا في نفس الآن؟



· ما هو المنهج المتبع في دراسة الظواهر الاجتماعية؟ هل يصبح الحديث عن التفسير كأس الدقة العلمية أم أن وظيفة علم الاجتماع تنحصر في فهم الظواهر لا في تفسيرها؟



· ما هي طبيعة النظرية السوسيولوجية؟ وهل يمكن الحديث عن نظرية شاملة في علم الاجتماع؟



· إلى أي حد يمكن تحقيق الموضوعية في علم الاجتماع وهل يستقيم الحديث عن خطاب علمي في دراسة الواقع الاجتماعي؟



أ‌- موضوع علم الاجتماع:



إن الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الطبيعية المتميزة بالثبات وبالوجود الخارجي المستقل عن الإنسان، فهي ظاهرة معقدة يتداخل أكثر من عامل في تحديدها، كما أنها ظاهرة واعية يتدخل فيها عنصر الوعي البشري ويؤثر فيها الشيء الذي كان وراء تأخر العلوم الاجتماعية، إلا أن الأمر يعتبر موضوع نقاش لدى علماء الاجتماع فريمون آرون يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الظاهرة الاجتماعية معتبرا أن أهم ما يميز علماء الاجتماع هو صعوبة تحديد موضوعهم إلا أنه يرى أن علم الاجتماع كعلم قائم بذاته يجب أن يتحرى الدقة والضبط العلمي كما يجب أن يحدد الظواهر التي تشكل موضوعه الخاص وتميزه عن باقي العلوم الأخرى كالعائلة والطبقة الاجتماعية والعلاقات بين أقسام الواقع السياسي والاقتصادي...وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي إميل دور كايم حيث حاول إعطاء علم الاجتماع الطابع الخاص الذي يميزه وذلك من خلال تحديد معنى الظاهرة الاجتماعية كموضوع خاص بعلم الاجتماع، فدور كايم يرى أنه قبل البحث عن المنهج الذي يلائم دراسة الوقائع الاجتماعية يجب معرفة هذه الوقائع والتعامل معها كأشياء منفصلة عنا كأفراد واعين، كما يرى أن الظواهر الاجتماعية تتميز على السواء وليس للفرد الحق في اتباع هذا النظام الاجتماعي أو الخروج عليه، وأن المجتمع قد وضع الجزاء لكل من ينحرف سلوكه عما اقتضته طبيعة الحياة الاجتماعية، إلا أن موقف دور كايم من الظواهر الاجتماعية كأشياء مستقلة عن الذات الواعية قد أثار انتقادات كثيرة من طرف علماء الاجتماع مثل لوسيان غولدمان الذي ناقش تصور دور كايم وانتقد موقفه حول طبيعة بناء الظاهرة الاجتماعية معتبرا أن التعامل مع الظاهرة الاجتماعية كشيء يصعب تحقيقه من الناحية الإبستمولوجية نظرا لخصوصية هذه الظاهرة ولاستحالة تجرد الباحث في علم الاجتماع من المفاهيم القبلية والإملاءات اللاواعية.



هكذا وانطلاقا مما سبق نجد تباينا واضحا في ضوء إشكالية الموضوع في علم الاجتماع فهناك من يقول بإمكانية تشييء الظاهرة كما هو الشأن في العلوم الطبيعية وهناك من يجد صعوبة في تحديد الظاهرة الاجتماعية بطريقة منهجية دقيقة نظرا لتداخل الذات بالموضوع في دراسة الواقع الاجتماعي الشيء الذي ينعكس بطريقة مباشرة على إمكانية تطبيق المنهج العلمي في العلوم الاجتماعية.



ب: منهج علم الاجتماع.



لقد تبلور المنهج العلمي وتجدر في البحوث الفيزيائية والطبيعية قبل أن ينتقل إلى البحوث الاجتماعية لينتشر على أوسع نطاق، حيث بات أداة لفهم واقع المجتمعات وجسر وعلاج لمشاكلها وذلك بفضل محطاته التقنية التي من خلالها يتعامل الباحث مع الواقع كواقع أي كما هو لا كما ينبغي أن يكون ملاحظة أو تجربة أو مقارنة أو مقارنة أو استقراء فتعميم والمعجم الفلسفي العربي عرف المنهج بأنه "الطريق الواضح في التعبير عن شيء أو في عمل شيء تعليم شيء طبقا لقوانين معينة وبنظام معين بغية الوصول إلى غاية معينة" ويمكن القول بوجه عام أن المنهج أو المناهج هو الطريقة التي يسلكها الباحث للإجابة عن الأسئلة التي تثيرها المشكلة موضوع البحث، إلا أن تطبيق المنهج في البحث الاجتماعي يعتبر موضع نقاش بين علماء الاجتماع مما يفسر تعدد المناهج واختلافها وهنا مارسيل موس يرى أن المواضع تتعدد في علم الاجتماع بقدر ما تتعدد الموضوعات التي يدرسها الباحث الاجتماعي، فبالرغم من أن دوركايم حاول وضع المنهج الذي ينبغي لعلم الاجتماع أن يتبعه ألا وهو المنهج الوضعي فإنه من غير الممكن وضع صياغة نهائية أو منهج قار في علم الاجتماع ولحل إشكالية المنهج في علم الاجتماع نجد جون لادريير يقدم تصور إبستمولوجي يصرح فيه الاحتمالات الممكنة لحل هذه الإشكالية وذلك من خلال إمكانية تكوين نموذج جديد للعملية خاص بالعلوم الاجتماعية مادام أن باب تاريخ المعرفة العلمية لم يغلق وأن التاريخ لازال ينتظر من العلوم الاجتماعية خاصة والعلوم الإنسانية عامة إغناءه بتجربتها ومنهجها، وإذا كانت العلوم الطبيعية تطورت عبر اعتماد المنهج الرياضي فلا يعني هذا ضرورة انطباق هذا المنهج على العلوم الاجتماعية واعتباره منهج نهائي ومطلق بل يمكن للعلوم الاجتماعية أن تشكل نموذجا ثانيا للمعرفة من خلال مناهج وأدوات أصيلة للتحليل والبحث. ويمكن اعتبار المنهج التفهمي كنموذج ثاني للعملية في علم الاجتماع مع ماكس فيبر الذي يعتبر من أكبر علماء الألمان الذين أسهموا في إنشاء علم الاجتماع من خلال دراسته للأفعال والسلوكات الإنسانية بشكل يختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية وهنا يأخذ فيبر بعين الاعتبار موقع الذات العارفة في دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر غائية ومحدودة بهدف مقصودة وبحوافز ممكنة وتقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي. وماكس فيبر في هذه السوسيولوجيا التفهمية يفترض أنه بإمكاننا أن نجد في ذواتنا دوافع كل فرد إنساني وبالتالي فمهمة السوسيولوجيا هي الفهم بواسطة تأويل الفعل الاجتماعي لتمكن بعد ذلك من تفسير تطورات وتأثيرات هذا الفعل بطريقة علية ولا نقصد بالعلية من تشييء الظواهر بل تفهم المعنى الذي يعطيه الإنسان لسلوكه. وفي مقابل هذا المنهج التفهمي الذي يقوم على الفهم والتأويل نجد مع إيان كريب منهج مغاير يقوم على التحليل والتفسير في دراسة الفعل الاجتماعي وهناك نوعين من التفسير حسب إيان كريب تفسير آلي يفسر الظاهرة الاجتماعية بالرجوع إلى أسبابها الفاعلة أي بالرجوع إلى الشرط اللازم كحدوث الظاهرة المدروسة وتفسير غائي يأخذ بعين الاعتبار النوايا والغايات في تفسير أفعال الفاعلين فالإنسان لا يقوم بالفعل ولا يتخذ قرار إلا وفق حسابات ومقاصد معينة.



