lunedì 7 marzo 2011

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : السعادة

محاور الدرس




1) تمثلات السعادة.



2) البحث عن السعادة.



3) السعادة و الواجب.

تـقـديـــم:




ليس يخفى، أن الفلسفة تنقسم إلى ثلاثة مباحث كبرى وهي : مبحث المعرفة ومبحث الانطولوجيا ومبحث القيم . ويطرح كل واحد من هذه المباحث جملة مفاهيم وإشكالات. ومن بين جملة تلكم المفاهيم التي يطرحها مبحث القيم، نلفي مفهوم" السعادة ". فما هي دلالة هذا المفهوم ؟



الدلالة المتداولة:



يتباين الناس في تمثلهم للسعادة، فمنهم من يرى السعادة في الصحة ، ومنهم من يراها في المال، ومنهم من يراها في الصداقة، ومنهم من يراها في راحة البال، ومنهم من يراها في تلبية كاملة للرغبات، وتحقيق المتعة في شتى أشكالها … والعلة في اختلاف الناس في تمثلهم للسعادة هو جانب النقص الذي يعاني منه كل إنسان، فالفقير يرى السعادة في المال، والمريض يرى السعادة في الصحة، والأعزب يرى السعادة في الزواج وهكذا…



هذا، ويلفت الانتباه في تمثلات الناس للسعادة، أنه يغلب عليها الجانب المادي الذي يقترن بما هو إرضاء للحواس.



الدلالة اللغوية :



أ‌- لسان العرب : ابن منظور



جاء في" لسان العرب" : سعد السعد بمعنى اليمن، وهو نقيض النحس. والسعود خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة . ونقول سعد يسعد سعدا وسعادة فهو سعيد ، نقيض شقي والجمع سعداء .



ويشتق من نفس الجدر ثلاثة ألفاض تشترك في نفس المعنى وهي : الساعد والسعدان والسعد.



فلفظ الساعد يدل أولا، على ساعد الإنسان أو الطير أو القبيلة : فساعدا الإنسان ذراعاه ، وساعدا الطائر جناحاه ،وساعد القبيلة رئيسها. ويدل ثانيا، على مجرى المياه ، فسعيد المزرعة نهرها الذي يسقها. ويدل ثالثا ، على مخرج اللبن في الناقة . أما لفظ السعدان فيدل على نبات ذي شوك من أطيب مراعي الإبل. وأما لفظ السعد فيدل على الطيب ذي الرائحة الزكية.



إن ما يمكن استنتاجه من هاته الدلالات هو :



أولا : اقتران السعادة بالإرضاء و الارتواء. فالنهر الذي يسقي المزرعة يرويها، ولبن الناقة يروي ويشبع صغيرها، ومنبت شوك النخل يشبع جوع الإبل، والطيب يشبع النفس برائحته العطرة.



ثانيا : اقترانها بالعضوين اللذين يدبران الجسد، وهما: الساعدان.



ومن هنا يكتسب اليمن دلالتين :



الأولى : تشير إلى ما هو مادي محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع.



الثانية : تومئ إلى ما هو عقلي، وتتمثل في التدبير، فعمدة المدينة وساعدها هو رئيسها وعقلها المدبر لشؤونها والمسير لها نحو ما هو أفضل لها. ولا يمكن في هذا السياق تصور سعادة بدون تعاون واجتماع.



يتضح من كل ما سبق، أن التعريف اللغوي للسعادة قد وسع من دلالتها، بشكل جعلها تنفتح على عنصر لا مادي، من طبيعة عقلية واجتماعية وسياسية تتعلق بالتفكير والتدبير.



الدلالة الفلسفية :



أ- المعجم الفلسفي : جميل صليبا [1]



السعادة هي الرضا التام بما تناله النفس من الخير. والفرق بينها وبين اللذة أن السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأن رضا النفس بها تام. إذ من شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تاما ودائما. في حين أن" اللذة " حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأن رضا النفس بها مؤقت .



وإذا كانت السعادة هي حالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للرغبات يتسم بالثبات، فانه متى سمت إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر، أصبحت غبطة . و إن كانت هذه أسمى وأدوم.



وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة: فمنهم من يقول إن السعادة هي في إتباع الفضيلة (أفلاطون)، ومنهم من يقول إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية المدرسة (القورينائية)، أما أرسطو فانه يوحد الخير الأعلى و السعادة ، ويجعل اللذة شرطا ضروريا للسعادة لا شرطا كافيا. وعين الأمر يقول به أبيقور الذي اعتبر اللذة هي غاية الحياة ، وان كان هو يقيم فروقا بين اللذات. أما الرواقيون فإنهم يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، وهي- أي السعادة- في نظرهم غير ممتنعة عن الحكم ، وان كان طريقها محفوفا بالألم .



ب‌- موسوعة لالاند الفلسفية : أندريه لالاند [2]



السعادة هي حالة رضا تام تستأثر بمجامع الوعي .



السعادة هي إرضاء كل الميول وإشباعها.



يتبدى لنا من كل ما سبق، أن مفهوم السعادة تتداخل فيه دلالات متباينة قاموسية وفلسفية وتمثلية .كما يلوح لنا أن هذا المفهوم تتقاطع فيه حقول مختلفة بيولوجية واجتماعية وسياسية وميتافيزيقية وسيكولوجية . فضلا عن أنه يتاخم جملة من المفاهيم الفلسفية الأساسية: كاللذة و الألم والفضيلة والخير الأعلى والعقل والنفس والسياسة والعدالة والخيال و الفطرة و المحاكاة و الواجب والغير و الإرادة …



هذا، ويطرح مفهوم السعادة جملة من الإشكالات من أهمها : ما هي السعادة؟ هل طلب السعادة غاية كل الناس ؟ ولماذا ؟ هل نطلب السعادة من أجل ذاتها أم من أجل أشياء أخرى ؟ ولماذا؟هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وبأية وسائل ؟ ما هي علاقة السعادة بالواجب ، هل هي علاقة تكامل أم علاقة إعاقة ؟ بمعنى أخر هل تكمن السعادة أساسا في أن نفعل ما نريد أم في انصياعنا للواجب والقانون ؟ هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير أم هما معا ؟



كل هذه الإشكالات التي أثارها مفهوم السعادة و أخرى، سنحاول التعرف على إجابتها من خلال نصوص بعض الفلاسفة الذين تناولوا هذا المفهوم تحديدا واستشكالا…



المحور الأول : تمثلات السعادة



تـقــديــــم :



يختلف الناس و الفلاسفة على السواء في تمثلهم للسعادة. فالعوام يربطونها بالثروة و الجاه و النفوذ و تحقيق المتعة في شتى أشكالها و عموما يمكن القول أن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة الجسدية. أما الفلاسفة فهم أيضا يختلفون في تمثلهم للسعادة ،فمنهم من يراها في علاقتها بالفضيلة و التأمل العقلي و منهم(فلاسفة الإسلام) من حاول التوفيق بين التأمل العقلي و ما هو ديني أي السعادة الاخروية ، و هناك من يرى أن كل هذه التمثلات حسية و جزئية ، أما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق ". و هناك من الفلاسفة من يعتبرها فردية و منهم من يعتبر أن السعادة لا تكون إلا داخل دولة . و آخرون يقولون بأنه من المستحيل أن نستدل على وجود السعادة بل يجب أن نعمل على تحصيلها فهي ممارسة .



أمام هذا التعدد في تمثل السعادة نجد انه لابد من طرح بعض الإشكالات :

*هل السعادة ممكنة ؟



* هل يمكن أن نستدل على وجودها ؟



*هل هي غاية كل الناس ؟



*هل يمكن بلوغها ،و بأية وسائل ؟



*هل نطلبها من اجل ذاتها أم من اجل أشياء أخرى ؟



الموقف الأرسطي :



إن الغاية من السياسة باعتبارها ،هي تحقيق الخير الأسمى الذي هو السعادة و هذا النعت للخير الأسمى بالسعادة يشترك فيه كل من العامي و الفيلسوف «فالعامي كالناس المستنيرين يسمي هدا الخير الأسمى سعادة»[3] إلا انه و على الرغم من هدا الاتفاق فإننا نجد أن هناك بونا شاسعا في تمثل المفهوم بين العامي و الفيلسوف و« انقسام الآراء هذا مرده إلى الاختلاف بشان طبيعة السعادة و أصلها» [4] فمتمثلات السعادة لدى الطبائع العامية تختلف من شخص لآخر فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال و العاشق يراها في الزواج من معشوقته . « إنها ليست إلا شيئا نافعا و مطلوبا لأشياء أخرى غير ذاتها» .[5]



أما الفيلسوف فهو يرى عكس ذلك فالسعادة عنده هي غاية بل غاية الغايات و هي تطلب لذاتها «ينبغي وضع السعادة بين الأشياء التي تختار من اجل ذاتها إذ هي قائمة بذاتها» [6] و كل الأشياء الأخرى إنما تطلب كوسيلة لتحقيقها« كل ما يمكن تصوره إنما يطلب من اجل ما عداه إلا السعادة إذ هي غاية بحد ذاتها » [7]



وعموما يمكن القول أن التمثل العامي يختلف عن تمثل الحكماء دلك أن التمثل العامي يغلب المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة لدلك يرى أرسطو انه« لا يوجد ..إلا ثلاثة صنوف من العيشة يمكن على الخصوص تمييزها .أولها هده العيشة التي تكلمنا عليها انفا (عيشة العوام) ،ثم العيشة السياسية أو العمومية ،و أخيرا العيشة التأملية و العقلية» و يرتبط بكل نوع من هده العيش ثلاث أنواع من السعادة، فأما العيشة الحسية وهي سعادة اللذة الجسدية ، لذة الطعام والشراب والجنس وهي لذة يشترك فيها الإنسان والحيوان ، وهي سعادة وقتية ولو طلبت لذاتها لأدى ذلك الإسراف فيها ، ثم إلى فقد الإحساس باللذة ثم تنتهي إلى الألم والمرض ، فتحققها ليس من السعادة بشيء ، أما الثانية فهي السعادة السياسية مطلوبة من الكثير من الناس ، ولكنهم ما يلبثوا أن يشعروا بالتعاسة عندما يفقدوا مراكزهم ، ويعرفوا أن الناس كانوا يعظمونهم لأجل الوظائف التي يمثلونها وليس لأشخاصهم ، كأن هذه السعادة وقتية وهي متوقفة على الناس يمنحونها ويسلبونها وفقاً للمركز الشخصي لا للقيمة الذاتية ، إذاً هي ليس خير في حد ذاتها وليس دائمة فقد يعقبها الإهمال والتحقير . السعادة الثالثة هي السعادة العقلية فهي التي ترمي إلى تحقيق الفضيلة باعتبار أنها العمل بمقتضى الحكمة ، والحكمة ملكة عقلية تكتسب بالتمرين والتعود على طلب الحق والخير الصحيح وفضائل الحكمة عملية ونظرية ، وتبين لنا الحكمة العملية أن الفضيلة قوة تكتسبها عن طريق ممارسة أعمال تتوفر فيها الإرادة الحرة والمعرفة والنزوع إلى الخير . وإذا بحثنا عن الفضائل نجد أنها تقع في الوسط ما بين المغالاة " الإفراط " والتقصير "التفريط " مثل الشجاعة وسط بين رذيلتين هما التهور والجبن ، والكرم وسط بين الإسراف والبخل والعدل وسط بين المحاباة والظلم ، وتحكم العقل والإرادة في تعيين الفضيلة يتم عن طريقهما الممارسة الواقعية للفضيلة ، فإذا عود الإنسان نفسه أن يتلمس الفضيلة دائماً ويقوم بها فإنها تصبح طبيعة فيه يتجه إليها من دون تردد وبذلك تتحقق له السعادة .



موقف ابن مسكويه :



يحاول ابن مسكويه تقديم التمثلات السائدة عن السعادة لدى كل من الحكماء و العوام و هو اد يُفصل في هدا فيقول إن الحكماء من أمثال فيتاغورس و بقراط و أفلاطون لما قسموا السعادة جعلوها كلها في قوى النفس ،أي القوى الثلاث : القوة الغضبية،القوة الشهوانية ،و القوة العاقلة القوة الشهوانية التي تحرك الإنسان إلى ما يشتهيه أو يجذبه من الملذات والخيرات. والقوة الغضبية التي تحركه إلى "الغضب" عدوانا أو دفاعا أو نجدة. والقوة الناطقة العاقلة وهي التي يحصل بها التمييز والروية والتفكر. ولكل من هذه القوى فضيلتها: ففضيلة النفس الشهوانية العفة، وفضيلة النفس الغضبية النجدة، وفضيلة النفس العاقلة الحكمة. ومن اعتدال هذه الفضائل الثلاث ومن نسبة بعضها إلى بعض تحدث فضيلة رابعة هي كمالها وتمامها وهي العدالة و اجمعوا على أن« هده الفضائل هي كافية في السعادة و لا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن و ما هو خارج البدن»[8] و بالتالي فالسعادة عندهم هي سعادة نفس و« سائر الأشياء الخارجة عنها ،فليست عندهم بقادحة في السعادة البتة»[9]



أما الرواقيون فجعلوا السعادة في النفس غير مكتملة إذا لم تقترن بالجسد أو حتى ما هو خارج الجسد هدا بخلاف المحققين من الحكماء الدين لا يربطون السعادة بما هو خارج الجسد فيعتبرونها تابثة لا تتغير و لا يلحقها زوال و لاتغيير .



أما العامة فتختلف طبائعهم في تمثل السعادة بحسب حاجياتهم ،فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال والغريب في العودة لوطنه و عموما يمكن القول إن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة . و الحكماء يرون أن كل هذه التمثلات سعادة و لكن شريطة أن تكون «عند الحاجة و في الوقت الذي يجب و كما يجب و عند من يجب، فهده سعادات كلها، و ما كان منها يراد لشيء أخر ؛فلذلك الشيء أحق باسم السعادة »[10] فالمريض مثلا يجد السعادة فيما يحتاج إليه و هي الصحة .



موقف الفارابي :



لما كان المقصود من الوجود الإنساني بلوغ السعادة عن طريق إدراك المعقولات او المبادئ التي يتاسس عليها وجود الكون و الإنسان ثم كانت هده المعقولات لدى جميع الناس أصحاب الفطر السليمة و التي « يسعون بها نحو أمور و افعلا مشتركة لهم ؛ ثم بعد دلك يتفاوتون و يختلفون فتصير لهم فطر تخص كل واحد و كل طائفة »[11] لزم عن اختلاف الفطر عدم قدرة كل إنسان على أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة و لا ان يعملها ،فوجب بدلك ضرورة وجود معلم أو مرشد يرشده إلى الكيفية التي تمكنه من ان يجعل السعادة غايته ثم « يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعملها حتى ينال بها السعادة»[12] و تبعا لاختلاف الفطر جب على المعلم أن يسلك طرقا مختلفة باختلاف الطوائف و الأمم ،فقد يتم ذلك بطرقة نظرية خالصة (الخاصة) أو بطريقة تعتمد على المحاكاة كفن للتبليغ و التخييل (العامة).



الموقف الأفلاطوني :



ليست السعادة حسب أفلاطون شأنا شخصيّا بقدر ما هي قضيّة تتعلّق بالمدينة ككلّ وبالتّالي لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. «إننا لم نستهدف في تأسيس دولتنا جلب السعادة الكاملة لفئة معينة من المواطنين و إنما كان هدفنا أن نكفل اكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها »[13] السٌعادة بالنٌسبة لأفلاطون عندئذ هي سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالانسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الشهوانية. فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة….إلخ. أما إذا لم يحترموا هدا النظام فإننا « نحض حراسنا و حماتنا بالوعد أو نرغمهم بالوعيد كما نفعل مع غيرهم من المواطنين على أن يؤدوا على خير وجه ما يصلحون من الوظائف»[14] فبدلك تتحقق العدالة و تزدهر الدولة و بازدهار هده الأخيرة« وعندما تزدهر الدولة بأسرها... نترك لمكل طبقة أن تتمع بالسعادة على قدر ما تؤهلها لذلك الطبيعة » [15]



الموقف الكانطي :



يحاول كانط في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق " و بالضبط في النص الماثل أمامنا أن يحدد العلاقة التي تربط السعادة بالعقل و الخيال . بمعنى هل نتمثل السعادة بالعقل أم بالخيال. و كمحاولة للإجابة عن هدا السؤال يرى كانط أن تصور السعادة لا يمكن أن يكون بالعقل بل بالخيال،كيف ذلك ؟ إن "جميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة ..لزم أن تستعار من التجربة " إما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق " ما معنى ذلك؟



إن أمر السعادة ينصب على الوسائل الضرورية لانجاز هده الغاية ،ذلك لأنه ينجم تحليليا من الغاية التي يسعى إليها الإرادة ،تبعا للصيغة التي غدت قولا مأثورا :من يروم الغاية ،يروم الوسائل (تبعا للعقل)اللازمة للوصول إليها و التي هي في مقدوره و بالتالي فجميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة هي في جملتها عناصر تجريبية ،أي انه يلزم أن تشتق من التجربة . أما عندما نريد أن نتحدث عن فكرة السعادة فإننا نحتاج إلى كل مطلق ،إلا أننا نجد انه من المستحيل للإنسان ككائن متناه ،محدود بحدود التجربة « أن يكون لنفسه تصورا محددا لما يبغيه هنا على الحقيقة »[16] هل يريد حياة طويلة ؟ فمن يضمن له إلا تكون شقاءا طويلا و بالتالي فمن الصعب عليه أن حدد كيف يكون سعيدا . فليس ثمة في هذا الشأن أمر يمكنه أن يقرر بالمعنى الدقيق للكلمة أن نفعل ما يجعلنا سعداء « دلكم لان السعادة هي مثل أعلى لا للعقل بل للخيال»[17] فلا يمكن انطلاقا من نتائج هي في الواقع لامتناهية أن نعطي تحديدا للسعادة .



موقف ( إميل شارتي) ألان :



يعتبر ألان أن الأمل في السعادة هو السعادة ،ألان أن الأمل في السعادة لا يعني أن ننتظر السعادة لتأتي الينا و صوبنا ،ولا يعني كذلك استحالة الحصول عليها او بلوغها ،و لا انها وهم ،بل يعني هدا أن " نعمل على تحصيلها الآن[18] دلك أن « السعادة ليست شيئا نطارده بل هي شيء نتملكه ،و خارج هدا التملك فهي ليست سوى لفظ» [19] إلا أن هدا التملك للسعادة مشروط بالرغبة في أن نكون سعداء ،لدلك يجب على المرء « أن يطلب سعادته و أن يصنعها »[20] إن ألان يؤكد هنا وخاصة في كتابه "PROPOS SUR LE BONHEUR" ان السعادة لا تتوقف على العالم الخارجي او المحيط بالشخص و إنما يتوقف على الشخص ذاته أي أن فعل السعادة لا يتحقق إلا بالإرادة .دلك أن تحقيق السعادة لا يتأتى إلا بالصراع ضد المعيقات التي تحول دون ذلك و لا يجب الاعتراف بالهزيمة طالما لم نتجاوز هذه المعيقات .*[21]







المحورالثاني : البحث عن السعادة.