بوجه عام يمكن القول أن هناك مقاربات متعددة وتصورات مختلفة تندرج في إطار النقاش الإبستمولوجي المعاصر حول إمكانية اعتماد المنهج التفهمي أو المنهج التفسيري فهناك من أكد على أهمية الذات في بناء المعرفة وهناك من فصل الظاهرة عن إطارها الذاتي إلا أن هناك موقف ثالث مع جان كلود بابييه يجمع بين الاتجاهين ويضع السوسيولوجيا في وضعية وسط بين الفهم والتفسير.



هكذا يمكن القول ومن جانب آخر أن محاولة تحديد مناهج العلوم الاجتماعية بالرغم من اختلافها وممارستها في البحث السوسيولوجي هي أولا وأخيرا طريقة للأخذ بالتفكير في التعريف بالواقع الاجتماعي. وعليه وبالجملة فإن مناهج العلوم الاجتماعية هي ضرورة حياتية بالنسبة للمجتمعات وأداة للعلاج والإصلاح والتطوير سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع الاجتماعي.



ج- النظرية في علم الاجتماع.



تعتبر النظرية وحدة أساسية في نسق التفكير العلمي، إذ لا وجود لعلم بغير نظريات علمية ولا يمكن أن يتطور بدون تنظيرات علمية. فالنظرية بمعناها العلمي مقولات ومفاهيم تكون في علاقة جدلية مع الواقع تتطور به ويتطور بها ويكون الواقع هو المحك العلمي لتأكيد مصداقيتها وعلميتها فهي "بناء تصوري يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة" وإجمالا يمكن القول بأن النظرية هي ذلك الإطار التصوري القادر على تفسير عالم الظواهر والعلاقات بغاية البحث عن العلل والأسباب وفهم الواقع الاجتماعي. وفي مجال السوسيولوجيا نجد أن النظرية الاجتماعية بالرغم من التقدم الذي عرفته فهي تبقى قاصرة على الإحاطة بالظواهر الاجتماعية فقدرتها على التفسير والتنبؤ أقل مصداقية وصرامة من حال النظرية في العلوم الطبيعية ومن هنا نتساءل عن طبيعة النظرية السوسيولوجية وأشكالها.. بل وإلى أي حد يمكن تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية؟



لقد عرف علم الاجتماع نظريات سوسيولوجية متعددة وأنتوني غدنزيري أن مجال النظرية في علم الاجتماع هو مجال خصب وأن الطريقة التي تتم بها دراسة العالم الاجتماعي تختلف من عالم اجتماع إلى آخر فإذا اهتم ماركس بدور القضايا الاقتصادية في تفسير المجتمع فإن ماكس فيبر أخذ بعين الاعتبار دور الذات في تفسير السلوك الاجتماعي أما دوركايم الذي كان له أثر واضح في تطور النظرية السوسيولوجية فقد تعامل مع الواقعة الاجتماعية كشيء بعيدا عن كل الآراء الشخصية. هكذا نجد أن لكل من ماركس وماكس فيبر ودوركايم زوايا مختلفة الشيء الذي يفسر ظهور نظريات اجتماعية متباينة ومن أهمها حسب أنتوني غدنز المدرسة الوظيفية، نظرية الفعل الاجتماعي ثم الفاعلية الرمزية. وإذا أردنا أن نلقي نظرة حول هذه التوجهات النظرية لمعرفة خصائصها وحدودها يمكن أن نقول أن المدرسة الوظيفية أو التحليل الوظيفي يستند إلى فكرة الكل الذي يتألف من أجزاء. كل جزء يقوم بأداء دور وهو معتمد في هذا الأداء على غيره من الأجزاء الأخرى ومن هنا يقوم التكامل والتساند الوظيفي بين الأجزاء بعضها البعض أو بين الأجزاء والكل لتحقيق توازن هذا الكل واستقراره ومن ثم استمراره. ويعد دوركايم رائد المدرسة الوظيفية فهو يمثل المجتمع بالكائن العضوي ويرى أن أجزاء المجتمع تتكامل وتترابط كما هو الحال بالنسبة لأعضاء الجسم البشري لهذا يجب أن ننظر إلى الظواهر في إطار التفاعل والترابط بدلا من النظائر إليها كظواهر منفصلة، أي مدى إسهام أي عنصر اجتماعي أو ثقافي في بقاء المجتمع واستمراره وتكامله واستمراره ونأخذ كمثال هنا أن دور القلب في استمرار حياة الكائن العضوي شبيه بدور كل تكوينات المجتمع في استمراره ودوامه وكذا استقراره وتوازنه باعتبار أن التوازن الاجتماعي هو الحالة الطبيعية للمجتمع.