تـقــديــــم :



يطرح هذا المحور الثاني من درس السعادة،إشكالين اثنين رئيسيين وهما : بأي شكل تكون السعادة ممكنة ؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وإذا كان الجواب بالاجاب ، فما السبيل إلى تحقيقها ؟ وعن هذين الإشكالين الرئيسيين تتفرع جملة من الإشكالات الفرعية : هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟ ما علاقة السعادة بالزمن ؟ هل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟ وما علاقتها بالفنون والذوق؟…



موقف سينكا :



يطرح سينكا في هذا النص إشكال ماهي الكيفية أو الوسيلة التي من خلالها يمكننا تحقيق الحياة السعيدة ؟ فإذا كانت السعادة هي مبتغى الناس أجمعين في هذه الحياة ، فما هي الكيفية التي بواسطتها نستطيع أن نحصلها؟ بيد أنه لاحظ أنه بمجرد ما يطرح هذا السؤال حتى تختلط علينا الأمور. وحتى يزول هذا الخلط على الإنسان- في نظر سينكا- أن يحدد هدفه بكل دقة، ثم بعد ذلك ينظر في كل الاتجاهات عن السبيل الكفيل بأن يقوده إلى تحقيق هدفه بأقصى سرعة، هذا الطريق أو السبيل الذي ينبغي أن يكون مستقيما حتى نتمكن من أن نعرف كل يوم كم تقدمنا وكم اقترفنا من هدفنا ، هذا الهدف الذي تدفعنا نحوه الرغبة اللازمة لطبيعتنا. و حتى نتمكن من اختيار الطريق المستقيم الذي وحده سيقودنا إلى تحقيق هدفنا علينا أن نستعين بإنسان خبير أو مرشد حكيم يكون سبق له وأن اختبر الهدف الذي نقصده . هذا ، ويحذرنا سينكا عند عزمنا السفر بحثا عن السعادة أن نسلك الطريق الأكثر استعمالا. إذ هو الأكثر تضليلا ،وما هذا السبيل الأكثر استعمالا إلا طريق أو سبيل العامة,بل بالضد من ذلك، علينا أن نبتعد عن طريق المحاكاة ،أي الاستقلال عن الطريق الذي تتبعه العام في تحصيل السعادة وإتباع طريق" العقل". [22]



موقف أبيقور :



إن المتأمل في هذا النص بأجل نظر وأدقه، يتبدى له أن أبيقور يطرح فيه قضية السعادة في علاقتها بمبدأ اللذة .هذه القضية التي يمكن صوغها في اشكلين اثنين وهما: هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟



يجيب أبيقور عن الإشكال الأول بالا جاب فيقول : " إن اللذة هي مبدأ الحياة السعيدة وغايتها ". بمعنى أخر أن تحقيقنا للذاتنا، وتجنبنا للألم- كما سيذكر في موضع آخر من النص-هو ما يجعلنا سعداء . وبهذا تكون السعادة عند أبيقور هي:" لذة تلحق النفس والجسد ". لكن، دون أن يعني هذا أن كل ا لذات تحقق لنا السعادة - من وجهة نظر أبيقور- . إذ من الذات ما يكون مفعولها عكسيا ، بمعنى أنه عوض أن تحقق لنا السعادة تتسبب لنا في الألم . والعكس صحيح ، فمن الآلام ما يكون وراء الصبر عليها تحصيل لذة أعظم. ومن هنا فلا ينبغي علينا أن نبحث عن كل اللذات وبالمقابل علينا ألا نتجنب كل ألآلام . هذا، ويشدد المذهب الأبيقوري على فضيلة القناعة ،أي أن نقنع بما نملك وان كان قليلا . إذ المتعة التي نجدها في تناول الطعام البسيط، ليست أقل من تلك التي نجدها في المآدب الفاخرة، بشرط أن يزول ألألم المتولد عن الحاجة . فقليل من خبز الشعير والماء يجعنا نشعر بلذة عظيمة إذا كانت الحاجة إليهما شديدة. والى جانب تشديده على فضيلة القناعة يؤكد أبيقور على العيش البسيط، دونما أن يعني ذلك التقشف. فالقناعة و العيشة البسيطة لهما أفضل ما يضمن لنا الصحة الجيدة ، وما ييسر لنا الاستجابة لمتطلبات الحياة الضرورية، كما أنهما يجعلننا عند وجودنا أمام ما لذ وطاب من الأكل، قادرين على التمتع بذلك حق التمتع. فتناول ما لذ وطاب من الأكل يوميا ينقص من لذة تمتعنا به. فضلا عن أن تشبثنا بفضيلة القناعة والعيشة البسيطة يجعلننا لا نخشى تقلبات الدهر .[23]



موقف شوبنهاور:



يطرح شوبنهاور في هذا النص إشكالين وهما : ما هو الأصل في هذا العالم؟ أهو الألم و العذاب أم المتعة و الإشباع ؟ وهل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟



يعتبر شوبنهاور أن حقيقة هذا العالم أو ماهيته هي الألم والعذاب و الحرمان ، أي أن الأصل في الحياة هو الألم والحرمان أم الإشباع و البهجة فهما ليسا سوى أمل عابر أمام الألم والعذاب والشقاء الدائمين. وشوبنهاور ينعت هذه السعادة غير الدائمة العابرة اللحظية بالسعادة" السالبة" ، لأنه سرعان ما يعقبها :"إما شرا مستجدا وإما فتورا وانتظارا" لسعادة لحظية عابرة أخرى .وإذا كان الأمر هكذا، فان هذا ما يفسر لنا عدم اكترتنا بما لدينا من ممتلكات وامتيازات ،لأن السعادة التي تمنحنا إياها ليست سوى إعفاءا لنا من بعض العذابات. ويدلل شوبنهاور على أطروحته بالفن وبخاصة الشعر، حيث نجد موضوع القصيدة الملحمية أو المأساوية لا يمكن أن يكون سوى شجارا أو جهدا أو معركة . وهذه المواضيع كلها تمثل الألم والشقاء الذي يتحمله الإنسان في سبيل تحقيقه سعادة سالبة، أي سعادة لحظية عابرة.



ومن كل ما سبق، نخلص إلى أن الأصل في الحياة بحسب شوبنهاور هو الألم والشقاء، وأن السعادة هي مجرد لحظات عابرة ، تتخلل بين الفينة و الأخرى هذا المسير من الألم والعذاب الذي يحكم حياتنا كلها.[24]



موقف دافيد هيوم :



يعالج دافيد هيوم في هذا النص إشكال علاقة السعادة بالفنون والذوق .إذ يميز هو بين نوعين من الرهافة :" رهافة الإحساس" و"رهافة الذوق".



فالأفراد الذين لهم رهافة في الإحساس يكونون بالغي الحساسية تجاه عوارض الحياة وحوادثها، فأنت تجدهم فرحين بالحياة مقبلين عليها كلما كان هناك أي حدث طيب يمسهم . وبالضد من ذلك شديدي التألم عندما يمسهم ما يحزنهم. وعين الانفعالات التي يحس بها من لديه رهافة الإحساس عند مصادفته لحدث طيب أو لحدث مؤلم، يشعر بها من لديه "رهافة الذوق"، عند مصادفته كل جمال أو قبح أو تشوه . فلما نقدم له قصيدة شعرية أو لوحة فنية، فان رهافة ذوقه تجعل كل جوارحه ترتعش أمام ما يقدم له ، فيتذوق جمال الخطوط التي خطتها يد الرسام، ويتذوق الكلمات التي كتبها الشاعر. وبالمقابل نجده يشعر بالاشمئزاز أمام كل ما ليس بجميل، أمام كل فعل تم انجازه بدون دقة. وبالجملة، فحتى نحصل السعادة - بحسب هيوم – علينا" تهذيب ذوقنا" ليكون راقيا، حتى نتمكن من اختيار وفهم الفنون الأكثر نبلا التي ستشعرنا بالسعادة ، سواء كانت شعرا أو نثرا أو موسيقى أو رسما .[25]



المحور الثالث׃ السعادة و الواجب .



تـقــديــــم :



ﺇن الإنسان باعتباره كائن طبيعي- اجتماعي كان لزاما عليه الدخول ﺇلى القيم اﻷخلاقية،لكي يتحرر من دوافعه الغريزية وما يمكن ﺃن يترتب عنها من عنف تجاه الآخرين. فباﻹضافة ﺇلى ازدواجية الطبيعي والاجتماعي التي تشكل حقيقة اﻹنسان هناك ازدواجية ثانية تطبع وجوده اﻷخلاقي هي ازدواجية اﻹلزام و اﻹلتزام،ﺇلزامية أخلاقيه تفرضها قيم المجتمع ,والتزام أخلاقي يستمد مبادئه من وعي الإنسان.



من داخل جدلية اﻹلزام و اﻹلتزام يطمح اﻹنسان ﺇلى خلق توازن لبلوغ السعادة باعتبارها الغاية القصوى للفعل الإنساني المتجه نحو تجسيد قيم أخلاقية فردية وجماعية،وتحديد الواجبات التي على كل فرد القيام بها سواء نحو ذاته ﺃم تجاه الغير.وﺇذا كان اﻷمر كذلك فان السعادة تبنى داخل علاقات ﺇنسانيه يتشابك فيها واجب ﺇسعاد الذات بواجب ﺇسعاد الغير مما يحفزنا على طرح التساؤلات التالية׃



ما هي علاقة السعادة بالواجب ،هل هي علاقة تكامل ﺃو علاقة ﺇعاقة؟



بمعنى ﺁخر، هل يكمن ﺃساس السعادة في فعل ما نريد،ﺃم في الانصياع للواجب و القانون،طبيعيا كان ﺃو ﺃخلاقيا؟



وإذا كانت هناك علاقة بين السعادة والواجب فهل السعادة واجب نحو الذات ﺃم نحو الغير, ﺃم هما معا؟



وفي الختام كيف يمكن بلوغ السعادة في ظل تمفصلاتها مع مفاهيم الواجب والغير والإرادة؟



موقف ابكتيت :



ﻠﻺجابة عن هده التساؤلات يمكن الاستئناس بأحد المواقف الفكرية التي حاولت ربط السعادة بالواجب والإرادة والمتمثلة في الفيلسوف الرواقي "ابيكتيت" epectète" ( 125-50) الذي يعتبر من أهم أعلام الفلسفة الرواقية التي ظهرت في نفس الفترة التي ظهرت فيها الأبيقورية وكانت معارضة لها. تنطلق هذه المدرسة من فكرة أن في الطبيعة قانون و عقل و اﻹنسان جزء من هذه الطبيعة و ﻫﻨا العقل.وإذا استنتجنا من ﻫﻨﻩ الفكرة في نظرية المعرفة نتائجها الأخلاقية نجد ﻫﻨﻩ المدرسة تدعو اﻹنسان إلى أن يحيا وفق ﻫﻨﻩ الطيعة إذا أراد ﺇدراك السعادة و تجنب الشقاء، وﺇلا سيكون متمردا على



القانون الطبيعي.



ويتعرف الإنسان على قانون سيرته في ﻫﻨﻩ الحياة بالرجوع إلى ميوله الأساسية التي وضعتها الطبيعة فيه لتدله على ما يريد. والميل الأول ﻫﻮ حب البقاء الذي يهديه لتمييز ما يوافقه وما يضاده. و اﻷبيقورية في نظرهم على ضلال حين رأت أن الميل الأول طلب اللـﻨة، فما اللذة و الألم ﺇلا عرض ينشأ حين يحصل الإنسان على ما يوافق طبيعته أو بضادها لذلك تنقلب اللذة ألما وشرا ﺇن ظلت لذتها دون النظر ﺇلى مدى مطابقتها للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية،ففي تلك المطابقة وحدها الحكمة والخير والفضيلة والسعادة.ولعل ابكتيت لايخرج عن تعاليم مدرسته،فهو يرى على غرارها أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي و اﻹردة الكلية التي هي مبدأ كل ما يحدث.ففي العالم أشياء تتوقف علينا وأشياء خارجة عن إرادتنا، فكلما تحركنا في دائرة الأفعال التي تخصنا توصلنا ﺇلى السعادة، في حين يؤدي التحرك خارج ﻫﻧﻩ الدائرة أو التطلع ﺇلى الأشياء الخارجة عن ﺇرادتنا أو التي توجد تحت سيطرة الغير ﺇلى اﻹاضطراب والشكوى ،وبالتالي ﺇلى التعاسة. [26]



ﺇن مايجلب للناس التعاسة ليست اﻷشياء في ذاتها بل اﻵراء التي لديهم عنها، فالموت حسب ابيكتيت ليس شرا وألما في ذاته ولو كان كذلك لبدا لسقراط كذلك.بل إن الشر يكمن في الرأي الذي لدينا عن الموت بأنه شر وألم فذاك هو الشر أما الموت في ذاته،مطابق للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية.فكل اﻷشياء العرضية كالموت وغيره ليس متعلقا بإرادتنا وليس خيرا أو شرا بالذات بل متعلقا باﻹرادة الكلية والقانون الطبيعي،فمن الحماقة أن نهلع لمرض أو نحزن لنكبة وما هذه اﻹانفعالات لمجدية لدفع هذه اﻷخطار بل من الواجب أن نعتصم بإرادتنا الفردية ونحتفظ بحريتنا لنرتفع بأنفسنا فوق كل شيء لانخاف،لانحزن بل نقبل كل مايصبنا من رزايا.فمن واجب اﻹنسان ﺇذا أرادا أن يحيا سعيدا وبإمكانه ذلك أن يعمل على مطابقة ﺇرادته الفردية مع اﻹرادة الكلية.



موقف كانط :



ﺇذا كانت الرواقية في شخص ابيكبيت قد رأت أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي، فان "ﺇيمانويل كانط"﴿1724-1804﴾يرى أن هذا القانون أخلاقيا وليس طبيعيا،عقليا وليس مستمدا من الميول الأساسية عند اﻹنسان.فالسعادة عنده لا يمكن أن تكون مستقلة عن القانون الأخلاقي وعن مبدأ الواجب،لأن ميدان الأخلاق والذي تعتبر السعادة غايته ليس ميدانا لتحليل العواطف الإنسانية كما ذهب إلى ذلك دفيد هيوم،وﺇلا لكانت المبادئ الأخلاقية مبادئ متنازع عليها. [27]كما أنه لايمكن أن يكون مستمدا من الميول ا لأساسية التي وضعتها الطبيعة في الإنسان كما ذهب إلى ذلك ابيكتيت. معنى هذا أن للأخلاق أصول عامة شامله وصادقة في كل زمان ومكان .ولكن ما الذي يدفعنا لأن نخضع لهذه المبادئ اﻷخلاقية؟ يجب كانط: «مامن منفعة تدفعني إلى هذا إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن قيام أمر أخلاقي مطلق.». [28]لأن مبدأ الأخلاقية مستقل تمام الاستقلال عن طبيعتنا الحسية فهو مستمد من الصورة الخالصة للعقل دون الاستعانة بالحساسية.كما أن اﻹنسان نظرا لتميزه بالعقل في غير حاجة ﺇلى الفلسفة أو العلم لفعل ما يجب عليه القيام به،ففي تجربة الصراع بين الضمير والأهواء ينبثق المبدأ العقلي للواجب الذي يلزم ﻹنسان بتطبيق القانون ﻹخلاقي حتى ولو تعارض مع ميولا ته ومنطلق هذا الواجب هو اﻹرادة الخيرة، ﺇﺫلا قيمة للفضائل بدون ﻫذاﻹرادة.



من هذا المنطلق صرح كانط أن السعادة باعتبارها كل مطلق مركب من مجموعة من الرغبات يصعب تحقيقه أو تعريفها،ﻹن جميع العناصر التي تؤلفها هي في جملتها مستعارة من التجربة مما يجعلها مفهوما للخيال وليس للعقل.في حين نجد اﻹنسان لكونه كائن متناه عاجز عن تحقيق تصور محدد لما يريد.لكن لو انتقلنا من تصور يشرط السعادة بتحقيق رغبة ما أو إقصائها إلى تصور يجعل منها غاية تبنى داخل مجال العلاقات اﻹنسانية ويجعله منها أيضا موجها لتصرفاته سواء نحو ذاته أم نحو الغير،لأمكن الأمل فيها متى كنا مؤهلين لها بقانون أخلاقي.الشيء الذي يحيلنا على طرح مجموعة من التساؤلات يمكن صياغتها على الشكل التالي:هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير،أم هما معا؟وكيف يمكن إسعاد ﺫاتي وﺇسعاد الغير؟وما علاقة السعادة بالرغبة و اﻹرادة؟



موقف راسل و ألان :



ﺇن اﻹجابة عن ﻫﺫا التساؤلات تقتضي منا التمييز بين موقفين،موقف يرى أن اﻹهتمام بالغير بمودة تلقائية للتعرف عليه وفهم خصوصيته وتفرده يشكلان مصدر ﺇسعاد الغير؛وبالتالي سعادة الذات؛وهو" لبرتراند راسل"وموقف آخر يرى أن السعادة ممكنة عندما تتوفر لدى اﻹنسان ﺇرادة طلبها،غير أنها لايمكن أن تتجه للغير دون اﻹلتزام بإسعاد الذات أولا،وهو"ألان" بالنسبة لراسل يدافع عن حق كل ﺇنسان في السعادة، دون أن يكون ذالك على حساب الآخرين، لكن من زاوية أن السعادة الحقيقية لا تكمن في أنواع الموضات والهوايات و التي تعد بمثابة هروب من الواقع بل تنبثق من فكرة التضحية بالذات التي يفرضها اﻹحساس بالواجب ، بوصفه أمرا أخلاقيا مطلقا وملزما كما ذهب ﺇلى ذالك كان كانط. لهذا تراه- مثلا- يقف على مظاهر الإحراج الذي يطرحه مشكل الواجب الأسري تجاه الأبناء من صرامة وعناية من جهة،ومن جهة أخرى الحرص على المعاملة الطيبة بغية إفساح المجال أمام المشاعر الإنسانية من عطف وحب وسعادة، ولعل هذا الموقف يتضامن مع نظرته للفلسفة التي جعل مهمتها تناول المنطق الخالص و الرموز والتركيبات ولا تعنى بالتشريع لما هو واقعي. ففي عالم الكيانات و العلاقات المنطقية المجردة تنزوي الفلسفة و العقل بعيدا عن تقلبات الشهوة و الانفعال. فراسل يطرد العقل من مجال الأخلاق وهذا ما جعله عندما يتحدث عن سعادة الغير يقول: "* ربما كان حب كثير من الناس تلقائيا وبدون مجهود، أعظم مصادر السعادة الشخصية"* معنى هذا أن الآخر يجب أن يكون محبوبا وليس مقبولا على مضض. في المقابل نجد ألان ''إميل شارتي'' يصرح بإمكانية السعادة إذا توفرت للإنسان إرادة طلبها،فمن السهل على المرء أن يكون مستاء، و من السهل عليه أيضا أن يرفض ما تقدمه الحياة من عطايا، لكن بالمقابل من السهل عليه أن يصنع من أشياء قليلة وبسيطة مظاهر السعادة التي يلتمسها في علاقته ب الآخر. بذلك يناشدنا آلان بعدم الاستسلام عند مواجهة الصعوبات وألا نعترف بالهزيمة قبل مواجهة ومقاومة نبذل فيها أقصى ما نملك من القوة. فالسعادة لا توجد هناك بل مرتبطة برغبتنا وإرادتنا. فمن الواجب علينا أن نصنعها ونناضل من أجلها ونعلم الآخرين فن الحياة السعيدة وذلك بعدم التحدث أمامهم عن تعاستنا. فالشقاء واليأس منتشران في الهواء الذي نستنشقه جميعا، هذا يعني أن السعادة واجبة نحو الذات لأن سعادتنا تعني مباشرة سعادة الغير و تعاستنا تعني تعاسة الغير.[29]



إن رفض السعادة حسب ألان هو السبب فيما تعرفه الإنسانية من مآس وحروب، فهذه الجثث و الخراب و التبذير، و التقوقع هي من أفعال أناس لم يعرفوا في حياتهم قط، كيف يكونوا سعداء، ولا يطيقون رؤية كل من حاول أن يكون سعيد. فنحن مدينون بالاعتراف و التتويج، لأولئك الذين تغلبوا على هذه السموم وعملوا على تنقية جو الحياة الاجتماعية. لتصبح السعادة في نهاية المطاف قيمة أخلاقية توجه تصرفات الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر.