في اتجاه آخر يمكن أن نقول أنع إذا كانت المدرسة الوظيفية تنطلق من دور البنى والأنساق الاجتماعية في تحقيق التوازن الاجتماعي فإن نظرية الفعل الاجتماعي تؤكد دور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع في تكوين هذه البنى الاجتماعية وماكس فيبر في تعريفه للفعل الاجتماعي يؤكد على مستويين أو اتجاهين لفهم السلوك الاجتماعي وهما المستوى الفردي والمستوى الجمعي بمعنى فهم الفعل الاجتماعي من وجهة نظر الفرد صاحب هذا السلوك ومن وجهة نظر الفرد كعضو في الجماعة، فالفعل لا يصبح اجتماعيا إلا إذا ارتبط المعنى الذاتي الذي يعطيه الفرد للفعل بسلوك الأفراد الآخرين. وهنا تركز نظرية الفعل الاجتماعي على الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى وعلى الدور الذي يلعبه الفعل الاجتماعي في تكوين البنى الاجتماعية. وقد تطور هذا التوقف بصورة منهجية على يد المدرسة التفاعلية الرمزية مع الفيلسوف الأمريكي ميد من خلال تأكيدها على اللغة والرمز باعتبار أن اللغة هي الوسيلة التي تمكننا من معرفة ذواتنا كما يرانا الآخرون وأن الرمز هو الأساس الذي تقوم عليه مجموع عمليات التفاعل بين الأفراد وهذا التفاعل يتم عن طريق تبادل رموز وإيماءات شفوية وغير شفوية متواضع عليها من طرف مجتمع معين. هكذا يمكن القول أن كل من المدرسة الوظيفية ونظرية الفعل الاجتماعي والتفاعلية الرمزية لها منظورها الخاص في دراسة المجتمع يختلف بشكل أو بآخر عن النظريات الأخرى وهذا الاختلاف حسب أنتوني غدنز لا يعبر عن مواطن الضعف في علم الاجتماع بل هو دليل على خصوبة النظريات السوسيولوجية وحيويتها ومهما اختلفت هذه النظريات فإن علماء الاجتماع يتفقون على أن الباحث يجب أن يضع حدا لآرائه الشخصية وأن يتعامل مع الظواهر بشكل موضوعي لكن هذا لا يعني أن علم الاجتماع هو جهد فكري تجريدي بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع وبالمواقف التي يواجهها الفرد في حياته. وإجمالا يمكن القول أن العلاقة بين النظريات السوسيولوجية هي علاقة ترابط وتكامل فميرتون عندما يتحدث عن التاريخ المعاصر للنظريات السوسيولوجية يتحدث عنه من توجهين مختلفين الأول ينطلق من بناء نظريات شاملة عن طريق صياغة قوانين سوسيولوجية وتعميمها على الظواهر الاجتماعية دون الاهتمام بالملاحظات الجزئية أو المستويات الصغرى من الواقع الاجتماعي والثاني يعتمد على بحوث جزئية حول وقائع مخصصة والتأكد من صحتها عن طريق الملاحظة والاختبار. هكذا نجد أن ميرتون يلخص تاريخ النظرية السوسيولوجية في اتجاهين هما السوسيولوجية الشمولية والنظرية الاختبارية وكل من هذين التوجهين يعطينا نظرة عن طبيعة النظرية السوسيولوجية وكذا طبيعة علم الاجتماع باعتباره يجد صعوبة كبيرة في تطوير نظرية شاملة وقارة وأمام هذا التعدد النظري نجد إيان كرين يفكر في النظرية الاجتماعية ضمن تصور إبستمولوجي ينظر إليها من خلال أربعة أبعاد: بعد معرفي بوصفها أداة لمعرفة العالم الاجتماعي وعاطفي تتدخل فيها التجربة الشخصية للمنظر الاجتماعي باعتباره إنسان إضافة إلى كونه عالم اجتماع يؤثر في الواقع الاجتماعي ويتأثر به مما ينعكس على طبيعة تصوره للواقع ثم تأملي بوصفها جزء من الحياة تعكس ما يوجد خارج المجتمع وداخله وأخيرا بعد معياري لا تقتصر على ما هو كائن بل على ما يجب أن يكون. وكل هذه الأبعاد الأربعة تساهم في بناء النظرية السوسيولوجية وذلك لفهم واستكشاف مناحي الحياة. وفي نفس السياق نجد بيار أنصار يحاول بدوره توضيح الجدل القائم حول صحة علمية العلوم الاجتماعية وصحة النظريات والنتائج المتوصل إليها. من خلال التمييز بين ثلاثة أبعاد في النظرية السوسيولوجية وهي البعد الإبستمولوجي والبعد النظري والبعد المنهجي أي من خلال معرفة الشروط العلمية لإنتاج المعارف والنظريات العلمية ومدى صحة محتواها النظري وتقنياتها المنهجية.



بالرغم من التقدم الذي عرفته النظرية الاجتماعية فإنها تبقى قاصرة على الإحاطة بالظواهر الاجتماعية موضوع البحث فقدرتها على التفسير والتنبؤ أقل مصداقية وصرامة وبالتالي أقل يقينية من حال النظرية في العلوم الطبيعية بل هناك من يعتبر النظرية في العلوم الاجتماعية مجرد تقليد نظري لمفهوم النظرية في العلوم الحقة ومثل هذا القول لا يطعن في الصفة العلمية للنظريات الاجتماعية ولا في صحة النسبية لحقائقها التي تبقى مقتصرة على الظواهر المدروسة وأزمنتها وأمكنتها وسواء كانت النظرية في ميدان العلوم الاجتماعية تفسيرا أو تفهما فإنها تظل محاولة لتكوين صورة أو نموذج عقلي للواقع الاجتماعي المعقد بطبيعته.



-״- تخــــريج عـــــام-״-



رهــــانــات



بناء على ما سبق يمكن القول أن المعرفة العلمية بالإنسان شكلت مكسبا حضاريا جعل الإنسان يصبو إلى التعرف على أبعاد وجوده الاجتماعي والنفسي وكذا التاريخي، كما يرمي إلى بناء حقيقة علاقته مع ذاته ومع الغير والعالم. كما لعبت المعرفة دورا أساسيا أو جوهريا إن صح التعبير في تحرير الإنسان وتخليصه من بعض الأوهام ثم كسر المألوف والخروج عن المعتاد أي تحطيم زجاجة الظلال والدغمائية، خصوصا مع تبني نموذج العلوم التجريبية الذي أثبت نجاحه، بيد أن تبني النموذج يطرح سؤال إمكانية استيعاب الإنسان فعليا داخل نظرية علمية هنا يتبادر إلى أذهاننا بعض التساؤلات لا يمكن طرحها في هذا السياق على المنوال التالي



ألا يمكن القول إن معرفة الإنسان بذاته وبغيره تنقلت من القياس والتنبؤ؟ وإذا كان العلم الموضوعي قد تجاهل الإنسان ونسي المعيش، فهل نعتبر هذا النسيان أو التجاهل مبررا كافيا لرفض العلم التجريبي ومناهجه؟ هل نتحفظ بشأنه أم نطلبه بدعوى قدرته على الفهم والتفسير؟



إن مجتمعنا اليوم، هو في حاجة أكثر من أي وق مضى إلى أن يعرف نفسه علميا وموضوعيا، لكن ألا تواجه هذه الحاجة الملحة إلى اليوم، عوائق ثقافية وإيديولوجية؟ ما مكانة العلوم الانسانية في ثقافتنا؟ أين تتجلى صور ومظاهر هذه العلوم؟ هل يمكننا أن نستنتج معرفة علمية ببنية مجتمعنا المغربي؟.



مع تحيات موقع تفلسف tafalsouf.t35.com



لائحة المـراجــــع المعتمدة



أهم المراجع باللغة العربية



* مباهج الفلسفة



* منار الفلسفة



* في رحاب الفلسفة



السنة الثانية سلك البكالوريا- مسلك الآداب والعلوم الانسانية



- د.محمد سعيد فرح، ما...علم الاجتماع



- ذ.عبد السلام مصباحي، المنهج العلمي في البحث الاجتماعي



- د. محمد عاطف غيث، دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع



* فوكو مشال،الكلمات والأشياء، ترجمة سالم يفوت، بيروت 1990.



* كلود ليفي ستراوس، الانتربولوجية البنيوية، طبعة 1996.



* صلاح قنصوة، الموضوعية في العلوم الانسانية، رسالة الدكتوراه.







أهم المراجع باللغة الفرنسية



- Foucault Michel, les mots et les choses, ed Gall 1966



- Edurkheim, Les règles de Méthode Sociologique, Sexième édition, 1912.



- Jean Piaget, Epistémologie des sciences de l’homme, ed Gall 1970.




دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : النظرية و التجريب

محاور الدرس




1) التجربة و التجريب.



2) العقلانية العليمة.



3) معايير علمية النظريات العلمية.
تقديم : إذا كانت الطبيعة بمختلف ظواهرها تشكل موضوعا للعلم ، فإن العلم في حد ذاته ، من حيث مناهجه و نتائجه و تحولاته ، شكل موضوعا للفلسفة ، حيث تخصص فيه فرع من فروعها يسمى * الإبستيمولوجيا * و الذي اهتم بالدراسة النقدية للمعرفة عموما و العلوم خاصة ، و من بين ما اهتم به في دراسته للعلوم التجريبية هو مفهوم * النظرية و التجريب * و ما يرتبط به من إشكالات الواقع و العقل و المنهج و المفاهيم . و هي قضايا تطرق إليها الفلاسفة و تفرقوا إلى مذهبين إزاء الإشكال الرئيسي المرتبط بمصدر المعرفة ، ماهو مصدر المعرفة هل العقل أم التجربة ؟ حيث تزعم "رونيه ديكارت" المذهب العقلاني الذي انتصر للعقل ، و تزعم "فرانسيس بيكون" المذهب التجريبي المؤيد للتجربة. و تطور هذا النقاش في القرن التاسع عشر مع انفصال العلوم عن الفلسفة بموضوعاتها و مناهجها، حيث ظهرت نزعة اختبارية ترجح أساس المعرفة العلمية الى التجربة و المنهج التجريبي ، لكن سرعان ما ستصير متجاوزة بفعل تحولات أفضت إليها الاكتشافات الجديدة . فما هي التجربة و ما علاقتها بالنظرية ؟ و هل التجربة الحسية المباشرة هي مصدر النظرية العلمية أم أن مصدرها هو التجريب العلمي الممنهج ؟ و الى أي حد استطاع التجريب في استقلال عن العقل اقامة نظريات علمية ؟ و ما امكانية اقامة عقلانية علمية ؟ وما معايير تحقق عملية النظريات العلمية ؟




I. التجربة و التجريب:



1- التجربة : يمارس الناس جميعا التجربة خلال حياتهم اليومية، بفعل احتكاكهم المباشر بالواقع عن طريق الحواس، إذ يتوصلون عادة إلى أفكار تدخل في نطاق الحس المشترك و التمثلات العامية. و تتسم هذه الأفكار بالتلقائية و الذاتية و الخضوع للأحكام المسبقة و المتسرعة، إنها التقاط لما يظهر للعيان في الملاحظة المباشرة و الساذجة . فلا يمكن إدخال هذه التجربة في مجال العلم، لأن نشأة العلوم كان بإبعاد هذا النوع من التجربة و تاسيس ممارسة منظمة و دقيقة تتجاوز الطابع المباشر و السطحي و الذاتي للتجربة العادية، بالاعتماد على التجريب .