إذا كان كل من برتراند راسل و آلان قد تحدثا عن السعادة بوصفها غاية تبنى داخل مجالات العلاقات الإنسانية، فإن الفيلسوف المؤمن يؤمن بوجود سعادة أخروية تمثل لذة بلا عناء وكمالا بلا نقصان. ولعل الغزالي لم يحدثنا عن هذا التصور في كتابه" المنقذ من الضلال"حيث يحاول تكييف ثوابت العقيدة الإسلامية مع التجربة الصوفية المتحررة من ظاهر النص في مقاربته لمفهوم السعادة.



إن الشرط الأساسي لتحصيل السعادة عند الغزالي هو قطع علاقة القلب بالدنيا، و كف النفس عن الهوى، ومجاهدة الجسد لكبح رغباته، ثم المواظبة على العزلة و الخلوة والإعراض عن شواغل الحياة التي تشوش صفوة الخلوة وتقليد الأنبياء في المواظبة على العبادات، لأن السعادة تحصل بالقلب وليس بالعقل.



خاتــــــمـــــة :



يسمح النقاش الفلسفي حول مفهوم السعادة أولا بوضعه داخل المجال الأخلاقي القيمي بدلا من النظر إليه من زاوية شخصية فردية ،و ثانيا بادراك تعقيد و لبس هذا المفهوم حتى و إن كان الجميع متفق على أن السعادة هي الغاية القصوى الموجهة لكل سلوك أو فعل إنساني .كما يسمح هذا النقاش بادراك تمفصلات هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى كمفهوم الرغبة و الإرادة و الحرية ،و أخيرا وضع هذا المفهوم في اطار العلاقات الأساسية لتصبح السعادة قيمة أخلاقية يلتزم فيها الإنسان بواجب إسعاد ذاته وواجب إسعاد الغير .



مع تحيات موقع تفلسف tafalsouf.t35.com



[1] المعجم الفلسفي ،تأليف الدكتور ،جميل صليبا ،دار الكتاب اللبناني ، طبعة سنة 1971 .



[2] موسوعة لالاند الفلسفية ،منشورات عويدات ،بيروت لبنان .



[3] مقرر،مباهج الفلسفة،السنة الثانية من سلك الباكلوريا، المجزوءة الرابعة : الأخلاق ،مفهوم السعادة ،ص 191



[4]نفس المرجع ،ص 191



[5] نفس المرجع ،ص 191



[6] مقرر،في رحاب الفلسفة،السنة الثانية من سلك الباكلوريا، المجزوءة الرابعة : الأخلاق ،مفهوم السعادة ،ص 201



[7] نفس المرجع ،ص 201



[8] مقرر السنة الثانية من سلك الباكلوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية،المجزوءة الرابعة: الأخلاق، مفهوم السعادة، ص 193.



[9] نفس المرجع ،ص 193



[10] نفس المرجع ،ص 193



[11] مقرر،منارالفلسفة،السنة الثانية من سلك الباكلوريا، المجزوءة الرابعة : الأخلاق ،مفهوم السعادة ،ص200



[12] نفس المرجع ،ص 200



[13] مقرر،منار الفلسفة ، السنة الثانية من سلك الباكلوريا ،المجزوءة الرابعة : الأخلاق ،مفهوم السعادة ،ص 202 .



[14] نفس المرجع ،ص202



[15] نفس المرجع ،ص202



[16] مقرر،في رحاب الفلسفة،السنة الثانية من سلك الباكلوريا، المجزوءة الرابعة : الأخلاق ،مفهوم السعادة ،ص 202



[17] نفس المرجع،ص 202



[18] مقررمنارالفلسفة، السنة الثانية من سلك الباكلوريا، ،مسلك الآداب والعلوم الإنسانية،المجزوءة الرابعة: الأخلاق، مفهوم السعادة، ص 201 .



[19] نفس المرجع ،ص 213



[20] مقرر،في رحاب الفلسفة، السنة الثانية من سلك الباكلوريا، ،مسلك الآداب والعلوم الإنسانية،المجزوءة الرابعة: الأخلاق، مفهوم السعادة، ص206



[21] *Alain (Émile Chartier) Propos sur le bonheur Un document produit en version numérique par Robert Caron, bénévole, professeur de lettres à la retraite du Cégep de Chicoutimi Dans le cadre de la collection: "Les classiques des sciences sociales". Site web: http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index.html



[22] "السعادة هي مبتغى الناس أجمعين"، مباهج الفلسفة ، ص 197.



[23] المنار ، ص 205.



[24] " السعادة أمل عابر " ، المنار، ص 206.



[25] " تهذيب الذوق " ، في الرحاب،ص 204.







[26] المباهج: نص.6.ص:200.



[27] كانط:تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق.ترجمة: عبد الغفار مكاوي.ص:109-111.



[28]المباهج: نص7.ص:202.



[29] .[ 1) المنار: النص 1و2- ص: 209،208./ 1) رحاب الفلسفة: النص:5و6 – 205،209.].



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الواجب

محاور الدرس




1) الواجب و الإكراه.



2) الوعي الأخلاقي.



3) الواجب و المجتمع.

قديم:




يتنزل مفهوم الواجب من الفلسفة الأخلاقية منزلة القطب من الرحى، فهو أحد المقولات الأساس التي انبنى عليها التفكير الفلسفي في الشق الأخلاقي إلى جانب أخرى من قيبل: السعادة و الحرية، و اللتان تتداخلان بدورهما مع الواجب، لتشكلا في نهاية المطاف نسقا منتظما، تتداخل معاني كل مفهوم في الآخر، بل قد لا يستقيم مفهوم دون الآخر، و لا تكتمل الصورة الدلالية لواحد إلا بالرجوع إل&ÿÿ610;هم ÿÿ0;ميعا.



غير أن الناظر المتمعن في مفهوم الواجب لواجد هو نفسه يتراوح ما بين عدة مقاربات و تصورات راجعة هي إلى اختلاف زوايا نظر كل فيلسوف، و محلل نفسي، و عالم اجتماع، و اختلاف زوايا النظر ينصرف هو الآخر غلأى مجمل المفاهيم التي تشكل حجر الزاوية لكل مجال على حدة، ثم عائد كذلك إلى اختلاف المقدمات المُتأسس عليها منهج التحليل، ورغم ما يمكن أي يسجل حولها من اختلاف فهو لا يعني تعارض الأطروحات و إنما تحيك في ثوب واحد و هو مقاربة مفهوم الواجب الأخلاقي باعتباره مفهوما إنسانيا محضا، فتجد الفيسلوف ينظر فيه من جهة معناه التجريدي و التأسيسي، و عالم النفي من جهى تأثيره في الفرد و وجدانه، و عالم الاجتماع من جهة تأثير المجتمع في تمثل الواجب و تطبيقه. و لما كانت الحال هي كذلك، وجب النظر و الوقوف للحديث عن الواجب الأخلاقي كمفهوم فلسفي محض.



دلالات الواجب:



· في الحس المشترك:



يتخذ الواجب الأخلاقي في المعنى البسيط والمتداول عند العامة من الناس بأنه: تلك القدرة على التحكم في التصرفات، و ذلك الآمر الداخلي الذي يتحكم في وجدان الأفراد و يحُول دون إتيانهم تصرفات مشينة يمجها المجتمع ويقذح في مرتكبها، و انتفاء الواجب الأخلاقي عن الفرد يجعل منه حديثا للانتقاص و الاستهزاء والقدح، إنه مرادف على السمت الحسن و الصيت الطيب عند الناس، و لما كان هذا المعنى هو الشائع عند الناس فإنهم يربطونه بطبيعة التربية التي يتلقها الفرد داخل الأسرة، و في الوقت الذي تكون فيه التربية الأسرية ناقصة تنعكس و ترد سلبا على الفرد. فهل يصدق هذا المعنى على المعاجم اللغوية؟



· في اللسان العربي و اللسان الفرنسي:



يتخذ معنى الواجب في اللسان العربي عدة معان، نستقيها من المعاجم العربية، و من أهمها على الإطلاق معجم لسان العرب لابن منظور فيقول عن كلمة واجب: وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وُجوباً أَي لزمَ. وأَوجَبهُ هو، وأَوجَبَه اللّه، واسْتَوْجَبَه أَي اسْتَحَقَّه؛ يقال: وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وُجوباً إِذا ثَبَتَ، ولزِمَ. ونَفَذ. يقال: وجب البيعُ يَجِبُ وجوباً، وأَوْجَبَه إِيجاباً أَي لَزِمَ. إذن فمعنى الواجب هو: اللزوم و الثبات، أي أنه القدرة على الامتثال الدائم للناهي و الوازع الأخلاقي. إن كان هذا هو معنى الواجب في اللغة العربية فما معناه غي اللغة الفرنسية؟



أما في اللسان الفرنسي نجد مثلا معجم MICRO ROBERT: يقابل كلمة واجب بDEVOIR بمعنى: الواجب أو الإجبار الأخلاقي العام، و نقول تصرف التصرف الشخص عن طريق الواجب. كما ننعت شخصا ما بأنه رجل واجب؛ أي أنه يحترم ما تمليه الضرورة الأخلاقية. فهل تتوافق هذه الدلالات اللغوية و المعنى الفلسفي للمفهوم؟



· في الدلالة الفلسفية:



يعرف صاحب كتاب المعجم التقني و الفلسفي لالاند أن الواجب هو: الوجوب الأخلاقي الذاتي الذي يرتكز على النداء الباطني بمعزل و منأى و مبعد عن أي قاعدة خارجية كالدين و القانون، مكا أ،ه ينصرف إلى الامتثال الالزامي الذي يتأسس سلطة قهرية خارجية، و من ثمة يلتقي هذا المعنى مع الدلالات التي تطرقنا إليها في الدلالى اللغوية.



غير أن هذه التحديدات اللغوية و الفلسفية لا تنفي النظر في المواقف التي ثورت المفهوم و تحدثت عنه بوضوح التحدث، مستشكلين الموضوع الاستشكال، و متسائلين:



Ø هل الواجب الأخلاقي إرادة حرة أم أنه ضرب من القهر و الإكراه؟



Ø فإن كان إرادة حرة فعلى ماذا ينبني؟ و إن كان ميسما من الإكراه فكيف ذلك؟



Ø ما هي العلاقة الممكن إيجادها بين الوعي الأخلاقي و الواجب؟



Ø على ماذا يتأسس الوعي الأخلاقي؟



Ø هل الواجب الأخلاقي يحكمه ضمير الفرد أم ضمير المجتمع؟



Ø كيف يتدخل المجتمع في بناء الوعي بالواجب الأخلاقي؟



Ø هل الواجب الأخلاقي يتأسس على معطى فردي؟



المحور الأول: الواجب و الإكراه



تمهيد:



لئن كان للإنسان الحرية التامة في ممارسة حقوقه، فإن الأمر يختلف أشد الاختلاف حينما يتعلق الأمر بالواجب حيث يضيق مجال الحرية والاختيار ويصبح الإكراه الميسم الأساس، سواء مورس بشكل ذاتي (=الضمير) أو خارجي(= القانون، المجتمع). إذ الراجح أن يكون الواجب على شكل إلزام يفترض القيام به أو الإحجام عنه حتى وإن تعارض مع مصلحة الفرد ونوازعه الخاصة.



يتضح من ذلك أن الواجب لا يكاد ينفصل عن الإكراه. بل إن العلاقة بينهما علاقة تضايف إن لم نقل تماه، لكن ألا يمكن أن يصدر الواجب عن محض اختيار خالص إرادة حرة بعيدا عن الإجبار والإلزام؟



vموقف كانط.



عالج كانط مسألة الواجب بشكل عام في كتبه ومقالاته الأخلاقية[1] معالجة دقيقة كان الهدف منها التأسيس الفعلي والكوني لمفهوم الفعل الأخلاقي من حيث هو ضرورة عقلية نابعة من ذات إنسانية تتمتع بنوع من الحرية والاستقلال الذاتي [2]autonomie. معنى ذلك أن كل عاقل لا بد أن يقتنع ويقبل بالفعل الأخلاقي على شكل واجب ـ حتى وإن تعارض مع ميولاته الذاتية ـ مادامت الغاية هي تحقيق أكبر حرية إنسانية طبقا للقوانين ،بحيث يمكن لحرية كل واحد أن تتعايش مع حرية الآخرين. هذه المقولة تستمد قوتها من كون احترام القانون الأخلاقي الذي يحكم الجميع ضرورة لا محيد عنها حتى يتمكن الشخص من التعايش مع الجميع تحت مظلة المساواة أمام القانون. والمرجع الأساس الذي يجب أن ينطلق منه الجميع ـ حسب كانط ـ هو العقل لأنه كوني بالنسبة للجميع. والحكم الأخلاقي إذ يصدر عن الإرادة الخيرة الحرة ـ التي مصدرها العقل هي الأخرى ـ فهو أيضا يمكن توصيفه بالكوني. الإرادة تلك يجب أن تكون غاية في ذاتها تفترض أن يكون الواجب الأخلاقي هو الآخر خال من كل غاية منفعية وبالتالي غاية في ذاته. بهذه الوصفة يمكن أن يكون الإكراه الذي يفرضه العقل على الشخص نابعا من حرية ذاتية مبنية على الاقتناع، بحيث يكون الإلزام داخليا وذاتيا قائم النية الحسنة والخالصة.



الإكراه بهذا المعنى يصبح فعلا من أفعل الإرادة. إنه إكراه حر[3] يتخذ صفة الآمر القطعي المطلق والخال من الغائية. بمعنى انه يتميز عن الأمر الأخلاقي الشرطي الذي تعبر عنه عبارة "افعل كذا لتنال كذا"(مثل : لا تسرق كي لا تدخل السجن) الذي لا يصنفه كانط في خانة الأفعال الأخلاقية لما فيه من مساومة وابتذال يسلبان الفعل الأخلاقي غايته النبيلة. كما أن الأوامر الأخلاقية غير مشروطة بأية نتائج أو ميول، بل لها بداهة مباشرة، لدرجة أن الإرادة تعرف أن عليها أن تخضع لهذه الأوامر[4]، وهذه الأوامر ذات صبغة كونية شمولية هي التي تؤسس لمعنى الواجب عند كانط وفق القواعد التالية:



1. تصرف بحيث تجعل من قاعدة فعلك قانونا لنفسك ولسائر الناس.



2. تصرف دائما وفق الطريقة التي تجعلك تعتبر الإنسانية، في شخصك وفي غيرك، غاية مطلقة لا وسيلة بأي حال من الأحوال.



3. تصرف معتبرا إرادتك مشرعا لتشريع كوني.



اهتجس كانط بهاجس الكونية وهو يبني فلسفته النقدية بشكل عام. لذلك وضع قوانينا تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صيغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعين لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حيث هو فعل خاضع للعقل، وللحرية، لأن مصدره الإرادة فهل يمكن تصور إرادة بدون حرية؟ أليس في هذه الحرية ما يجعل إتيان الفعل الأخلاق نابع من رغبة الإنسان في أن ينال استحسان الآخرين (المجتمع)؟



vموقف دوركهايم.



الجواب على هذا الإشكال يجد مقدماته النظرية عند عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم حيث يرى، هو، أنه بالإضافة إلى الطابع الإلزامي الذي يسم الواجب، ثمة رغبة و ميل نحو انجاز الفعل الأخلاقي الخير. الواجب بهذا المعنى محط رغبة[5]، ما دام الإنسان خير بطبعه كما يقول روسو، وليس فقط محض إلزام كما يرى كانط. إننا نشعر بنوع من اللذة لا مثيل لها عند ممارستنا للواجب، بسبب أنه واجب[6].



لم يعد الواجب مع دوركهايم مجرد معطى متعالي خالص وإنما هو مرتبط بتجربة الذات في علاقتها بالأخر. التجربة تلك تبين أن المجتمع يرفض نظامه الأخلاقي فرضا مما يجعلنا نتساءل عن قيمة الإرادة الصانعة للفعل الأخلاقي في ظل مجتمع يفتقر إلى الحرية. في خضم هذا التضارب يرى دوركهايم أنه ليس هناك "فعل أخلاقي خالص تم القيام به على أنه واجب، بل يكون من الضروري دوما أن يظهر هذا الفعل على أنه جيد ومستحسن بشكل ما. وعلى العكس من ذلك يبدو أنه لا توجد موضوعات مرغوب فيها بشكل خالص، لأنها تتطلب دوما قدرا من المجهود الشخصي"[7].



vموقف هيجل.



على الضفة الأخرى، يرى هيجل أن الأطروحة الكانطية مجرد نزعة صورية[8] تفتقر إلى التجلي والتجسد في الواقع. الواجب مع هيجل ذو طابع مؤسساتي وغايته هي إقامة الدولة القوية التي يبتدئ بناؤها من الفرد الذي ينصهر في الكل، بلغة صاحب الفينومنولوجيا " يجب على الفرد الذي يؤدي واجبه أن يحقق مصلحته الشخصية أو إشباعه وأن يتحول الشأن العام إلى شأن خاص بفعل وضعيته داخل الدولة[9]. يعنى هذا الكلام أن المصلحة الخاصة تنصهر ضمن المصلحة العامة بحيث يضمن الفرد حمايتها. "فالفرد ـ يقول هيجل ـ الخاضع للواجبات سيجد في تحقيقها حمايته لشخصه ولملكيته باعتباره مواطنا، وتقديرا لمنفعته وإشباعا لماهيته الجوهرية، واعتزازا بكونه عضوا في هذا الكل"[10]. وبذلك يغدو الواجب مرتبطا بالدولة لا بالذات في وجودها الخالص. لكن سؤلا سؤالا بطرح نفسه في هذا السياق: أليس ثمة واجبات تخرج عن هذا التصنيف؟



vموقف هيوم.