2- التجريب : ارتبط ظهور التجريب كممارسة علمية بتخصص كل علم بموضوع محدد و منهج خاص به ، حيث تأسست العلوم على قواعد و مبادىء منظمة تقود إلى نتائج مضبوطة .



فالطبيعة تحكمها قوانين لا تظهر بشكل تلقائي و مباشر للإنسان الا اذا اعتمد منهجا دقيقا و منظما، و اشتغل بطريقة مخبرية تمكن من عزل الظاهرة المدروسة و فرزها عن العوامل المتشابكة حولها و التي تعوق معرفة قوانين الظاهرة بشكل واضح.



لقد ظهر المنهج التجريبي في صيغته الكلاسيكية مع العالم الفرنسي * كلود برنار* ( 1813-1878) الذي استفاد من التراكم العلمي و المنهجي الذي خلفه غاليلي و نيوتن و بيكون و ستوارت ميل. حيث وضع * كلود برنار* في كتابه ْالمدخل لدراسة الطب التجريبي ْ 1865. قواعد المنهج التجريبي في خطوات أربعة هي : الملاحظة و التجربة و الفرضية و القانون.



أ‌- الملاحظة : هي أول خطوة منهجية في عمل العالم، تختلف عن الملاحظة العادية لكونها لا تعتمد على العين المجردة إلا في حدود ضيقة جدا، و تكون في أغلب الأحيان مجهزة بآلات و أدوات علمية، يقول ك. برنار : < لكي تكون معاينة الظاهرة معاينة سليمة يستخدم الملاحظ كل الأدوات التي من شأنها جعل ملاحظته للظاهرة ملاحظة أكثر شمولية > و يشترط في الملاحظة أن تكون موضوعية مرتبطة بالظاهرة المدروسة بعيدا عن رغبات و ميولات الملاحظ الذي يجب أن يكون كآلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة حيث يجب أن يلاحظ دون أي فكرة مسبقة . تعد الملاحظة لحظة إصغاء موضوعية و محايدة ينتقل بعدها العالم إلى وضع الفرضيات، فما هي الفرضية ؟ و ما موقعها في المنهج التجريبي ؟



ب‌- الفرضية : هي فكرة مؤقتة يقترحها العالم لتفسير ظاهرة معينة، و تشكل استدلالا عقليا ينطلق من الملاحظة و يقود إلى التجربة، فإذا أكدت التجربة صحة الفرضية أصبحت قانونا و إذا تبين خطأها استبدلت بفرضية أخرى، يشترط في الفرضية أن تكون قابلة للتحقق التجريبي و نابعة من الظواهر المدروسة و لا تتناقض مع ذاتها.



ت‌- التجريب: هو الخطوة الثالثة من خطوات المنهج التجريبي، يقوم فيها العالم بالتدخل في الظاهرة المدروسة، أو يصطنعها في المختبر بتوفير شروطها الأساسية، و عزلها عن العوامل و المتغيرات الأخرى، من أجل تحديد طبيعة العلاقات بين الظواهر المتدخلة في إنتاج الظاهرة المدروسة. ولإضفاء طابع الحتمية و الضرورة على نتائج التجربة، يشترط فيها أن تكون قابلة للتكرار كلما توفرت نفس الشروط المخبرية، و يتحقق فيها مفهوم العزل كي يتم التمييز بين عوامل الظاهرة المدروسة و غيرها، و إمكانية التحكم في الشروط التي تحدثها و إدخال شروط جديدة، كما ينبغي أن تكون نتائج التجربة قابلة للتعميم على ظواهر من نفس النوع و تنتج في نفس الظروف.



د- القانون: هو – العلاقة الثابتة بين ظاهرتين أو أكتر – إذ يكون هدف العالم من الملاحظة و الفرضية و التجربة ، هو معرفة تلك العلاقة الثابتة ، و تحديد الشروط الموضوعية القائمة بين ظاهرتين أو أكثر. و المتضافرة في إنتاج الظاهرة المدروسة ، حيث متى توفرت نفس الشروط نتجت عنها تلك الظاهرة، مثل تبخر الماء في حرارة مائة درجة ، فالتبخر كظاهرة طبيعية يمكن أن نحدثه في المختبر متى وفرنا شروطه الثالية : الماء+ حرارة مائة درجة. إذ يكون القانون حتميا معبر عنه في صيغ فيزيائية مثل : H²O التي نعبر عن الماء.



IIالعقلانية العلمية:



لقد أفضت العلوم المعاصرة في القرن العشرين إلى اكتشاف ظواهر و علاقات ميكروسكوبية يصعب تحديدها كأشياء لها خصائصها المميزة الثابتة نسبيا، و يتعذر تعيينها في الزمان و المكان، و ظهرت نظريات جديدة ( مثل نظرية النسبية لأنشتاين) لا تعتمد التجربة الإمبريقية بمفهومها الكلاسيكي، و لكنها تتوصـــل الى نتائجها عن طريق المعادلات و الخطاطات الرياضية المجردة، فلم تعد التجربة مرجعا لأختبار صدق الفرضيات أو كذبها، و لا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت عبارة عن إنشاءات عقلية حرة.



و من هذا المنطلق أكد – ألبيرت اينشتاين – 1879 1955 أن الإبداع العقلي هو الأساس النظري للفزياء المعاصرة. فالنظرية هي نسق تتكامل فيه المفاهيم و المبادئ الصادرة عن العقل، و لا يكون للتجربة إلا دورا ثانويا يكمن في مطابقة القضايا الناتجة عن النظرية، و توجيه العالم إلى اختيار بعض المفاهيم الرياضية التي يوظفها، في حين أن العقل هو الذي يمنح النسق بنيته، على نحو رياضي خالص. إذ يقول اينشتاين : - ان المبدأ الخلاق في العالم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي -



لقد اقتضت ضرورة التطورات الطارئة في العلوم المعاصرة إعطاء العقل و التجريد الرياضي مكانة متميزة في مواجهة النزعة الإختبارية الكلاسيكية ، مع ذلك سيضل التجريب حاضرا بقوة في مناهج العلوم، مما فرض ضرورة إيجاد إطار نظري يحدد العلاقة بين التجربة /الواقع و النظرية / العقل. و في هذا السياق جاء الإبستمولوجي الفرنسي * غاستون باشلار* بمفهوم العقلانية المطبقة ، و هي عقلانية يتم فيها تركيب دقيق بين العقل و الواقع، فالتجربة كما تصورتها المذاهب التجريبية كمصدر وحيد للبناء النظري للعلم أصبحت متجاوزة، و العقل كما تصورته العقلانية الديكارتية كمستودع للأفكار قبلية، معزولا عن الواقع بذاتة صار طرحا متجاوزا أيضا. لأن العقلانية العلمية هي عقلانية مطبقة لا ينفصل فيها العمل التجريبي عن النشاط العقلي، حيث يتحدد العقل العارف مشروطا بوضوح معرفته لكي تكون النظرية العلمية نتاج حوار دقيق ووثيق بين العقل و الواقع.



III- معايير علمية النظريات العلمية:



أمام تعدد النظريات بتعدد حقول المعرفة و تقاربها أو تقاطعها، و أمام انهيار النموذج الكلاسيكي للمنهج العلمي، طرح السؤال، ما معايير علمية النظريات العلمية ؟ 1-) معايير التناسق المنطقي:



يرى * دوهيم duhem* (1861-1916) أن النظرية الفزيائية هي " نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ" إذ أن تناسب النظرية مع التحليل الرياضي عموما هو احد المعايير التي تؤكد عمليتها ، و لذلك يشترط فيها أن تكون الفرضيات و التعريفات التي تنطلق منها محددة بشكل واضح، و أن تخضع لتناسق منطقي باحترام مبدأ عدم التناقض سواء بين حدود كل فرضية، أو بين الفرضيات المعتمدة في النظرية ككل، كما يشترط في النظرية معيار التناسق بين مختلف المبادئ و الفرضيات التي تقوم عليها حسب قواعد التحليل الرياضي، و تتخذ التجربة في الأخير لكي تقارن مع القضايا المستنبط رياضيا ، للتأكد من مدى صحتها أو خطأها.



2-) معيار تعدد الاختبارات:



إن فاعلية النشاط العلمي هي فاعلية دينامية و شاملة ، تتجدد معها النظريات و المفاهيم و تتغير معها نظرة الإنسان إلى العقل و الواقع، و لما كان استمرار العلم مرتبط بتجدد تصوراته و نتائجه، يرى " بيير تويليي" أنه وجب على العالم لكي يحقق عملية نظريته أن يخضعها باستمرار إلى فرضيات إضافية و أن يكرر اختباراته لكي تحافظ من جهة على تماسكها المنطقي الداخلي ، و كي تخرج أيضا من عزلتها التجريبية بانفتاحها على فروض نظرية جديدة. فتعدد الإختبارات هو معيار عملية النظرية و علامة قوتها .



3-) معيار القابلية للتكذيب/ التزييف:



قدم " كارل بوبر " تصورا يتجاوز مفهوم الحتمية الذي عرفته الفيزياء الكلاسيكية ، مؤكدا أن معيار عملية النظريات العلمية لا يتحدد فيما تقدمه من يقينيات و حتميات بقدر ما يتحقق قي قابلية تلك النظرية للتفنيد و التكذيب، و أن تضل مفتوحة على إمكانية الإختبار مجددا. فالطابع التركيبي و الشامل للنظرية الذي يتعدى حدود التجربة و لا يكتفي بنتائجها، يجعل من المتعذر التحقق من صدق أو كذب النظرية بواسطة التجربة، لذلك فمعيار الحكم على النظرية بأنها علمية، هو قابلية منطوقها و بنائها النظري للتفنيد أو التكذيب . فعلى النظرية أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها.



مع تحيات موقع تفلسف tafalsouf.t35.com



************



*********



**



2-إعداد : عبد الخالق السلواني، عبد الحفيظ الريح، لحسن عبود.



تـــقـــديـــم



يقصد بالمعرفة كل بناء منهجي يعتمد على قدرات عقلية ومهارات فكرية، ويتم هذا البناء من قبل الذات في علاقتها بالموضوع، وعليه فكل بناء معرفي هو نتيجة لهذه الجدلية القائمة بين الذات والموضوع ومعيار تق ÿÿ;يمه م&#ÿÿ78;نوع، قد يكون الواقع وقد يكون الفكر النظري أو هما معا، وتنقسم المعرفة إلى علمية وغير علمية، فالأولى تخضع لبناء إستنباطي يحكمه الاتساق والإنسجام بين مقومات وقوانين نظريته، والثانية هي كل معرفة ناتجة عن التمثل المشترك، وتفتقد لخصوصية البناء المنظم ونموذجها السحر، الشعوذة...



تحديد مجال المفهوم:



تعتبر النظرية بناء فكري إستباطي يحكمه الاتساق والإنسجام، يعتمده العالم الباحث للإجابة عن مجموعة من الطروحات والفرضيات التي تشكل موضوع إهتمامه، وتتصل النظرية أيضا بالممارسة والتطبيق وبالمجال العلمي بشكل عام، وفي كلتا الحالتين تأخذ النظرية معنى، إنتاج فكري تركيبي وصفي موجه للتطبيق والتأثير في الواقع، وبهذا فهي تحمل عدة أبعاد، بعد واقعي يهم الموضوع الذي تتولى وصفه، وتفسيره وبعد تقني يرتبط بمجموع الإجراءات والعمليات التي تحيط بإنتاجها، ثم بعد قيمي يتعلق بمدى صدقها وتماسكها. مقابل هذا التحديد للنظرية يمكن التساؤل ما التجربة؟



يشير لفظ التجربة، إلى مجالات عديدة ومتنوعة، فهي تشمل المعارف والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة بالواقع، كما تعني اكتساب القدرة على الإتقان، أما في مجال المعرفة العلمية فتعتبر الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها العالم التجريبي لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.