من هذا المنطلق، كان هيوم يميز بين هذا الواجب الناتج عن ميل طبيعي نحو الخير ( حب الأطفال) بمعزل عن أي شعور بالإلزام أو أي اعتبار لمنفعة عامة أو خاصة[11] ،وبين ذاك الذي يصدر عن إحساس بالإلزام لا غير، لأنه يمثل ضرورات المجتمع البشري التي تمثل كابحا للغرائز والميول الذاتية الجامحة (حب التملك). بهذا المعنى يصبح الإلزام والإكراه ضرورة لحفظ البقاء واستمرار الحياة الاجتماعية وإلا عمت الفوضى.



vموقف غويو ونيتشه.



على النقيض من ذلك يرى غويو أن الفعل الأخلاقي لا يجب أن يصدر عن إلزام و لا عنة خوف من أي جزاء أو عقاب. إنما يكون هو فعلا تأسيسا لمسار الحياة الذي لا ينتهي، و لغايات حددتها الطبيعة الإنسانية بوصفها فاعلية مطلقة نحو الحياة. لكن الواجب الأخلاقي من وجهة النظر الطبيعية هاته التي ليس فيها شيء غيبي، يرتد إلى القانون الطبيعي الشامل[12] ، فمصدره هو الشعور الفياض "بأننا عشنا و أننا أدينا مهمتنا ... و سوف تستمر الحياة بعدنا، من دوننا، و لكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار". و المنحى نفسه يتخذه نيتشه حين يؤسس الأخلاق على مبدإ الحياة بوصفها إندفاع خلاق محض. إذ الفعل الأخلاقي عند نيتشه ما يخدم الحياة ما يزيد من قوتها و ليس ما يضعف الحياة و يزيد من محدوديتها. هكذا هو الخير و الشر عند نيتشه.







¨ المحور الثاني: الوعي الأخلاقي



تمهيد:



تتمفصل كل النصوص التي سنأتي على تحليل مواقف أصحابها في إشكالية أساس لنا ان نصوغها كالآتي: ماهي العلاقة الممكن إيجادها بين كل من الواجب والوعي الأخلاقي؟ فمنهم النازع إلى التأكيد على ان الترابط والتلازم ميسم العلاقة بين الواجب والوعي الأخلاقي فلا ينفك الواحد منهم يتأسس على الآخر التأسيس، وذلك موقف الفيلسوف إريك فايل، ومنهم الذي حذا بموقفه حذو الرافض المنتقد لاطرواحات الفلاسفة السابقين عليه والمؤكدين على تاثير المحيط الخارجي في أخلاق الواحد منا، ليثبت هو أحقية القاعدة كمبدأ مؤسس للأخلاق هو ذا موقف الفيلسوف فرونسو برنطانو،وهذا مفكر إسلامي آخر يرى في العقل المرشد والمدل في كل فعل أخلاقي، فلا مناصة للإنسان حتى يتسنى له العيش ضمن جماعة يطبعها التماسك والوحدة غير الإقتداء بالعقل، من هنا يكون الاكتساب خاصية الخلق[13].تتعدد المواقف وتختلف فمن خارج الفلسفة يدلو أحد المحللين النفسيين بدلوه في مجال ظل منذ زمن غير يسير حكر التفكير الفلسفي، ليثبت هو على أن النفس الإنسانية في ثلاثيتها(الأنا le moi،الأنا الأعلى le sur-moi،الهو le ça تتضمن كل محدد أخلاقي وهو الدور المنوط بالأنا الأعلى، بخلاف هذه المواقف يقدم لنا هاينز كينتشتاينر تصورا آخر يجد قاعدته المركزية ولبنته الأساس في الوعي التاريخي، إذ يقدم لنا هو المنحى التاريخي الذي قطعته الأخلاق، ويمكن تقسيمه إلى شقين كبيرين، الأول هو قبل نشوء الفرد الحر المستقل وفيها كان الوعي الأخلاقي مرتبط أشد الإرتباط بالأطر الخارجية، أما الشق الثاني فهو المتعلق ببزوغ الفرد المستقل والحر[14].إذا كان ذلك كذلك فمع روسو سيتم إرجاع الوعي الاخلاقي إلى ما هو فطري، إذ الفرد ينزع بطريقة هي أقرب إلى الغريزة منها إلى شيء آخر نحو الخير ويتجه.



ربما، وعلى الضد من كل هذه المواقف التي يقدمها لنا الفكر الفلسفي يرسم لنا الموقف النتشوي معالم الوعي الأخلاقي في أصله الأول، حيث للوعي الأخلاقي صلة ربط مع العنف الممارس على المدين.[15]



vموقف إريك فايل.



ينحو صاحب النص إلى التقريرمفاده ان الأخلاق بما هي مجال يضم بين ثناياها مفهوم الواجب le devoir فهي تلازم العقل تلازما جدليا فلا فرقة بينهم ولا خصام.فكل أمر نابع من العقل هو بالضرورة أخلاقي إذ أن كل انحياز إلى العقل­يقول فايل­ينتج عنه التأسيس الحقيقي والحق للمبدأالأخلاقي.



وتاكيد فايل لأطروحته ­تلازم العقل والأخلاق­جاء انطلاقا من عرضه لمجموعة منطلقات وإواليات:



٭تعارض العقل والنزوة.



٭لابد لما هو خاص ان ينفتح على أفق ما هو كوني وشمولي.



٭الذات بما هي ذات إنسانية وجب عليها الإنضواء تحت لواء ما هو كوني.



٭نفي صفة الموضوع على الإنسان أو قابلية توسيله.



٭الإقرار بعاقلية الكائن الإنساني.



٭حرية التصرف الأخلاقي.



٭ملازمة الحرية للعقل.



من خلال هذه المنطلقات التي عضها علينا فايل يخلص إلى نتيجة وهي أن الإنسان في تغليبه لميسم العقل من جهة اولى، وفي انفلاته من بوثقةة ما هو خاص من جهة ثانية، وفي كونه كائن حر ذو اختيار من جهة ثالثة، متى انحاز إلى العقل فإن المبدأ الاخلاقي يكون قد تم تأسيسه بالفعل.







vموقف فرنتس برونتانو.



قبل تطرق الفيلسوف إلى أطروحته عمل بادئ ذي بدء على عرض موقف الفلاسفة السابقين وذلك بغية دحضها، أما الموقف فجاء على الشكل الآتي: أن الوعي الأخلاقي حسب الفلاسفة القدماء يصدر عن تلك العلاقة الموجودة بين الفعل الأخلاقي والمحيط الذي يزود الفرد بمجموع الاوامر والواجبات، متوجهين إليه بالقول: "يجب عليك"، والتي يستبطنها بدوره ويتمثلها بطريقة يضفي عليها نوعا من الشرعية.



تجاوز فرنتس برونتانو لموقف الفلاسفة السابقين هو تجاوز الرأي القائل بأن الأخلاق تجد قاعدتها الأساس في الإلزامات الصادرة عن إرادة خارجية ليعةضها بمقولة القاعدة، ضاربا لذلك مثال العلاقة المنطقية الموجودة بين المقدمات والنتائج .، إذ هي علاقة تفرضها القاعدة.



vموقف ابن امسكويه.



يبدأ صاحب النص بتقديم تعريف للخلق[16] إذ شق منه مرده إلى ما هو طبيعي لنفس غير الناطقة فيه الكلمة الفصل، أما الشق الآخر فهو المستفاد من العادة والتدلريب والعقل بالنسبة إليه القائد والمسير، إنه الدليل والمرشد. من هذا المنطلق هناك من الناس من ينحاز إلى الرأي القائل بطبيعية الأخلاق ، ومنهم من يرى عكس ذلك؛ أي أن الأخلاق تكتسب وتلقن أنطلاقا من العادة.أما فيما يتعلق بموقف ابن مسكويه فإنه يسير في نفس مسار الموقف الثاني لحجيته، إذ لامجال للإنسان إلا الإقتداء بالعقل "النفس الناطقة" المؤسس لكل فعل أخلاقي، حتى يتسنى له العيش ضمن منظومة يكتسيها طابع العقل والعقلانية، إذ في الحالة المعاكسة التي نترك فيها الفرد يعيش بمقتضى هواه لن يتحصل منه غير الطباع الذميمة واللاإنسانية.







vموقف سيغموند فرويد.



محاولة فرويد في هذا النص تكمن في الإجابة عن الإشكال الآتي: ما العلاقة الممكنة بين الضمير الأخلاقي والسلطة الخارجية من عادات وأعراف وتقاليد وسلطة الأب؟



إجابة فرويد عن الإشكال لن يخرج عن الخطاطة العامة التي يرسمها للجهاز النفسي عامةة حيث يقسم الأخير إلى ثلاث هيئات: الأنا، والأنا الأعلى،والهو؛ يمثل الأنا الأعلى مجمل العادات والتقاليد والسلطالخارجية التي يستبطنها الفرد إذ تصبح هي العامل الأول والأخير في الحكم على الأشياء، أما الأنا فدوره كامن في إيجاد نقطة الإتزان بين الأنا الأعلى والهو، حيث أن الأخير يحمل بين طياته كل ما يتمثله الفرد من غرائز والأخص بالذكر هنا غريزة الجنس.من هذا المنطلق يكون الحديث عن الضمير الأخلاقي متوقف عن الانا الأعلى كسلطة خارجية بها نقيم الأشياء.



إذن الأخلاق بالنسبة التحليل النفسي لم تعد معلقة في سماء الحرية التي يدعي الفرد امتلاكها بقدر ما أن الأخلاق أصبحت جزء من كل(العالم الخارجي).



v موقف هاينز كينتشتاينر.



ينطلق صاحب النص في إطارا معالجته لمشكلة الضمير الأخلاقي من مقدمة مفادها أن هذا الأخير هو ذا منحى تاريخي تطوري فلا ينفك يتقدم ويتطور من حالة إلى حالة أخرى وهو مرتبط بالمحددات السوسيو اجتماعية ولاانفصال له عنها. يقول كينتشتاينر "للوعي الأخلاقي تاريخ"، بأي معنى هو كذلك؟ وأي تاريخ هو؟



يؤرخ كينتشتاينر للوعي التاريخي من موقع أوروبا جغرافيا، من زاوية الإصلاح الديني للقرن الثامن عشر و التاسع عشر عقائديا، ومن منظور كانط معرفيا وفلسفيا.إن الوعي التاريخي ارتبط في نشئته الأولى بما هو خارجي لا يكون للفرد فيه أي مجال أو فسحة للحرية بل يتقيد بها التقيد، أما المرحلة الثانية فهي التي سيعمل فيها الفرد على القطع مع كل السلط الخارجية قطعا ليصبح مسؤولا عن أفعاله.من هذا المنطلق يظهر لنا أن الوعي الاخلاقي هو جزء من بنية وعي تاريخي منفتح ومتطور.



vموقف جان جاك روسو.



عمل روسو في هذا النص على التأكيد بفطرية الضمير الأخلاقي، فالإنسان سواء في تقييمه للأشياء والحكم على الآخرين من جهة أولى والحكم عاى الآخرين من جهة ثانية يكون فيه منطلق أحكامه نابع من مجمل الأحاسيس الفطرية التي يمتاز بها الفرد أما الأحاسيس فيسردها لنا روسو كالآتي : حب الذات والخوف من الألم والموت والرغبة في العيش السعيد. غير أن ها لايعني بأن الفرد الإنساني يظل حبيس ذاته وما تنتجه من أحاسيس داخله، فمروض عليه هو العيش ضمن جماعات معينة تكفل له باقي حاجياته التي يعجز عن تحقيقها بمفرده، وعيشه هذا معع الغير ينشأعنه النسق المتكامل للأخلاق والذي ينهل منه الوعي الإنساني.على أن لانفهم من ذلك أن الوعي ذو مصدر خارجي تمثله عادات المجتمع وأعرافه، وإنما هو غريزة كامنة داخل الإنسان.







¨ المحور الثالث: الواجب و المجتمع



تمهيد:



إن العلاقة التي يمكن افتراض تحديدها بين النظام الأخلاقي و المجتمع من جهة أولى، و الوعي الفردي من جهة ثانية، كممارسة تتحدد وفق نمط معين من التوجيهات، بما هي أفعال تنطرح في قالب من النهج العملي، لهي بحقﱟ علاقة تتسم بالتفاوت و التباين و الاختلاف، و ليس يستغرب من أحد إن وجد الأنظار عند الذين تحدثوا في الواجب الأخلاقي من جهة تأسيسه و تنميته، إذ نزع بعضهم إلى أنه مؤسس على عقيدة المجتمع الذي يبث عبر مؤسساته أنماطا معينة من السلوكات الأخلاقية بما فيها الواجب، فإن تفسيرات أخرى تطمئن إلى القول بضرورة الانعتاق من السلطة الأخلاقية للمجتمع، و تجاوزها و بناء الوعي الأخلاقي على الإرادة الفردية. بيد أن الواجب الأخلاقي فردي محض. و من ثمة جاز لنا أن نطرح التساؤلات التالية:



· كيف يتدخل المجتمع في بناء الوعي بالواجب الأخلاقي؟



· ما هي مختلف تمثلات الواجب الأخلاقي؟



· هل الواجب الأخلاقي يتأسس على معطى فردي؟



· هل يجب أن يخضع الإنسان لكل ما تمليه عليه الجماعة (المجتمع)؟



· و في إشكالية جامعة مانعة نتساءل:



· هل الواجب الأخلاقي يحكمه ضمير الفرد أم ضمير المجتمع؟



vموقف دوركايم.



لعل الباحث في مجال السوسيولوجيا و الداراسات التي تعنى بكشف البنى المتحكمة في المتجتمع لسيجد بأن دوركايم واحد من اولئك الذين اغنوا مجال علم الاجتماع بمباحث غزيرة. و من أهمها على الإطلاق دراسته للتربية الأخلاقية و الكيفية التي يعمل بها المجتمع في بناء الوعي الأخلاقي بين الأفراد، فأسس لما يسمى بمفهوم التنشئة الاجتماعية[17].



إن المجتمع يشكل سلطة معنوية تتحكم في وجدان الأفراد، و يكون نظرتهم لمختلف أنماط السلوك داخله، و من ثمة فالمجتمع يمارس نوعا من القهر و الجبر على الأفراد إذ هو الذي يرسم لهم معالم الامتثال للواجب الأخلاقي و النظم الأخلاقية عموما، و لما كانت الحال كذلك لأن الأفراد يُسلب منهم الوعي بالفعل الأخلاقي، لأنه لم يكن نابعا من إرادة حرة و واعية و انما عن ضمير و وعي جمعيين هما المتحكمان في سلوكيات الأفراد. و بالتالي فالمجتمع سلطة إلزامية "و التي يجب أن نخضع لها لأنها تحكمنا و تربطنا بغايات تتجاوزنا"[18].



و من ثمة فالمجتمع يتعالى على الإرادات الفردية، و يفرض السلوكيات التي يجب أن يكون بما فيها السلوكيات الأخلاقية لأن المجتمع "قوة أخلاقية كبيرة"[19]. فيحقق الأفراد غاية المجتمع لا غاية ذواتهم و الانصات لصوته الآمر لأن "تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة و ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع و لايعبر إلا عنه"[20].



vموقف هنري برغسون.



رغم تعدد الإرادات التي نلحظها عيانيا داخل المجتمعات، و بحسب الوظائف التي تشغلها، و رغم ما قد يلاحظ أن الأفراد يجسدون و يعبرون عن قناعات راسخة فيهم، فإنهم يعبرون عنها في شكل قهري و سلطوي يتعالى على الارادات الحرة، أي أنها تعبر عن سلطة خارجة عنهم " لأننا كنا نشعر بوجود ضغط عظيم يكمن وراء بتصرفاتهم و بواسطتها، و سنعرف فيما بعد أن الأمر يتعلق بالمجتمع"[21].



و بالتالي فإن تلك السلطة التي عبرها نتجرك أخلاقيا تسير وفق نوع من الانضباط -خدمة للصالح العام- الذي يقضي التضحية في سبيل الوطن " كما أن المجتمع هو الذي يرسم للفرد مناهج حياته اليومية"[22].



و إن كان برغسون لا ينكر ما للمجتمع من قدرة تعسفية ماورائية تمارس على الأفراد فيما يخص تصرفاتهم الأخلاقية، فإنه يدعو بالمقابل إلى ضرورة الانعتاق من هذه السلطة الأخلاقية المتعالية، و طلب ما سماه بالواجب الأخلاقي الكوني الذي يتعدى و يتجاوز الأخلاق المنغلقة التي يكرسها المجتمع، لأن هذا الأخير يرسخ أخلاقا تتماشى و الأفراد المكونين للمجتمع الواحد، و الأخلاق الكونية تنفتح على الشمولي و على الإنسان ككل بصرف النظر عن انتمائه المجتمعي لأن لدينا " واجبات نحو الإنسان من حيث هو إنسان"[23].



vموقف فريدريك انجلز.



يقدم انجلز المفكر الماركسي الاشتراكي طرحا مهما حول مسألة الواجب الأخلاقي، إذ يعتبر أن النظريات الأخلاقية ليست قانونا يتعالى عن التاريخ و عن المجريات الاجتماعية، بل بناؤها و العمل بها رهين بالمتغيرات التي تطال المجتمعات الانسانية داخل مختبر التاريخ، هذه التغيرات التي تسير و الايقاع الاقتصادي و الصراع الطبقي، و يطالها التغير و الفساد و تختلف " فإن كانت السرقة في لحظة تاريخية معينة رذيلة يمجها المجتمع ففي مجتمع ليس فيه، أية أسباب تدعو للسرقة ...كم سيعرض الواعظ الأخلاقي للسخرية عندما يدعو علنا إلى الحقيقة الخالدة: ينبغي عليك ألا تسرق!"[24].



إذن، فكل لحظة تاريخية تنتج عن متطلبات المجنمع فيها، و دعواتها الأخلاقية تعبر عن مصالح طبقة بعينها ضدا على طبقة أخرى، إنها مسألة الصراع كما يتحدث عنها ماركس بجلاء، باعتبار أن الصراع الطبقي هو المحرك الوحدي للتاريخ من الامتلاك و الاستغلال، ‘نه استغلال طبقة أقوى لطبقة أخرى أضعف.و لا مناص من القول "الأخلاق بدورها تخضع بدون شك لفكرة التقدم"[25].



v موقف ماكس فيبر.