من هذا المنطلق، يعتبر مفهوم النظرية والتجربة مفهوم معقد وإشكالي، فما دلالة كل من النظرية والتجربة؟



من الدلالة إلى الإشكالية:



يحمل مفهوم النظرية في التمثل المشترك معاني القول والحكم والرأي، والنظرية حسب هذا التمثل تكون إما سلبية أو إيجابية، سلبية إذا لم يسندها الفعل والعمل وإيجابية إذا تحولت إلى أداة للفعل والعمل وجلب المنافع، وبهذا يتبين أن التمثل المشترك ازدرى التنظير واحتقره، مما يبرز مدى قصوره ومحدودية أفقه.



وبالانتقال إلى المجال اللغوي العربي نجد أن لفظ النظرية اشتق من كلمة النظر التي تفيذ المشاهدة الحسية العيانية، أما اصطلاحا وفي لسان العرب لإبن منظور تفيد النظرية معنى الترتيب والنظام؛ "ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى إستعلان ليس معلوم". بينما في اللسان الفرنسي نجد كلمة نظرية théorie اشتقت من العبارة الإغريقية théoria التي تعني النظر والمشاهدة الحسية، فضلا عن استخدام التأمل العقلي. وعلى المستوى الفلسفي اعتبر لالاند أن النظرية بمثابة "إنشاء تأملي للفكر،يربط نتائج بمبادئ"، ليستخلص من هذا التعريف أن النظرية عقلية، وبذلك فهي تتقابل مع الممارسة والتطبيق.



أما مفهوم التجربة فيحمل في التمثل المشترك معاني الإحتكاك والإرتباط بالواقع التي تسمح للفرد، باكتساب خبرة معينة في مجال معين، (تدريس، بناء......) أما في المجال العلمي فتعني القيام بخطوات منظمة من طرف العالم لإستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة المدروسة، وتعني عند كلود برنار؛ ملاحظة من الدرجة الثانية، أما عند لالاند فيفيد لفظ التجربة "بمعنى عيني وتقني أكثر؛ فعل الإختبار".



ومن هذه الدلالات المتباينة والمختلفة، يتبين إلى أي حد يعتبر مفهوم النظرية والتجربة معقدا وإشكاليا، وهذا ما يحفزنا على إثارة التساؤلات التالية:



هل هناك تداخل بين النظرية والتجربة؟ وما علاقة هذه الأخيرة بالتجربة؟ وما دور كل من العقل والنظرية في بلورة النظرية العملية؟ وماهي معايير صحة النظريات العلمية؟.



المحور الأول: التجربة والتجربة.



لقد شكلت التجربة الخام والملاحظة العامية في تاريخ العلوم عائقا إبستيموجيا حال دون تقدم المعرفة العلمية، لكن وبفضل مجهودات مجموعة من العلماء الذين عملوا على بناء نظريات علمية متميزة عن بادئ الرأي والحس المشترك، الذي ينتج عن التجربة الحسية المباشرة، والخبرات الذاتية، أما النظريات العلمية فتقوم على التجريب العلمي، هذا الأخير حسب كويري عبارة عن مساءلة منهجية للطبيعة قائمة على لغة رياضية.



بالإضافة إلى هذا، يقترح كلود برنار جملة من الشروط التي ينبغي توفرها في العالم التجريبي، والتي يعتبرها ضرورية في بلوغ التجربة العلمية، وأكثر من هذا نجده يميز بين الملاحظ والمجرب، على المستويين النظري و العلمي، فعلى المستوى النظري؛ إن الملاحظ لايستدل أما المجرب فيستدل على الوقائع المكتسبة أما على المستوى العلمي لايمكن التفريق بينهما، لأن الباحث هو نفسه الملاحظ والمجرب.



فالنظرية إذن ليست شيئا آخر، عدا التجربة العلمية المراقبة من طرف التجربة غير أن التجريب



وحده أحيانا يبقى عاجزا عن إكتشاف الأسباب الظاهرة، لذلك يقترح روني طوم، إكمال الواقعي بالخيال كتجربة ذهنية، لايمكن لأي جهاز آلي أن يعوضها.



نستنتج مما تقدم، أن التجربة بمفهومها العلمي، لعبت دورا مهما في بناء المعرفة العلمية وفي الوقت ذاته، إحداث قطيعة إبستيمولوجية مع التجربة بمفهومها العامي، كما عملت على إثارة جملة من التساؤلات أهمها: ما هي الأسس التي تقوم عليها كل من العقلانية الكلاسيكية والمعاصرة؟.



المحور الثاني: العقلانية العلمية:



إن الخوض في العقلانية العلمية يدفعنا بالضرورة إلى التمييز بين تصورين لهذه العقلانية، أحدهما يقوم على أسس عقلانية كلاسيكية تتميز بالثبات والإنغلاق والآخر يقوم على أسس عقلانية معاصرة، قوامها الإنفتاح والتغير كما يرى باشلار، ومنه نتساءل؛ هل العقلانية العلمية قيد وإنغلاق أم حرية وإنفتاح؟ وبتعبيرآخر، هل هي مضمون ومحتوى،أم نشاط وفعالية؟



إن إرتباط ميلاد العقل الحديث بالشك الديكارتي وبالنقد الكانطي، لم يمنع فلاسفة هذه المرحلة، أسوة باليونانيين، أن ينظروا إلى العقل نظرة مطلقة ثابتة، غير أن العقل حسب ج.ب فيرنان، يبقى في الأول والأخير عبارة عن ظاهرة بشرية خاضعة لشروط تاريخية تفرض عليه وبالضرورة، التقلب والتغير حسب هذه الشروط، وعليه فإن العقل محايث للتاريخ البشري في جميع مستوياته، وبالتالي لايمكن القول بوجود تصور مطلق للعقل، وفي نفس الطرح يرى محمد أركون أن العقل البشري سيرورة من التطورات، بدءا من العقل القروسطوي اللاهوتي الذي كان يغلب عليه طابع التفسير الديني، مرورا بالعقل الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة، وصولا إلى العقل النسبي الذي يؤمن بالتقدم والتطور.