ينصرف عالم الاجتماع ماكس فيبر في حديثه عن الواجب الأخلاقي و الأخلاق عموما إلى القول بأن الأخلاق في مجملها تنقسم الى نمطين اثنين: نمط أول موسوم بأخلاق الاقتناع ذات المظهر المثالي و المتعالي التي يكون فيها الفرد غير متحمل لأية مسؤولية، و إنما هي مركونة إلى المؤثرات و العوامل الخارجية التي لا يتدخل فيها الفرد، و إنما نتطرح فيه بتأثير الأبعاد الدينية، بما هي صوت متعال يصدر أوامره، حيث إن " أخلاقية الاقتناع لن ترجع المسؤولية إلى الفاعل، بل إلى العالم المحيط و إلى حماقة البشر و إلى مشيئة الله الذي خلق الناس على بهذه الصورة"[26].



و نمط ثان من الأخلاق هو ما كناه بأخلاق المسؤولية، التي تصدر من الذات الفردية و تتأسس على الوعي الفردي الحر، إذ "نحن مسؤولون عن النتائج التي تمكن توقعها لأفعالنا"، و لا ترجع المسؤولية إلى بعد خارجي قسري، لا علاقة لهذه الأخلاق بالقدر أو بالحظ، من ثمة "سيقول الفرد: إن هذه النتائج ترجع إلى مسؤولية فعلي الخاص"[27].



vموقف جون راولز.



إن جون راولز صاحب نظرية العدالة في الفكر السياسي المعاصر، ينصرف في حديثه عن الواجب الأخلاقي إلى الحديث عن الواجب باعتباره نمطا من التضامن ال\ي يبنه و يؤسسه الجيل السابق للجيل اللاحق، حتى يتسطيع الجيل ألول أن يوفر كل إمكانيات العيش الرغيد و المريح، إن " الأجيال السابقة تتحمل على كاهلها أعباء كثيرة تصب في صالح الأجيال اللاحقة"[28]. و بالتالي فكل جيل يتحمل على عاتقه ضرورة تأمين المستقبل الذي لا يجعل الجيل اللاحق في حالة من الضياع و التشتت.



و كثيرة هي المناحي التي ينبثق منها هذا الواجب الأخلاقي بما هو تضامن بين الأجيال، لكن يظهر بلملح بارز في المجال الإقتصادي، إذ الاقتصاد هو المحرك الوحيد للتاريخ، و عدم القدرة على امتلاكه لا يجعل الحياة رغيدة و مريحة، و هذا التضامن هو خدمة للمجتمع عموما و تقسيم الثروات بشكل عادل، و من أجل أن "يكون المجتمع قد أدى واجبه في العدالة"[29].



خاتمة



انطلاقا مما سبق التطرق إليه من مواقف نجد أن الواجب الأخلاقي مفهوم يترواح بين عدة أنظار و مواقف متابينة لا تتعارض و أكثر مما تكون صورة بانورامية حوله، فمنهم من جعل رحج أن الواجب إرادة حرة و مطلقة في مقابل رأي معاكس اديرى التقيض، و طرح آخر يجعل من الواجب الأخلاقي رهين سلطة من السلط قد تكون نفسية أو دينية أو غير ذلك، و نظر آخر يجعل من الواجب الأخلاقي لحظة من لحظات القهر الذي يمارسه المجتمع على الأفراد، أو فضاء يستشرف الواجب الكوني المنفتح كما برغسون.



مع تحيات موقع تفلسف tafalsouf.t35.com





[1] مثل كتابي: نقد العقل العملي وأسس ميتافيزيقا الأخلاق، ومقال "عن الحق المزعوم في الكذب بدافع إنساني".



[2] منار الفلسفة, نص كانط "الواجب إكراه حر"، ص 185



[3] المرجع نفسه



[4] مباهج الفلسفة، نص كانط " الواجب كأمر أخلاقي قطعي وخالص"، ص 175



[5] مباهج الفلسفة، نص إ. دوركهايم، " الواجب ليس فقط إلزاما بل هو محط رغبة أيضا"، ص 177



[6] المرجع نفسه



[7] المرجع نفسه



[8] مباهج الفلسفة، إضاءة، (نص) هيجل، ص 178.



[9] منار الفلسفة، نص هيجل، ص 186.



[10] المرجع نفسه.



[11] منار الفلسفة، نص هيوم ، ص185.



[12] في رحاب الفلسفة، نص غويو "الواجب و القدرة"، ص 186.



[13]كتاب منارالفلسفة،.



[14]كتاب مباهج الفلسفة،.



[15]كتاب رحاب الفلسفة،



[16]الخلق مرادف للأخق في اللغة العربية



[17] يقصد كايم بالتنشئة الاجتماعية هي تربية الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة على ما كانوا عليه.



[18] منار الفلسفة، ص: 192



[19] منار الفلسفة، ص: 192.



[20] في رحاب الفلسفة، ص: 189.



[21] منار الفلسفة، ص: 193.



[22] في رحاب الفلسفة، ص: 190.



[23] في رحاب الفلسفة، ص: 190.



[24] منار الفلسفة، ص: 194.



[25] منار الفلسفة، ص: 194.



[26] مباهج الفلسفة، ص: 183.



[27] مباهج الفلسفة، ص: 183.



[28] مباهج الفلسفة، ص: 185.



[29] مباهج الفلسفة، ص: 185.



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الحق و العدالة

محاور الدرس




1) الحق بين الطبيعي و الوضعي.



2) العدالة كأساس للحق.



3) العدالة بين الإنصاف و المساواة.
الدلالات .




تعد العدالة واحدة من أكثر الموضوعات قدسية وشيوعا في السلوك الاجتماعي، ويمكن أن تتخذ وجوها متضاربة جدا حتى ضمن المجتمع الواحد.



فمن الناحية التاريخية، يعود إنسان وادي الرافدين أقدم مشرعي أحكام العدالة، ÿÿ إذ أن اÿÿ1604;شرائع العراقية القديمة تسبق أقدم ما هو معروف منن شرائع وقوانين في سائر الحضارات الأخرى، كالفرعونية والإغريقية والرومانية بعشرات القرون، فقد وضع الإنسان العراقي القديم تصوراته لموضوع العدالة والظلم في صميم نظرته للآلهة والكون والإنسان. فارتبطت العدالة بالنظام مثلما ارتبطت قيم الخير كلها به، وارتبطت بنشاطات الحياة المختلفة، فقد عدها إلها للحق والعدل، ومزيلا للغموض وكاشفا للحقائق، فإله العدل هو إله المعرفة نفسه، فكان العراقيون يحتفلون في العشرين من كل شهر بعيد مكرس لإله العدالة " شمس " الذي أنجب ولدين هما " كيتو " و " ميستاو " أي العدالة والحق.



غير أن هذه التمثلات ظلت خدمة للإله من طرف الإنسان، أما فكرة " أن العدالة شيء عن حق كل إنسان " فلم تأخذ في التبلور إلا في الألف الثاني ق.م، وهو الألف الذي ظهرت فيه شرائع حمورابي. إذ يذكر هذا الملك البابلي الذي تولى الحكم خلال المدة ( 1792- 1752) ق.م. في مقدمة شريعته : " إن الآلهة أرسلته ليوطد العدل في الأرض، وليزيل الشر والفساد بين البشر، ولينهي استعباد القوي للضعيف، ولكي يعلو العدل كالشمس، وينير البلاد من أجل خير البشر، ويجعل الخير فيضا وكثرة".



بعد ذلك أصبحت هذه المشكلة الأخلاقية بعناصرها الاستفهامية نقطة وحاولت الخوض في ماهية العدالة وغايتها وأساليب تحقيقها عمليا، ومن هنا جاءت تعددية أشكاها : العدالة الطبيعية، العدالة القانونية ، العدالة الاقتصادية، العدالة الاجتماعية...إلخ.



وإذا كان الاهتمام الفلسفي في مراحله الأولى قد اهتم وركز على المجالين الأنطلوجي، فإن الفلسفة الحديثة والمعاصرة ستفكر في مفهوم العدالة والحق من زاوية سياسية، قانونية، أخلاقية .



أما مفهوم الحق فإنه يشير من الناحية اللغوية إلى اليقين والاستقامة والثبات، غير أن تنازله بشكل إجرائي وربطه بالممارسة العملية، يعطيه مكانة في اهتمامات الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر فقد اعتبره" لالاند، في معجمه الفلسفي : معيارا أو قاعدة قانونية أخلاقية، تؤطر علاقات الأفراد فيما بينهم داخل مجتمع سياسي منظم، وذلك أن تنظيم الحياة في المجتمع حسب " كانط" هي التي تفرض " وجود تحكيم عادل ومنصف يطبق على المجتمع ".



وإذا أردنا تحديد بعض الأصول النظرية والتاريخية التي كان لها الفضل في تناول مفهوم الحق نشير إلى تراث بعض الحضارات القديمة وتعاليم الديانات الكبرى، وتطور الفلسفة السياسية والأخلاقية في أوربا مثل: نظريات العقد الاجتماعي، فلسفة عصر الأنوار، بالإضافة إلى صدور إعلانات ووثائق تاريخية إثر حدوث ثورات اجتماعية كبرى مثل : ثورة 1648، الثورة الفرنسية 1789، صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948...إلخ.



ويقترن مفهوم الحق بالعدالة، حيث لا يمكن الحديث عن أحدهما دون استحضار الآخر، الشيء الذي يدفعنا إلى الدخول في حقل استفهامي واسع نحدد بعض تساؤلاته كالتالي :



- هل العدالة فطرية وذات جذور في طبيعة الإنسان؟ أم أنها مكتسب حضاري ناتج عن المجتمع ؟ أي عن التعاقد الضمني بين الأفراد بهدف تنظيم التعايش الاجتماعي ؟.



- وإذا كانت العدالة هي تجسيد للقواعد القانونية والمعايير الأخلاقية بما هي" قيمة أخلاقية يتحدد بموجب هذه القواعد والمعايير، حيث لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن أشكال تجسيداته داخل الدولة، فما هي علاقة الحق بالعدالة ؟ وهل يكفي القانون لضمان الحق والعدالة ؟.



المحور الأول : الحق بين الطبيعي والوضعي .



يؤكد الفيلسوف الإنجليزي TH ( 1588-1679) إلى كون الحق الطبيعي، يتجلى في الحرية التي يتمتع بها كل إنسان، ومادام كل إنسان يهدف إلى تحقيق مصالحه وأهدافه فإن النتيجة المترتبة عن ذلك هي نشوب حرب الجميع ضد الجميع.



فالحق الطبيعي بهذا المعنى هو حرية التصرف والفعل، وغياب الحواجز الخارجية ، التي تمنع الإنسان من فعل ما يريده، ويمكن أن تميز بين الحق والقانون هنا، إذ أن الحق يكمن في حرية القيام بفعل أو الامتناع عنه، في حين يعد القانون إلزاما بأحدهما - أما القيام بالفشل أو الامتناع عنه- إذ يختلفان بالقوة التي يختلف بها الإلزام عن الحرية.



إن أهواء الناس ميولاتهم المتناقضة والمتضاربة من شأنها أن تؤدي بالمجتمع الإنساني إلى العودة إلى حالة الفوضى التي كانت سائدة في حالة الطبيعة، فيقدر ما يحافظ كل واحد منا على حق القيام بما يريد بقدر ما نكون في حالة حرب، إن الحق يقتضي حسب هوبز وضع حد لحالة كانت سائدة في حالة " حرب الكل ضد الكل " وبناء على ذلك فإن العقل الإنساني بناء على قانون طبيعي أكشف قاعدة ضرورة التنازل عن الحرية المطلقة وتعايش الإنسان مع غيره حفاظا على سلامته وأمنه في إطار توافق اجتماعي .



وينطلق سبينوزا ( ق17) من نفس التصور الذي بنى عليه هوبز أطروحته: ( السمك الكبير يأكل السمك الصغير) أي أن قانون القوة يسير على جميع الموجودات والكاتبات حيث القوي يأكل الضعيف، وفي كتابه "رسالة اللاهوت والسياسة"، الذي درس فيه المجتمع المدني وأشكال الأنظمة وأسس المجتمع المدني، يرى أن الحق الطبيعي هو حق لا يخضع لأية ضوابط إلا ضوابط الذات، وتبعا لذلك يكون الكل موجود طبيعي حق مطلق على كل ما يوجد تحت سيطرته، ومن ثم يكون الحق بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها.



إن سبينوزا وإن كان يبدو ظاهريا مع هوبز في موقفه ، إلا انه يلتقي معه في نفس التصور لحالة الطبيعة، إلا أن سبينوزا العقلاني يستبعد أن تكون هناك سلطة خارجية، لها القدرة على وصف حالة الطبيعة ، إلا سلطة العقل، وللتخلي عن حالة العنف والحرب يجب أن يتنازل الفرد في الحق الطبيعي عن طريق تعاهد حاسم.



إن الحق الطبيعي ليس له حدود، سوى حدود ذلك الشخص الذي يمارس ذلك الحق، لكن استمرار هذا الوضع و تشبت كل فرد بحقه الطبيعي سيؤدي إلى تعارض الحقوق والنهاية ستكون مأساوية، لهذا يرى سبينوزا أن العقل هو الذي يميزنا عن باقي الكائنات، هكذا فإن التعاقد السليم هو ذلك الذي ينبني على العقل والغاية من التعاقد هو الخروج من حالة العنف والقوة إلى حالة السلم والأمن والتعاقد بصفة عامة تحتم على الذات التحلي عن كبريائها وليحل ما هو أخلاقي محل ما هو غريزي،فحالة المجتمع أو حالة التمدن كما يسميها روسو (1712-1778) تجعل الإنسان يضمر ما هو أعظم، وهي الحرية الأخلاقية وأعراف الجماعة وبالتالي يكون الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدينة وهو انتقال من حق القوة إلى قوة الحق، أي من الاحتكام إلى القوة الطبيعية الفيزيائية إلى القوة القانونية التشريعية والأخلاقية، والقوة المشروعة في نظر روسو هي قوة الحق، لأن حالة التمدن التي يتحدث عنها تضمن للإنسان نفس الحقوق والواجبات، ومعها تنتهي الحقوق الإنسانية فيتم إقرار العدالة عن طريق عقد القوانين والاتفاقات التي تجمع بين الشمولية وكونية الإدارة وشمولية وكونية الموضوع.



وضمن نظرة عامة للسيادة أرسى روسو قواعد الاجتماع المدني على أساس الحرية والمساواة وتكريس حالة المدنية من خلال انتقال الإنسان من كائن حيواني إلى كائن إنساني ، فإذا كان العقد الاجتماعي قد أفقد الإنسان حريته الطبيعية الغير محدودة، إلا انه أكسبه ملكية جميع ما يقتنيه.



لكن إذا كان الحق يروم إلى العدل فإن القانون لا يرقى دائما إلى هذا المستوى لذلك فما هو قانوني أو مؤسساتي لا يكون بالضرورة حقا، هنا يطرح علاقة العدالة بالحق، كيف يمكن الاحتكام إلى الحق لتحديد ما هو عادل ؟



المحور الثاني : العدالة كأساس للحق.



يظهر مفهوم العدالة مرتبطا بمفاهيم أخرى خصوصا في المجتمع، وارتباطها بحقوق الإنسان وبالأخلاق ومن ثمة تطرح التساؤلات التالية نسفها : هل هناك فعلا عدالة ؟ أم أن العدالة مجرد مثال يصعب حقيقة الوصول إليه ؟ هل العدالة قيمة مطلقة أم نسبية ؟ و أخيرا ما هو البعد الأخلاقي للعدالة باعتبارها قيمة ؟



لقد كان السوفسطائيون من أوائل من عالجوا إشكالية العدالة، فكانوا يعتبرون الفرد مقياس كل شيء وعلى هذا الأساس اعتقدوا أن العدالة غير موجودة أو على الأرجح إنها مفهوم غامض وقيمة لا يؤمن بها الضعفاء، وقد أتت الأطروحة الأفلاطونية لتصحح الفكر السوفسطائي، علما أن أفلاطون لايؤمن بالمفهوم الديمقراطي للعدالة، حيث أكد أفلاطون بصريح العبارة أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبدا لأن الناس خلقوا غير متساويين بطبعهم، ومن ثمة فإن العدالة تتجسد عمليا في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه، فيجب أن يكون التقسيم الطبقي للمجتمع متطابقا مع تقسيم قوى النفس، القوة الشهوانية، القوة الغضبية، والقوة العاقلة، والحكمة تقتضي أن تخضع القوتان الشهوانية والغضبية إلى القوة العاقلة لتصل القوة الغضبية إلى فضيلتها التي تتجلى في الشجاعة .



إن قيمة العدالة هي التي توجه قوى النفس وتضمن تراتبيتها باعتبارها فضيلة الفضائل، وعلى غرار ذلك لا يمكن أن تضمن مدينة مثالية في نظر أفلاطون دون أن يضم المجتمع ثلاث طبقات ( علاوة على طبقة العبد ) وهي : طبقة العامة وطبقة الجند وطبقة الحكام، وهم الفلاسفة الذين عليهم الانصراف إلى إدراك العدالة كقيمة عليا ترتبط بعالم المثل.



أما أرسطو وإن كان هدفه محاربة الفكر السوفسطائي، إلا أنه يختلف مع أفلاطون في تمثله للعدالة، حيث يرى أرسطو أن العدالة تتمثل نظريا في الوسط الذهبي ( لا إفراط ولا تفريط ) الذي يستطيع وحده أن يضمن الفضيلة، وعلى هذا تتأسس العدالة العملية التي تتجلى في توزيع الثروات بين الأفراد بطريقة رياضية تناسبية، بمعنى أن العدالة تقتضي أن يتقاسم الأفراد بينهم بطريقة عادلة الصالح والطالح، كما تتجلى في سن قوانين كفيلة بضمان الأمن والسكينة لسكان المدينة وتقوم العلاقات بين أفراد المجتمع على صداقة حقيقية ومثالية، لأن المؤسسة والقوانين لا يمكن أن تكون مصدرا للعدالة ما لم تكن مؤسسة على الطبيعة، ولن تكون هناك عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة لها، من هنا ضرورة الفصل بين العدالة والمنفعة وهو فصل يؤسس لفضيلة مبنية على الحب والاحترام كأساس للحق، وفي هذا الصدد نجد " شيشرون " cioceron يؤكد أن هناك معيار أساسي للتمييز بين القوانين حيث يقول : " فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح لا نتوفر عن قاعدة غير طبيعية "، وسيكون من باب الحماقة الاعتقاد بأن هذه التمييزات تقوم على الحب والإخاء، فأساس الفضائل هو حب الناس هو أساس الحق ومتى قام الحق على الطبيعة الخيرة للإنسان كان ملزما.



ويعتبر سبينوزا من الفلاسفة الذين تبنوا أطروحة الحق الطبيعي ودعا على تأسيس الحق الديمقراطي، وأكد أن هذا الحق يتلخص في أن لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، وليس هناك فرق بين الإنسان والكائنات الأخرى، فلذا كل الحق في أن يتصرف وفق ما تشتهيه وتمليه عليه طبيعته، فمن هو بطبعه ميال إلى " منطق الشهوة " يتصرف وفق هذا المنطق ( الغاية تبرر الوسيلة ) ومن ينزع بطبعه نحو " منطق العقل " فإنه يتصرف وفق هذا النزوع، لكن لكي يعيش الناس في وفاق وأمان كان لزاما عليهم أن سعوا إلى التوحد في نظام واحد، وذلك من خلال الخضوع لمنطق العقل وحده، وبالتالي كبح جماح الشهوة وهذا أمر لا يتناقض مع الحق الطبيعي باعتبار العقل جزءا منه، وسبينوزا ينظر للعدالة باعتبارها تتضمن حق كل واحد في الحفاظ على حياته ومصلحته بالتساوي.



كما تعتبر فكرة الحق الطبيعي القاعدة المطلقة لكل تشريع والنواة الحقيقية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد شكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعا دوليا لما يحتويه من حقوق لا يجوز التصرف فيها ويتوخى منه أن يكون معيارا مشتركا تقيس به كافة الشعوب والأمم منجزاتها قصد التأسيس والاعتراف بحقوق الإنسان و.........، المبنية على العدالة والمساواة وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للإعلان العالمي الإنسان وما يتضمنه من حقوق لا يجب محاكمتها باسم تجريديتها وباسم ما هو كائن إذ تبقى هذه الحقوق على مثاليتها المعيار الذي تحاكم من خلاله الحقوق الفعلية المتاحة في الدول المعاصرة وتبقى هذه الحقوق المثال الذي تسعى الإنسانية إلى تحقيقه على أرض الواقع عبر إزالة كل العراقيل المناوئة لها



وإذا أردنا تناول قيمة العدالة كأساس الحق من منظور ليبرالي فلا يمكننا أن نمر دون التطرق لأطروحة فريديريك فون هايك الذي عرف السلوك العادل بأنه سلوك يكفل الحق في منظومة قانونية ، شرعية ، في إطار مجتمع تسوده الحرية حيث لا تعكس العدالة دلالتها إلى في نظام شرعي فالقانون الذي يستند على قواعد العدالة له مقاما استثنائيا لا يجعل الناس يرغبون في أن يحمل إسما مميزا فحسب بل يدفعهم أيضا إلى تمييزه بوضوح عن تشريعات أخرى تسمى قوانين ولعل مبرر ذلك يكمن في أنه لو شئنا الحفاظ على مجتمع تسوده الحرية فإن ذلك القسم من الحقوق الذي يقوم على القواعد العادلة هو وحده الكفيل بأن يكون ملزما للمواطنين ومفروضا على الجميع.



وفي نفس السياق يؤكد الآن أن الحق لن يكون عادلا ما لم يتم الاعتراف به من طرف السلطة القائمة ، إن عدالته مبنية على الاعتراف به وإلا حصل العكس حيث القوة تؤسس لحق طبيعي ، لكنه غير عادل ويدعم الآن موقفه ، هذا بأمثلة بسيطة من الواقع المعيش ، فحيازة ساعة ووجودها في جيب اللص ليس في أمر الملكية مطلقا ، ويؤكد الآن على المساواة كأساس للحق حيث ابتكر الحق ضد اللامساواة والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية ، سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا أو مرضى أو جهالا أما أولئك الذين يقولون حسب الآن أن اللامساواة من طبيعة الأشياء فهم يقولون قولا بئيسا .



المحور الثالث : العدالة بين المساواة والإنصاف.



تدور الإشكالية العامة لهذا المحور حول تساؤل أساسي هو كالتالي: إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع ، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟



وللإجابة على هذه الإشكالية لا بد من مقاربة بعض المواقف الفلسفية التي تناولتها عبر تاريخ الفلسفة .



يرى أفلاطون(424-348ق.م) أن العدالة تتحدد باعتبارها فضيلة تنضاف إلى فضائل ثلاث هي: الاعتدال والشجاعة والحكمة ، فالعدالة حسب هذا الأخير هي أن يؤدي كل فرد الوظيفة المناسبة لقواه العقلية والجسدية والنفسية ، فهي (أي العدالة) تتحقق على مستوى النفوس حيث يحدث انسجام بين القوى الشهوانية والعقلية لدى الإنسان فالضامن الوحيد لتحقيق الفضيلة والعدالة هو الدولة التي تملك سلطة القانون والحكمة وتبعا لذلك فإن الوظائف التي تستدعي قدرات عقلية وانسجام الغرائز مع العقل ستكون من نصيب الحكماء والفلاسفة لأنهم هم القادرون على تحقيق الحق والعدالة



الشيء الذي سيختلف معه أرسطو( 384-322ق.م ) فالعدالة بالنسبة إليه لم تعد صفة من صفات النفس بل فضيلة مدنية والعدالة قد تلحقها أخطاء لذلك فإن الإنصاف وحده يصلح قوانين العدالة فالعدالة بالنسبة لأرسطو تقوم على مبدأين هما : المساواة والإنصاف : أي منح الأفراد ما يستحقونه بغض النظر عن القانون.



ما يمكن استنتاجه من خلال نموذج أفلاطون وأرسطو هو أهمية العقل النظري في تحديد الممارسة سواء عند أفلاطون في تصوره للعدالة من منظور رؤيته للخلاص أو عند



أرسطو في تصوره للحياة السعيدة فالحكيم الذي يكرس حياته للتأمل كان يخص بالتقدير والاحترام وينظر إليه كنموذج لأنه يمثل الطريق إلى تحقيق العدالة وتكريس الحق.



أما دافيد هيوم ( 1711-1776م) وهو (من رواد المدرسة التجريبية ) فإن العدالة بالنسبة إليه تفقد معناها عندما تكون غير ذات نفع، ويدعو إلى التصرف أكثر إنصافا من أجل مصلحة ما، حيث ما وجدت مصلحة وجدت العدالة مادام الإنسان يميل بطبيعتها إلى تحقيقها.



وهناك من يذهب إلى السخرية من العدالة لاستحالة تحقيقها، أما الإنصاف فيتحقق بفعل العرف الذي يعتبر بمثابة الأساس الروحي لسلطته وسببا في القبول به، هذا ما عبر عنه أحد المفكرين يدعى باسكال.



وابتداءا من الستينات وبداية التسعينات من القرن الماضي ستعرف نظرية العدالة كإنصاف انتشارا كبيرا.



وقد حاول " جون راولس " تطوير نظرية أرسطو فيما يتعلق بالعدالة، من خلال نقده للفلسفة النفعية وذلك من خلال إعطائه قيمة كبرى لفكرة الإنصاف في المجتمع متنكرا للمفاهيم البراغماتية للحق والعدالة التي كرستها فلسفة : الإنسان حر في تحقيق منافعه الخاصة ولو على حساب الآخرين.



ويعني الإنصاف بالنسبة لراولس،إعطاء كل فرد في المجتمع حق الاستفادة بالتساوي من الحقوق الأساسية واعتبر أن اللامساواة مقبولة عقليا على أرضية تكافؤ الفرص التي تسمح للأفراد بلوغ مراتب ووظائف عليا في المجتمع، هكذا يحكم راولس على المؤسسات السياسية والاجتماعية هل هي عادلة ؟ أم ليس كذلك ؟.



يظهر إذن أن الإنصاف باعتباره الضامن الوحيد للمساواة بين الأفراد فيما بينهم أساسي لتحقيق العدالة، ذلك أن هذه الأخيرة " يمكن أن تقع في أخطاء وتنحرف " وبالتالي فإن هذه القاعدة عندما تغدو مرجعية شمولية، آنذاك يتحقق الحق شرطا أساسيا لتحقيق العدالة ؟.



هذه النتيجة يمكن استنتاجها على أرضية نقد القانون الوضعي الذي يكون في أغلب الأحوال بعيدا كل البعد عن الحق والعدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات، أي أن القانون الوضعي لا يكون دائما مرجعية للدفاع عن الفرد والجماعة ضد الدولة، فحتى يتسنى للحق أن يشتغل فعليا كقيمة مشتركة من أجل العدالة والمساواة والحرية، بين مختلف جماعات المجتمع الواحد، أو بين مختلف المجتمعات وحتى يمكن أن يكون بمثابة حس مشترك للحوار والتواصل، يعني أن يظهر كإطار مرجعي شمولي تكمله الحياة الاجتماعية للناس.



العدالة أساس الحياة الراقية، ولتحقيقها على الإنسان الالتزام بمبادئها القائمة على الحرية والمساواة واحترام حقوق الأفراد السياسية.



وذلك لا يعني البقاء في حالة الطبيعة، كما صورها هوبز، ولكن المسألة تقتضي الاحتكام إلى معايير تنسجم وطبيعة الإنسان ككائن متميز، عاقل، واع، منتج، فالظلم رافق الإنسان منذ بداياته، ظلم الطبيعة، وظلم البشر للبشر...، خصوصا عند ظهور الملكية التي أدت إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولعل حلم الإنسان لتحقيق العدالة ليس وليد اليوم، ولكنه ضارب في تاريخ البشرية، نصادف في مساره ما يسمى قوانين حمورابي التي ستبلور مبدأ العدالة حق لكل إنسان.



فالتاريخ البشري يمكن النظر إليه بوصفه تاريخ الظلم وتاريخ الصراعات الدامية من اجل فرض معيار موحد للعدالة ولعل اختلاف المواقف والاتجاهات الفلسفية التي تناولت هذا الإشكال تعكس ذلك الرهان.




دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : العنف

محاور الدرس




1) أشكال العنف.



2) العنف في التاريخ.



3) العنف و المشروعية.

تقديم المفهوم:




يبدو أن مظاهر العنف كثيرة، فهو يمارس بأشكال متنوعة. هناك العنف الفزيائي من ذلك مثلا القتل و الاغتيال، لكن هناك العنف السيكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من خلال استغلال الطبقات أو البلدان الضعيفة. مثلما، أن هناك عنف الأنظمة التوتاليتارية ذو الأهداف السياسية و عنف العنصرية... إلخ و اللائحة طويلة إلى درجة تدفع إلى إثارة السؤال عما إذا كان هذا التعدد في صور العنف و أشكاله يعبر عن واقع ثابت أم أن استعمال مفهوم وحيد لا يعكس الإختلافات بين مظاهره ليس من الناحية الكمية فحسب. و إنما أيضا الجوهرية. إنه يوجد في كل مكان. و يمكن استعماله كموضوع للبروباغندا و إلا كعنصر من عناصر تاكتيك للوصول إلى السلطة و المحافظة عليها. إذا أدى العنف إلى تدمير الوجود برمته أو جزء منه، فإن العنف المنجز قد يكون أداة في خدمة مشروع يمكن ألا يكون عقلانيا، لكن شروط استعماله تبدو قابلة للعقلنة.



يمكن أن نسلم بصفة أولية أن العنف يوجد كلما كان هناك إلحاق للأذى بالغير بصفة جسدية أو نفسية، سواء أخذنا الغير كفرد أم كجماعة أو مجموعة بشرية.



إذا اعتبرنا هذا التعريف جيدا يجب أن نتصور العنف كواقعة تارخية و يتحدد بإعتباره كمحرك أو دينامو للتاريخ من وجهة نظر معينة، و يقوم على استخدام القوة بشكل غير مشروع لسبب من الأسباب. فكيف يمكن مراقبة العنف و التحكم فيه إذا كان يجب أن نبدأ بقبول حضوره الجذري في الإنسان؟



لقد أنتجت البشرية على مدى التاريخ آليات و وسائل للحد من العنف حيث يعتبر الدين و الثقافة كعنصرين كابحين للعنف بشكل معنوي و أخلاقي، على أن أهم تقنية للتحكم في العنف تتمثل في التنظيم السياسي للمجتمع ينبني فيه هذا الأخير في صورة مؤسسات حديثة تجتث العنف و تجعل استخدامه حكرا على جهاز الدولة. و في هذا السياق تبرز الديموقراطية كنظام يتطلع إلى القضاء على العنف و تدبير الخلافات و الصراعات السياسية بكيفية حضارية تقوم على قوة القانون و ليس على قانون القوة: فإلى أي حد نجحت الدولة الحديثة في القضاء على العنف؟ و هل من حق الفرد أو الجماعة ممارسة العنف من أجل فرض ما يعتقد أنه حق و عدل و خير؟



المحور الأول:



أشكال العنف: ما طبيعة العنف؟



أفرز التاريخ البشري أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نميز ضمنهما بين نوعين، هما: العنف الجسدي و العنف الرمزي. كلاهما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار بقدر تطور العلم و التقنية. و ليس بديهيا أن تكون هذه الأشكال دائما ظاهرة، ذلك ن أن أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال متخفية مثلما هو الأمر في << نقص التغذية>> كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو. يرى هذا الأخير أن إنتاج وسائل العنف يشمل << وسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل التخريب الجماعي>>.



و بما أن هذه الوسائل أصبحت في متناول الكل: أفرادا، جماعات، دولا، فإن العنف يصير أكثر فتكا. كما أنه أضحى أكثر اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن هذا الأخير يسخره عن طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص هذا الفيلسوف إلى أن << تطبيق التقدم التقني و العلمي على استعمال العنف و على كيفية تدبيره يمكننا من فهم.



أ- الفعالية المضاعفة التي تم التوصل إليها فيما يخص أشكال التحطيم و التخريب . فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة مزروعات، و تهديد حياة الملايين من الناس تتطلب وسائل و تنظيما لم يسبق له مثيل.



ب- من حيث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حيث أصبح من الممكن فرض السيطرة بواسطة التعذيب و القمع و التهديد به>>. فهل معنى هذا أن العنف هو ما يشكل ماهية الإنسان؟ هل الإنسان كائن عنيف بطبعه؟ هل يوجد العنف في طبيعة الإنسان؟ هذا السؤال يطرح نفسه بالنظرإلى قدم الظاهرة و استمرارها عبر التاريخ البشري، و هو يتعلق بما إذا كان الإنسان شغوفا بالتدمير؟ من يجيب الفيلسوف و عالم الإجتماع و المحلل النفساني الألماني إيريك فروم عن هذا السؤال بالقول:<< إن دراسة بعض الظواهر الإجتماعية و الطقوس الشعائرية القديمة قد توحي بأن النزعة التدميرية لها جدورها النظرية في طبيعة الإنسان . إلا أن التحليل المعمق لدلالات هذه الظاهرة ، يثبت أن كل الممارسات التي تؤدي إلى التدمير ليست ناتجة بالضرورة عن < شغف بالتدمير> . بالتالي فإن التدمير ليس سلوكا ينتج بصفة عملية عن غريزة تدميرية توجد في طبيعة الإنسان بقدر ما ينتج عن دوافع ونزعات ليس من الضروري أن تكون طبيعية وذات علاقة بالممارسات والشعائر الطقوسية الدينية . يترتب عن ذلك أن الطبيعة البشرية ليست هي التي تولد العنف وإنما هناك < طاقة تدميرية كامنة تغديها بعض الظروف الخارجية والأحداث المفاجئة هي التي تدفع به إلى الظهور> .



وأما المقصود بالعنف الرمزي فهو مختلف أشكال العنف غير الفيزيائي القائمة على الحاق الأذى بالغير بواسطة الكلام أو اللغة أو التربية أو العنف الذهني ، وهو يقوم على جعل المتلقي يتقبل هذا العنف <<اللطيف>> مثال ذلك العنف الرمزي الذي تقوم به الإديولوجيا من حيث هو عنف لطيف وغير محسوس . يعرف عالم الإجتماع الفرنسي المعاصر بيير بورديو هذا الشكل من العنف بالقول أنه هو ذلك الذي < يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته > وبلغة أخرى < فإن الفاعلين الإجتماعيين يعرفون الإكراهات المسلطة عليهم وهم حتى في الحالات التي يكنون فيها خاضعين لحتميات يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعا من التحديد و الإكراه> و بالنظر إلى أن هذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية، أي التواصل و تلقين المعرفة.



المحور الثاني:



العنف في التاريخ: كيف يتولد العنف في التاريخ البشري؟



يتحدد وجود كل مجتمع بشري – حسب ماركس- بوجود صراع بين طبقتين اجتماعيتين، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض و الثانية لا تمتلكها.



و ذلك منذ أقدم المجتمعات البشرية و أكثرها بدائية إلى المجتمعات الرأسمالية المتطورة . و هكذا ، فإن صراع الطبقات الإجتماعية يمكن أن يتخذ أشكالا فردية لا واعية عند الأفراد أنفسهم، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح المعالم.



كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس في هذا السياق السابق: <<نلاحظ أنه منذ العصور التاريخية الأولى كان المجتمع في كل مكان مقسما إلى طبقات متمايزة ... ففي روما القديمة كان هناك سادة و فرسان، وأقنان و عبيد، و في العصور الوسطى كان هناك سادة و شرفاء، و سادة الحرف، و الحرفيون العاديون و أقنان، كما أن هناك داخل كل طبقة من هذه الطبقات سلم تراتبي خاص>> و قد أصبح الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي بين البرجوازية و البروليتاريا.



و بالمقابل يرى المفكر الفرنسي روني جرار أن أساس العنف هو تنافس الرغبات ، و ذلك أن الرغبات الإنسانية تخضع لقانون المحاكاة،أي كرغبات في ما يرغب به الأخرون،<<كلما كانت رغبة الأخرين (في شـيء ما) قوية و شديدة كانت رغبتي أنا أيضا قوية و شديدة (فيه). ينتج عن ذلك احتمال اندلاع العنف.



وهكذا فإن الصراع الإنساني يتولد عن صراع أو تنافس بين الرغبات. و إذا صح أن الرغبات تتشكل و تتطور من خلال المحاكاة، فإن العنف سيكون معديا من خلال انتشاره في الجماعة من فرد إلى أخر. و دواء هذا المرض المعدي هو القتل.



و هذا الطرح يرجع بنا إلى تصور الفيلسوف الأنجليزي الحديث طوماس هوبز حول جذور العنف الذي يعتقد فيه أن مصدر هذا الاخير ثلاثي، و يتمثل في: التنافس، الحذر ، الكبرياء، و هي أسباب توجد في الطبيعة الإنسانية. الأول يجعل الهجوم وسيلة لتحقيق((المنفعة))، الثاني وسيلة ((للأمن)) و الثالث وسيلة لحماية ((السمعة)).



على أن العنف له صلة أيضا بالتقديس و بالحقيقة، فهو يشكل إلى جانبهما << الأركان الثلاثة لكل تراث مشكّل و مشكّل للكينونة الجماعية>> كما سماها المفكر العربي محمد أركون الذي يشرح هذه العلاقة على نحو ما يلي:<< الجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف، و تقديس، و إلى حقيقة لكي يعيش و لكي يجد له معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس و التقديس مرتبط بالعنف و كلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يعتقد أنه الحقيقة. و الحقيقة مقدسة و تستحق بالنسبة لأصحابها، أن يسفك من أجلها دم >>.