أما صاحب النظرية النسبية أ.إينشطاين فيؤكد على أهمية البناء الرياضي الخالص في إكتشاف القوانين التي تسمح بفهم الظواهر الطبيعية، فالمبدأ الخلاق حسب تعبيره يوجد في العقل الرياضي.



بناء على هذا، فقد أصبح العقل العلمي المعاصر يتميز بالنشاط والفعالية حسب أولمو وباشلار، فهذا الأخير يعطي الأهمية للحوار بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، فلم يعد بذلك العقل منعزلا في بناء مفاهيمه وطروحاته العلمية، بل لابد من يقين في وجود الواقع في قبضة العقل، ويقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظاتها. فهذا اليقين المزدوج أساسي لقيام التجربة.



من جهة أخرى، وجه بعض الإبستيمولويين المعاصرين البحث في منحى آخر، حيث فحص رايشنباخ علاقة العقلانية العلمية بالنزعة المثالية، فاستنتج أن كل معرفة تترفع وتتعالى عن الملاحظة والتجربة هي معرفة روحية تأملية، أقرب إلى التصوف منه إلى العلم، لأنها تتعالى عن أهم خاصية في العقلانية العلمية، ألا وهي التجربة. وفي إطار الحديث عن خصائص العقلانية التجريبية، يرى روبير بلانشي أن هذه العقلانية ليست لها نزعة إختبارية تعكس معطيات التجربة بشكل آلي ميكانيكي، كما أنها ليست منظومة من القواعد الثابتة.



إنطلاقا من هذا التعدد في المواقف نخلص إلى أن العقلانية المعاصرة المنفتحة ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة لسيرورة من التراكمات والتحولات التي عرفعها التاريخ البشري، مما يفتح المجال أمام طرح إشكالية صحة معايير النظريات العلمية.



المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية.



لقد أدى تعدد المناهج العلمية والمقاربات المتباينة للموضوع الواحد إلى تعدد معايير صحة النظريات العلمية وكذا تباين مواقف العلماء والابستمولوجيين، فما هي أهم هذه المعايير؟ وماهي أهم الإختلافات الموجودة بينها؟



يرى عالم المناظر الحسن بن الهيثم، أن للنقد وظيفة أساسية لبناء المعرفة العلمية، مؤكدا على أنه ينبغي على كل ناظر في كتب العلماء أن يموقع نفسه كخصم لكل ما ينظر فيه، فلا يتحامل عليه ولا يتسامح معه.



بالإضافة إلى هذا، يوضح دوهايم أن معيار صدق وصلاحية النظرية العلمية يتطلب وجود توافق بين الأحكام والقوانين التجريبية، إذ إن "الإتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة"، غير أن هذا التحقق التجريبي من وجهة نظر توييلي، لايعطي دلائل قاطعة، مؤكدا على ضرورة تنويع الاختبارات التجريبية، والمقارنة بينها، لأن تأكيدات التجربة تكون جزئية ومعرضة دائما للمراجعة، ومن ثم فالإختبارات المتعددة ضرورية لإخراج النظرية من عزلتها وربطها بنظريات أخرى.



غير أن التجربة بالمعنى الكلاسيكي، لم تعد تمثل منبع النظرية، ولم تعد قيمة النسق تستند على التطابق الحاصل بين معطيات التجربة و نتائج النظرية. فكيف يمكننا القول بعلمية النظرية الفيزيائية؟



جوابا على هذا السؤال يرى إينشتاين، أن البناء الرياضي الخاص هو الذي يمكننا من إكتشاف المفاهيم والقوانين، فالمبدأ الخلاق حسب هذا العالم، يوجد في الرياضيات، أما كارل بوبر فيرى أن معيار صحة النظريات العلمية، هو القابلية للتكذيب، هذه الأخيرة هي التي تميز بين النظرية التجريبية والنظرية اللاتجريبية، فما دمنا لا نستطيع وصف كيف يأتي التنفيذ لنظرية ما، فإنها تعد خارج مجال العلم التجريبي، لكنها تظل غير فارغة من المعنى أو كاذبة، لأن معيار القابلية للتكذيب يمكن أن نطلق عليه القابلية كإختبار آلة لتبيان العيب فيها، ومن ثم فالنظرية التي لا عيب فيها تبقى نظرية غير قابلة للاختبار.



هذه القابلية تمر بخطوات أساسية يحددها بوبر في ما يلي:



1- إتساق النتائج وتماسكها.



2- صورنتها منطقيا ليتبين هل هي علمية أم تيولوجية.



3- مقارنة النظرية قيد البحث مع نظريات أخرى ومعرفة هل حققت الأولى تقدما بالمقارنة مع النظريات الأخرى.



4- القيام بتطبيقات تجريبية على بعض النتائج المستخلصة من تلك النظريات، هذا الإجراء الأخير هو إجراء إستنباطي.



نستخلص من هذه المواقف والأطروحات، أن أي نظرية علمية هي حوار دائم بين البناء الرياضي ومعطيات التجربة، لكن هذا الحوار لا يحسم في تركيب بشكل نهائي، فعلاقة النظرية بالتجربة علاقة متحركة متغيرة، والعلم المعاصر لا ينظر للعقل البشري باعتباره إناء أو وعاء يشتمل على مضامين أو أفكار أولية ( أرسطو، ديكارت،لايبنيتز) أو باعتباره مشكلا من مقولات محددة (كانط)، بل باعتباره نشاط وفعالية، ولعل هذا ما يجعل من الصعوبة - كما عبر باشلار- على أي إيبستيمولوجيا أن "تصف بنية نهائية للفكر العلمي..." .


رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيدعيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و ...

رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيد عيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و أبي وسائر اموات المس لمين 🤲 #اللهم_صل_وسلم_على_نبينا_محمد   #ال...