المحور الثالث:



العنف و المشروعية: هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق و القانون و العدالة؟



يرى عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، و أنها وحدها تملك الحق و المشروعية في استعماله. من أين ينبع هذا الحق أو المشروعية؟ إنهما يرتدان إلى التعاقد الإجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب للدولة عن حق استعمال العنف على أساس نظام سياسي حديث يتميز بتقسيم السلط و مراقبتها لبعضها و بإجراء انتخبات بصورة منتظمة من أجل تشكيل هذه السلطة. و بالتالي يصبح العنف مرتبطا بالدولة الديموقراطية الحديثة التي تضبط العنف و تحتكر استعماله. و يستشهد م.فيبر في هذا الصدد بقولة تروتسكي : << الدولة هي كل جهاز(حكم) مؤسس على العنف>> و هذه هي ميزة عصرنا الحالي، بحيث أنه لا يحق لأي كان استعمال العنف إلا عندما تسمح الدولة بذلك . فهذه الأخيرة << تقوم على أساس استعمال العنف المشروع >> و ستكون السياسة هي ((مجموع الجهود المبذولة من أجل المشاركة في السلطة أو من أجل التأثير على توزيع السلطة)).



لكن هل استخدام العنف حق مشروع لكل أشكال الدولة بما فيها الدولة الاستبدادية أم هو حق فقط للدولة القائمة على أساس ديموقراطي حديث؟



الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن عنف الدولة لا يكون مشروعا إلا عندما تكون هذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي على التمثيلية، الإنتخابات، الحريات العامة، التعدديةالسياسية، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن يفترض هنا ان العنف هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف أي مواجهة القوة بالقوة. و ضد هذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعيم الهندي الشهير أن العنف رذيلة، و إذا كان العنف قانونا حيوانيا، فإن اللاعنف هو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف هذا الأخير على نحو ما يلي:((الغياب التام للإرادة السيئة تجاه كل ما يحيى)) إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا، << هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيى>> الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بين الأفراد و الأمم. و ذلك ليس فيه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على العكس من ذلك فاللاعنف مناهض للشر لكن بوسائل الخير. إن القوة الحقيقية بهذا المعنى هي قوة الروح التي تستطيع أن تنجح في جعل اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحية على القوة الفزيائية.

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الدولة

محاور الدرس




1) مشروعية الدولة و غاياتها.



2) طبيعة السلطة السياسية.



3) الدولة بين الحق و العنف.



تقديم :




تعتبر الدولة أهم مؤسسة تسهر على تسيير المجتمع و تدبير شؤونه ؛وهي بذلك أشمل تنظيم



يعكس مجموعة أفراد المجتمع.ويتجلى هذا التنظيم في عدد من المؤسسات الإدارية و القانونية والسياسية و الإقتصادية التي تتطابق مع متطلبات المجتمع. إن وجود الدولة نابع من قصور المجتمع عن تسيير شؤونه في غياب هذه المؤسسة التي تحفظ وجوده و تضمن



استمراريته.



لكن بالرغم من هذه الأهمية التي تشغلها مسألة الدولة ؛يبقى سؤال ماهي الدولة غامضا. وهذا الغموض نابع من الأدوار المعقدة التي تلعبها الدولة والتناقضات الواضحة التي ترافقها .وإذا كانت الغاية من وجود الدولة هي تنظيم أمور المجتمع فهل يقف دورها عند مسألة التنظيم؟ هل يمكن الحديث عن حياد الدولة؟ ثم كيف يكون وجود الدولة مشروعا.؟



يمكن معالجة هذه الاشكالات من خلال المحاور التالية :




- المحور الأول : مشروعية الدولة وغاياتها



1- غاية الدولة تحقيق السلم .( نص هوبز)



لقد جعلت الطبيعة الناس أحرارا و متساويين ؛ غير أن هذا التساوي لا يتحقق مع حالة الطبيعة التي تقوم على اساس الحرب الدائمة والفوضى و الخوف ،وهذا ما يؤدي إلى فناء الجنس البشري .ولذلك كان من الضروري ان يبحث الإنسان عما يساعده على تحقيق الأمن والإستقرار والسلام .لقد اعتبر هوبز حالة الطبيعة حالة حروب و نزاعات بين الأفراد وهي ما سماها بحرب الكل ضد الكل ، لذلك كان لزاما وقف استشراء العنف والإنتقال بالتجمع البشري الى مجتمع الدولة المنظمة . والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الإنتقال هو التعاقد الإجتماعي الذي يضمن السلم والأمن بوجود حاكم يكون خارج هذا العقد حيث يتنازل الأفراد برضاهم عن بعض حقوقهم الطبيعية لفائدة الحاكم قصد تحقيق المنفعة العامة . وهذا التوافق بين الشعب و الحاكم ادى الى نشوء الدولة . والحاكم في نظر هوبز لا يمكن ان ياتي بتصرف يخالف المصلحة العامة لانه بعيد عن الوقوع في الخطأ و بالتالي يفرض تصور هوبز الخضوع التام لهذا الحاكم .



2- غاية الدولة هي الحرية.( نص اسبينوزا)



يشير اسبينوزا في هذا النص الى أن الغاية التي انشئت من أجلها الدولة هي حماية حرية الأفراد و سلامتهم وفسح المجال أمام طاقاتهم و قدراتهم البدنية و العقلية والروحية .إن تحقيق هذه الأهداف (الأمن،الحرية ...) يقتضي تنازل الفرد عن حقه في أن يسلك كما يشاء .ومقابل هذا التنازل يتمتع الأفراد بحرية كاملة في التعبير عن آرائهم و أفكارهم مع بقائهم متمتعين بهذا الحق مادام تفكيرهم قائما على مبادىء العقل واحترام الأخرين و ايضا ما دام الفرد لم يقم باي فعل من شانه الحاق الضرر بالدولة.



3- الدولة تجسيد للعقل.(هيغل).



ينطلق هيجل من محاولة إبراز قصور التقليد الفلسفي السياسي التعاقدي بجعل غاية الدولة تقف في حدود تحقيق الأمن والحرية والملكية الخاصة .إن الدولة غاية في حد ذاتها , باعتبارها نظاما أخلاقيا يكون في احترامه احتراما للعقل باعتبار الدولة تجسدا للعقل، لذلك كان من الواجب الإنخراط في الدولة؛ فلا وجود لحرية الأفراد في غياب حرية الدولة فمنها يستقي الأفراد حريتهم .



إن اقتصار دور الدولة على تحقيق غايات خارجية (السلم ،الملكية الخاصة،الحرية....) يجعل الإنتماء الى الدولة مسالة اختيارية والحال أن علاقة الفرد بالدولة أوثق واوطد.فمصير الفرد ان يعيش في حياة جماعية كلية . هكذا تختفي النزعة الفردية في التصور الهيجيلي للدولة والذي يجعل لها سلطة مطلقة تسحق الفرد تحتها كما أنها ذات سيادة وروح كليتين.



ملحق: مشروعية سلطة الدولة(نص ماكس فيبر)



يستعرض ماكس فيبر في بداية الفصل الثاني من كتابه"العالم والسياسي"لنظرية في خصائص مشروعية السلطة في المجتمعات ؛ حيث اعتبر ان الدولة هي المعبر الفعلي عن علاقات الهيمنة وذلك وفق نموذج سياسي معين ؛ إذ تتنوع أشكال الممارسة السياسية بتنوع البعد التاريخي للمجتمعات .وفي هذا الصدد يمكن النظر مع فيبر الى تاريخ الدول /السلط /المشروعيات بماهي تعبير عن السلطة كمؤسسة حاكمة وقائمة في التاريخ . واولى هذه السلط ؛ تلك التي يمثلها"الأمس الأزلي" من خلال الاحتكام إلى العادات و التقاليد .وهذا ما يبرر ذلك الاحترام و التقديس الذي يحف تلك الأعراف السائدة في هذا التحمع القبلي أو الاجتماعي ؛ حيث تبرز هذه السلطة التقليدية في شخص الأب الأكبر او السيد . أما ثاني هذه السلط؛ فتلك المبنية على المزايا الشخصية لفرد ما لكونه يتمتع بكارزمية تجيد لفت الإنتباه إليه مادام يتمتع بقدرات خارقة تجعله ملهما وبطلا في أعين من يحيطون به ؛ مما يكسبه هالة من الوقار والاحترام والثقة تجعل منه زعيما لهذا التجمع البشري ..وهذا النوع من السلط هو الذي مارسه الانبياء ؛ أو قائد الحزب أو الديماغوجي الكبير .واخيرا تلك السلطة التي تفرض نفسها في إطار فضيلة المشروعية ؛ بمعنى تلك السلطة التي تؤمن بصلاحية النظام السياسي القائم من خلال الايمان بمشروعه وكفاءته واحتكامه لقواعد عقلانية ؛ او لانها سلطة قائمة على مبدأ الخضوع والا متثال للواجبات و الإلزامات المطابقة لقوانين النظام القائم ؛ وهذه السلطة هي التي يمثلها "خادم الدولة الحديثة".



إن دوافع احتكام الناس إلى السلطة منبعه خوف الناس من الممسكين بزمام السلطة؛ أو ذلك الأمل الذي يحيا في كل فرد بالجزاء الذي قد يحصل عليه سواء دنيويا أو في العالم الأخر . ويمكن القول أن تبرير مثل هذه التمثلات يكتسي اهمية كبرى بالنسبة لبنية السيطرة ؛ بل ومن الأكيد أن مصادفة مثل هذه النماذج في الواقع يعد أمرا نادرا جدا ؛ومع ذلك لم يعد اليوم ممكنا الحديث باستعراض كل تفاصيل هذه النماذج إلا بدمجها في إطار النظرية العامة للدولة.





-المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية.



1-السياسة بما هي صراع(نص مكيافيللي)



تعتبر السلطة السياسية شكلا من أشكال التنظيمات التي تنظم حياتنا الاجتماعية والسياسية وذلك بوسائل وطرق مختلفة وطبائع متعددة، فلا يمكن تصور حياة اجتماعية منظمة دون وجود سلطة سياسية وراءها.و يعد مكيافلي من الأوائل الذين فكروا في إشكالية السلطة وطبيعتها داخل الدولة بعد أن تم استقلال الدولة الأوربية عن سلطة الكنيسة؛ وهو ما يصطلح عليه بنموذج الدولة الحديثة التي أصبحت ترتبط بشخص الأمير وقدراته في استخدام كل الوسائل الممكنة المشروعة وغير المشروعة ، القانونية والغير القانونية ،بتحقيق الوحدة و إرساء القوانين.



فما يذهب إليه مكيافلي في كتابه الأمير،كيف للأمير أن يحكم ؟ وأن يحفظ حياته وحياة الناس معه داخل الدولة ؟ فالدولة حسب مكيافلي غير منفصلة عن الأمير الذي يحكمها، فهما شيء واحد.



لهذا نجد مكيافلي يقدم مجموعة من النصائح للأمير من أجل توطيد سلطته السياسية وذلك عبر استغلال الفضائل الحميدة والرذائل وتوظيف الوسائل المتاحة و لكن شريطة ألا يفقد الأمير حب شعبه له لأنه قد يحتاج هذا الحب في وقت الشدائد،وهذا ما يجعل الأمير يتعامل وسط الناس بحيطة و حذر حيث يرى مكيافلي أنه على الأمير أن يكون ثعلبا وأسدا في نفس الوقت فكيف للحاكم ان يكون مثل ذلك؟



إن هذا الاعتبار يعني أن هناك طريقتين في ضبط الحكم ، الطريقة الأولى و كما يشير إليها مكيافلي هي الطريقة القانونية والتي تعتمد أو تستند إلى ماهو قانوني. أما الطريقة الثانية فهي طريقة القوة و التي من خلالها يستطيع الأمير إرهاب وتخويف الأعداء، لهذا على الأمير ان يعرف كيف يحكم ، وكيف يتصرف انطلاقا من هاتين الطريقتين؟ فأن يكون ثعلبا معناه ان يعرف كيف يحمي نفسه من الوقوع في الفخاخ و أن يكون أسدا معناه أن يكون شديد القوة و الجهامة حتى يخيف الآخرين.



فممارسة السياسة حسب هذا الطرح تكون بحب الطبائع البشرية، فالأمير يحكم بوفاء وإخلاص مع وجود الناس الأخيار، وطبعا ليس كل الناس مثل ذلك، فمنهم الأشرار وهؤلاء يستوجب معهم نوعا من السلطة التي تحول دون هذا الشر، فمن أراد أن يكون ثعلبا من اجل أن يخدع الناس قد يجابه بخداع اكبر منه ويسقط في فخ قد يكون وهو الذي نصبه بنفسه.



فإلى أي حد يمكن القول معه أن السياسة هي نتاج الصراع والقوة؟



2-السياسة بما هي اعتدال(نص ابن خلدون)



إن ما ينطلق منه ابن خلدون في تصوره لطبيعة السلطة السياسية قد يختلف تماما عن ما ذهب إليه مكيافلي في تصوره السالف الذكر، فما مضمون تصور ابن خلدون للسلطة؟



في تحليل ابن خلدون لمفهوم الدولة وكيف ينبغي للدولة ان تكون وما يجب ان تقوم عليه العلاقة بين السلطان والرعايا،يذهب إلى انه لا يمكن للرعية ان تستغني عن السلطان ولا للسلطان أن يستغني عن الرعية، فالعلاقة جدلية بينهما فالسلطان هو من له رعية، والرعية هي من لها سلطان. وهذه العلاقة هي نموذج السياسة المثلى التي تقوم على الاعتدال،وإذا كانت هذه الملكة( الاعتدال) تقوم على الرفق والحكمة حصل المقصود بين السلطان ورعيته .أما إذا كان السلطان على بطش وعقاب فسدت هذه الملكة وحل الذل والمكر محل هذا الرفق، فحسن الملكة بين السلطان ورعيته هو التوسط و الاعتدال، بمعنى لا إفراط في الشجاعة والكرم حتى التهور وبالتالي الانحلال ، ولا إفراط في الجبن و البلادة حتى الجمود. فهذا يتنافى و الصفات الإنسانية حسب ابن خلدون؛ فالحاكم والسلطان هو من يحكم رعاياه باعتدال و توسط وليس الدخول معه في صراع وتحايل ومكر وخداع .



3-فصل السلط و استقلالها(نص مونتيسكيو)



يذهب مونتسكيو في كتابه" روح القوانين" الى التمييز بين ثلاث وظائف أساسية للدولة وهي : السلطة التشريعية- السلطة التنفيذية- السلطة القضائية.فالأولى متمثلة في البرلمان وهي التي تشرع القوانين داخل الحياة في الدولة.أما الثانية تتمثل في الحكومة والتي تكون بتنفيذ تلك القوانين , كما تعمل أيضا على توفير شروط الأمن للمواطنين.أما النوع الثالث فيتجلى دوره في تطبيق تلك القوانين وممارستها و هذا النوع الأخير كما يقول مونتسكيو هو الكفيل بضمان الأمن و الحرية. لهذا يذهب مونتسكيو الى الفصل بين هذه السلط الذي من أجله يتأتى جو الأمن والحرية والمساواة و أن تداخل هذه السلط حسب مونتسكيو قد يؤدي إلى الجور والظلم وإهدار حقوق المواطنين وسلب حرياتهم. ولذلك وجب استقلال كل من السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية بحيث لا يجوز لهذه الأخيرة أن تصدر أحكاما كما لا يجوز لها أن تعرقل الأحكام التي أصدرها القضاء أو الحكومة.



ونفس الأمر بالنسبة للسلطة القضائية بألا تتدخل في اختصاصات السلطة التنفيذية وأيضا نفس الأمر بالنسبة للسلطة القضائية مع السلطة التشريعية بمعنى ألا يكون المشرع قاضيا،فهذا قد يؤدي حسب مونتسكيو إلى تعذر قيام العدالة والمساواة والتي قد تضيع معها كل القوانين والمراسيم من جهة ، ثم الأحكام –التي هي من اختصاص القضاء –من جهة ثانية. بهذا وجب أن يستقل القضاء عن السلطة التشريعية حتى نتجنب الظلم و الطغيان كما يوضح مونتسكيو.وهذا لا يعني الانفصال المطلق والتام بين هذه السلط كما يدعو مونتسكيو، بل إن هناك في الحقيقة تعاون وتعاضد فيما بينها.فكل واحدة من هذه السلط تكمل الأخرى فالسلطة التشريعية أو البرلمان هي الرافد الأساسي الذي يستند إليه القضاء في إصدار الأحكام ،وهذه الأحكام بالضرورة تحتاج إلى تنفيذ والذي يتولى هذه المهمة هو الحكومة أو السلطة التنفيذية.



من هنا يمكن القول على أن التكامل بين السلط طبيعي ومقبول وإن كنا قد أكدنا مع مونتسكيو على ضرورة الفصل والاستقلال وعدم تداخل إحدى هذه السلط في مجال الأخرى الذي قد يؤدي الى ضياع الحقوق . بالإضافة إلى كل هذا يجب على الدولة ان توفر لمواطنيها حقا آخر يرتبط في الواقع ارتباطا وثيقا بحق الحرية، ألا وهو حق الأمن والرعاية ضد الأخطار الخارجية.



ملحق: الدولة مجموعة من الأجهزة( نص ألتوسير)



طرح تجديد الفكر الماركسي إشكالا نظريا فيم يخص مسألتين : الأولى تتعلق بأن كل محاولات التجديد التي لحقت الماركسية اتهمت بالمراجعة ؛ أو اتهمت بتحريف أصول الماركسية.والثانية تتعلق بأن مسألة طرح الماركسية من جديد في المجتمع بعيد عن لحظة ماركس بعشرات السنين؛ معناه إعادة النظر أو على الأقل تكييف الفكر الماركسي مع معطيات العصر. وفي هذا الصدد يحضر لوي ألتوسير كأهم منظر للنظرية الماركسية .وفي هذا النص يكشف ألتوسير عن الأبعاد الأيديولوجية الأجهزة الدولة مستثمرا في ذلك العدة المفاهيمية لماركس من خلال استحضار مفهوم الصراع والهيمنة والتحكم والمراقبة والقمع والعنف. ومن هذا المنظور يميزالتوسير بين نوعين من الأجهزة التي تحكم بها الدولة ؛ النوع الأول يرتبط بجهاز عياني يتمثل في الجيش والشرطة والسجون ؛ حيث يمثل جهازا عنيفا تتم بواسطته قمع كل أشكال الانحراف والتظاهر ؛ أي أن الدور المنوط بهذا الجهاز هو شل حركة المجتمع نحو الثورة .أما النوع الثاني فيرتبط بجهاز اخر أكثر تكتما تسرب من خلاله الدولة إيديولوجيتها الخاصة وفق الشروط والظروف التي تسمح لها بذلك ؛وفي هذا الإطار يمكن إدراج كل مؤسسات الدولة : مؤسسة دينية ، مدرسية، قانونية، إعلامية...



إن كل هذه المؤسسات تمارس الدور المكمل لما تقوم به أجهزة الدولة القامعة،التي و إن كانت تمارس العنف المادي، فإن هذه المؤسسات الأخيرة تمارس نوعا من التعمية و التعنيف الايديولوجي من خلال ما تمارسه من إكراه فكري؛ بل وأن هذه السلطة التي تمتلكها تبقى في كل المجتمعات متخفية لكونها إما تخاطب الجانب الوجداني أو الإلزامي(الدين، القانون) في الإنسان؛ ومن تم، فهذه الأشكال الإيديولوجية لابد وأن تتكامل فيما بينها لتنتج شكلا قمعيا للدولة.



ملحق: السلطة ليست مجموعة أجهزة ( نص ميشيل فوكو)



يمكن القول على سبيل افتراضي أن التصور الفوكوي لطبيعة السلطة السياسية يختلف عدة ونتائج عن التصور الألتوسيري لأشكال أجهزة الدولة وممارستها لفعل القمع .وهنا يجب أن نشير إلى ان فوكو ينطلق من فرضية تقول أن الإستراتيجيات و علاقات القوى المتعددة التي تتداخل فيما بينها هي التي تخلق سلطة الدولة ومؤسساتها .ومن هذا المنطلق ، فإن السلطة عند فوكو لا تعبر عن شكل متعال عن مجال اشتغالها ، بل عن شكل محايث يطلق على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين .



إن التصور الكلاسيكي للسلطة ظل محصورا في مجموع الأجهزة و المؤسسات التي تمكن من إخضاع المواطنين داخل دولة معينة سواء عن طريق العنف أو عن طريق القانون. لكن فوكو سوف يرفض هذا التصور بدعوى أن الانطلاق من فرضية سيادة الدولة في إطار الشرعية و الهيمنة معناه الوصول إلى الشكل النهائي للسلطة، وعليه، فإن الذي يهم ،حسب فوكو، هو البحث عن أشكال تغلغل وتواجد وتصارع مجموعة من القوى داخل مجتمع ما لتفرز شكلا مهيمنا ما. يقول :"يبدو لي أن السلطة تعني بادئ ذي بدء علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة الذي تعمل فيه(....) إنها الحركة التي تحول تلك القوى و تزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات التي لا تنقطع". ولا يخفى ان القول بحتمية الصراع معناه التوسل بخطط واستراتيجيات تضمن دوام المنافسة و الصراع مع الخصم من أجل الهيمنة. فإذن ما السلطة؟يجيب فوكو بقوله "يجب تحليل السلطة كشيء متحرك ، وبالأحرى كشيء لا يمكنه الاشتغال إلا عن طريق التسلسل ، فهي ليست محلية وليست بيد أحد ، بل تشتغل في إطار شبكة ، ومن تم( تضمن) حركة الأفراد بجعلهم مستعدين للخضوع أو ممارسة السلطة ." والقول بشبكية السلطة معناه الإقرار بعدم جدوى البحث عن السلطة في النقط المركزية للدولة كما تمثلها المؤسسات ، بل من الضروري الالتجاء إلى أكثر النقط الهامشية لأنها أكثر فاعلية .ومن هذا المنظور ، يلح فوكو على اعتبار السلطة نوعا من المعرفة الإستراتيجية الموجًهة والموجَهة ، فمن جهة لا تشتغل السلطة إلا على نحو معرفة ، والمعرفة هي التي تضمن سيادة السلطة .ولهذا يمكن القول أن السلطة متواجدة في كل مكان وزمان نظرا لقدرتها على التولد في كل لحظة ؛ إذ بمجرد ما تنبع معرفة ما (علمية أو غير علمية) لابد وأن تتمظهر في شكل سلطة معينة بالغة التعقيد لدرجة يصعب تتبع أصول نشوئها .






- المحور الثالث : الدولة بين الحق والعنف:



-1 مشروعية العنف( ماكس فيبر)



يعبر كتاب "العالم والسياسي" لماكس فيبر عن إشكالية جدلية يحياها المجتمع المعاصر ؛ بين تدخل العلم في شؤون المجتمع ومحاولات تغييره نحو الأحسن وبين رؤية السياسي الذي يمارس نوعا من الهيمنة في إطار من المشروعية.



إذن كيف يمكن تحديد مظاهر تسييس كل مناحي الحياة الاجتماعية وجعلها خاضعة لهذا النموذج السياسي أو ذاك ؟



إن السياسة عند فيبر وإن كانت تحيل في دلالاتها على تمظهرات كثيرة ترتبط بوسائل التدبير والتحكم , فإنها تحيل بشكل أساسي على مفهوم الدولة كقيادة سياسية لتجمع بشري في جغرافية معينة.لكن كيف يمكن للدولة أن تسوس أمور الشعب ووفق أي أدوات ؟



يقول فيبر على لسان تروتسكي أن وسيلة الدولة المثلى هي العنف كضامن وحيد لهيمنة الدولة.غير أن هذا العنف وإن كان ليس وسيلة الدولة الوحيدة ، إلا أنه أكثر أسلحتها نجاعة في قيادة المجتمع ولممارسة السلطة ، مادام أن تاريخ البشرية كشف عن محاولات التعنيف لضمان السلم الاجتماعي . من هذا المنطلق يرى فيبر أن السياسي يتوق إلى السلطة ، إما لأنها وسيلة لتحقيق غايات مثالية أو أنانية و إما لذاتها من أجل إشباع الشعور بالفخر الذاتي والرغبة في الوصول إلى السلطة وامتلاكها، بل وإن الاحتفاظ بها يعني بالضرورة أن الدولة /السلطة تعتمد على علاقة أساسية تربط بها هيمنة الإنسان على الإنسان من خلال العنف المشروع، ومن تم يقول فيبر"لا يمكن أن توجد الدولة إلا بشرط خضوع الناس المهيمن عليهم إلى السلطة"



يمكن القول إذن أن الدولة من هذا المنظور هي المالكة الوحيدة لحق ممارسة العنف داخل تجمع سياسي معين كونها تمتلك وسائل متعددة لممارسة السلطة.



2- الدولة هي نتاج الصراع بين الطبقات ( فريدريك إنجلز )



لا يمكن النظر إلى الفكر الماركسي إلا من داخل علاقاته المتشنجة مع فلسفة هيغل . والواقع أن ماركس أخد عن هيغل في كثير من أطروحاته دون أن يمنعه ذلك من إعادة النظر في التصور الهيغيلي للتاريخ والدولة. إذ إذا كان هيغل قد أقر بأن التاريخ أو الروح المطلق قد انتهى مع الدولة البروسية معبرا عن انصهار العقل في الواقع والواقع في العقل، فإن مثل هذا التصور لا يخفي عن نفسه البعد التبريري والاختزالي للتاريخ ، وربما هذا ما يبرر قلب ماركس للجدل الهيغلي بجعله يسير على قدميه بعد أن كان يسير على رأسه.فإذن كيف يحضر مفهوم الدولة عند كل من ماركس وانجلز؟ وما علاقة تطور التاريخ بالدولة؟



إن الدولة في نظر إنجلز ليست هي الصورة المطلقة لظهور العقل في التاريخ وفي الدولة , بل إنها نتيجة تصارع قوى عديدة داخل هذا المجتمع أو ذاك في مراحل تطوره.وهذا يعني تماشيا مع التصور الماركسي ، أن التناقض والصراع هو المحدد الأول والأخير في تمفصل طبقات المجتمع تبعا للمصالح الاقتصادية لكل طبقة، ومن هنا يمكن فهم أساس قيام الدولة كطرف للمصالحة بين الأطراف المتنازعة ، ومن تم تنصب نفسها فوق المجتمع.



ولهذا السبب يمكن فهم حاجة كل المجتمعات إلى الدولة ، إذ إن كل إفرازات المجتمع الإيديولوجية والدموية بين الأفراد والطبقات تحتاج كلها إلى جهاز سلطة لكبح تعارضاتها وجعلها في مستوى مقبول.لكن لا ينبغي ان نفهم من هنا ان الدولة طرف محايد في معادلة الصراع، بل هي دوما تتشكل من الطبقة الأقوى في المجتمع أي تلك الطبقة التي تسود وتهيمن اقتصاديا ، مما يضمن لها أن تسود سياسيا .وهذا يعني ، حسب انجلز، لم توجد في يوم من الأيام إلا عندما تطور الميدان الاقتصادي وفرض تنظيم المجتمع وفقا لوسائل الإنتاج والاستغلال .



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الحقيقة

محاور الدرس




1) الرأي و الحقيقة.



2) معايير الحقيقة.



3) الحقيقة بوصفها قيمة.




توطئة :



الحقيقة كمفهوم تتجاذبه مجموعة من الأقطاب الفلسفية( عقلانية، تجريبية، علمية...)وأكثر ما خلفه الاشتغال حول المفهوم هو التباين وعدم الاستقرار على نتائج واحدة، ففي اللغة تشير الحقيقة إلى"ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه ،والمجاز ما كان بضد ذلك ، وحقيقة الشيء خلاصه وكنهه" – حسب الجرجاني في التعريفات- وحسب ابن سينا فهي"موافقة ما في الأعيان لما في الأذهان" أما بالنسبة لأبي حامد الغزالي" فحقائق الأمور هي التي ينكشف فيها المعلوم انكشافا ولا يبقى معها ريب ولا يقاربها إمكان الغلط والوهم" كما جاء في المنقذ من الضلال.



وفي الاصطلاح الفلسفي كما حدده لالاند في معجمه هي" خاصية ماهو حق ، وهي القضية الصادقة وما تمت البرهنة عليه ، والحقيقة بمعنى أعم هي الواقع".



من خلال هذه التعريفات يظنه أن مفهوم الحقيقة هو مجال ملتبس، تختلف أبعاد تحديده وفق طبيعة المرجع والمجال التداولي.



الإشكال



إن الالتباس الذي يحيط بمفهوم الحقيقة تزداد وطئته داخل السياق الفلسفي ، لتشابكها مع باقي الحقول المفاهيمية والمعرفية : فهل الحقيقة معطى أم بناء؟ وما معيارها؟ وكيف تتحدد بالنظر إليها كقيمة



المحور الأول : الحقيقة والرأي.



موقف الفارابي :



الرأي بالنسبة للفارابي هو خاص بالعوام ، أي أنهم يقتاتون معارفهم من ما هو شائع و عام و متداول كالخطابة و الشعر وحفظ الأخبار واللسان...، وهي لا تؤسس لمعاني معقولة ، غير أنه بعد ذلك تشتاق النفوس إلى الأخذ بأسباب الأمور في الطبيعيات والرياضيات وليحصل اليقين فيها وجب إتباع الطرق البرهانية ، وهذا النحو من المعارف خاص بالعوام .



موقف ديكارت:



ينتبه ديكارت إلى أن الآراء الشائعة التي تداولها أفهامنا تعود في أساسها إلى عدم الانتباه الذي نبديه أول ما نقيم يقيننا الصلب عليها ، باعتبارها معارف وعلوم .



ولتجاوز التغليط والتضليل الذي تعمل على إيقاعنا فيه دوما يعيد ديكارت في هذه المعارف من وجهة نظر أسسها معتمدا في ذلك على الشك المنهجي الذي يروم امتحان أسس المعارف.



يقول ديكارت" أنا أفكر إذن أنا موجود" فالذات تتحدد في أهم مميزاتها ألا وهي التفكير ومادام الشك عملية تفكيرية في العمق فأن الشك الديكارتي يطمح إلى بناء معارف يقينية لا تتحصل من خلال الحواس كآراء تغلط وتضلل بل كمعرفة تهدي إلى اليقين ، فالمعرفة العقلية التأملية هي أساس قواعد المنهج.



موقف ليبنتز:



إذا كان ديكارت فد أبدى تحفظا في إشارته إلى الآراء ، فلأن ليبنتز يراهن عليها كثيرا في بناء المعارف . فالرأي له القدرة على القيام بدور ثوري في تاريخ الأفكار وتطور العقل البشري، وهنا يدلل ليبنتز بكوبرنيك الذي كان وحيدا في رأيه . إشادة ليبنتز بالرأي الذي يفضي إلى الاحتمال ربما له ما يبرره ، فداخل التيارات الفلسفية المعاصرة قد تم تجاوز مبدأ الوحدة و الذي طالما شكل قطب الرحى للفلسفة المثالية وعوض بمبدأ الكثرة الذي يقول بتعدد التفاسير وتجاوز الإطلاقية ، أي نسبية الحقيقة ومرونتها وتعدد أوجهها .



موقف كانط :



في الحس المشترك ، غالبا ما توصف الحقيقة على أنها تبيان لرأي ما مما يظهر نوعا من الترادف بين الاثنين، غير أن كانط يحدث تمفصلا بين كل من الحقيقة والرأي . هـــــــذا الأخير هو انطباع شخصي وحالة ذهنية ذاتية تتمثل في الاعتقاد بصحة قول ما ، هذا التحديد في تصور كانط يبقى بعيدا وغير موضوعي وإن كان يعد معرفة ، فحتى يصير الرأي حقيقة يقينية يجب أن تربطه بها صلة على شكل قانون يقيني ، لأنه في حالة غياب أي ارتباط تبقى المسألة مجرد لعبة خيالية وكنه هذا الارتباط هو الكونية والضرورة ، فالضروري يلزم أن يكون معروفا بشكل قبلي و من تم يحصل اليقين التام الذي يقود إلى الحقيقة، غير أنه في الرياضيات من العبث تكوين آراء فالأحكام هنا تصدر عن العقل الخالص .



موقف غاستون باشلار:



يميز باشلار بين المعرفة العلمية والمعرفة الناتجة عن الآراء المسبقة ، التي تقوم على الإعتقادات الرائجة عند جمهور الناس . حيث أن المعرفة العلمية محكومة بهاجس التجاوز والتقدم والمراجعة لكل المعتقدات التي تحصلت لدينا" إن معرفة الواقع هي بمتابة تسليط الضوء يترك بعض الظلال" والممارسة العلمية من خلال اجتهادها في تحسين مستوى منهجها وباقي أدواتها اللازمة في مسار تجاوزها للأخطاء ومراجعتها للمعتقدات وتمظهراتها :



*إن الرأي يفكر تفكيرا ناقصا ، بل إنه لا يفكر .



*إن الرأي مرتبط بالمنفعة والفائدة الآنية رغم تأسسها على التناقض .



* الرأي عائق بين الباحث العلمي و الحقيقة ، لأنه يتخذ صورة معرفة لكنها زائفة وتستبطن كل التمثلات الخاطئة والتلقائية.



إن العلم هو غزو العقل لدائرة اللاعقل ، وتاريخه هو تاريخ انتصار للمعقولية والعقلانية لأنه " لا شيء في العلم يسير بديهيا من تلقاء ذاته... بل إن كل شيء فيه منشأ ومبني ".



المحور الثاني : معايير الحقيقة



موقف ديكارت :



يميز ديكارت بين سبيلين نحو الحقيقة وهما الحدس والاستنباط ، الأول هو الوصول إلى البداهة الشاملة المحققة لكل مطالب الذهن اليقظ ، من وضوح وبساطة وإقصاء لكل معطيات الحس وتركيبات المخيلة . أم الاستنباط فهو حدس غير مباشر ينطلق من مقدمات يقينية أو مسلمات متأسسة على الحدوس تنتقل من حد إلى حد بحركة متصلة(الاستدلالات) حتى يصل الاستنباط الى غايته وهو الحدس المركب ، لذلك فإن الحركة العقلية مبدأها حدس ومنتهاها حدس .



موقف ليبنتز :



إذا كان ديكارت قد تحدث على معياري الوضوح والتمايز على أساس أن الفكرة الواضح هي التي تدرك بداهة ودون وساطة ولا يتطرق الشك إلى صدقها ، نجد ليبنتز ينتقد هذا التصور الديكارتي ويرى مقابل ذلك أن الحقيقة تعتمد المنطق والبرهان قصد الفصل بين ما هو حقيقي و ما هو غير ذلك ، بمعنى أن لا نقبل أي شيء يكون فيه خلل على مستوى المادة والصورة ، وذلك الفصل لا يكون إلا بتقدير درجة الاحتمال الموصلة الى اليقين . وأساس هذه النتيجة لدى ليبنتز هي نظريات "المونادات" ، فالعالم هو مجموعة وقائع ذرية منفصلة بعضها عن بعض ، وهي غير مكتفية بذاتها بمعنى أنها حتى تظهر تحتاج الى بعضها البعض.



موقف سبينوزا :



يرى باروخ سبينوزا من داخل التيار العقلاني أنه هناك تلازم حتمي بين الفكرة الصحيحة والاعتقاد بصدقيتها الى درجة اليقين ، وهذا بفعل حيوية التفكير وملكة الفهم ، وبالتالي استحالة إقرار سمة اليقيني على الأفكار الخاطئة ، خصوصا بين الفرد وذاته ، فالفكرة الصادقة لها الوضوح ما يمنع عنها كل مغالطة لذات .



وهذا ما يجعل الحقيقة تستلهم معياريتها الخاصة من ذاتها ، وهذا شرط ضروري حتى لا تصبح في مستوى واحد مع الأفكار الخاطئة اذا ما كان التأسيس للقيمة من خلال المطابقة مع الواقع الخارجي .



موقف ديفيد هيوم :



ينطلق هيوم من ملاحظة أن الفلسفة كما مورست ووفق ما انتهت إليه ، لا تشكل معرفة حقيقية واضحة لأنها لم تهتم إلا بالأشياء البعيدة عن الواقع الحسي المباشر : الله ، الروح ، العلية... ، هي موضوعات تم تناولها بشكل موغل في التجريد والغموض ، لدى لا يجب على الفلسفة أن تقوم بتحليل شامل لقدرات الفهم البشري من أجل تشخيص إمكاناته في علاقته بهذه الموضوعات .



من خلال هذه الأفكار التي توضح وجهة هيوم في إطار مهمته النقدية سيميز في موضوعات العقل البشري بين :



*موضوعات تتأسس على العلاقة بين أفكار محددة ودقيقة .



*موضوعات أخرى تقوم على العلاقات بين الوقائع .



الموضوعات الأولى تدرسها العلوم الرياضية فتعبر عنها قضايا رياضية ، أما الثانية فلا تدرسها العلم التجريبة والأخلاقية وحدها بل هي تشكل موضوع حياتنا العملية ، ليبقى معيار الحقيقة عند هيوم متفرعا إلى :



* حقائق تستند على أساس تجريبي يضمن يقينها بالإضافة إلى مبدأ عدم التناقض المنطقي الذي تقوم عليه ، نموذج ذلك المعرفة الرياضية 4 + 5 = 9 *حقيقة تقوم على الشرط التجريبي فقط ، لا تخضع لمبدأ عدم التناقض (الشمس ستشرق غدا) .



موقف إمانويل كانط :



يتحدث كانط عن كونية المعبار المؤسس للحقيقة بتفريع الإشكال إلى طرحين :



1- هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة ؟



2- هل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة ؟



في تصور كانط من غير الممكن أن يوجد معيار مادي وكوني للحقيقة لأن القول بذلك يقتضي عدم التمييز بين الموضوعات ، وهذا نوع من العبث أن نتجاوز كل اختلاف بينها .



في مقابل ذلك إذا كان الأمر يتعلق بمعايير صورية وكونية فمن اليسير أن نقر بجواز ذلك لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها ،ومن تمت يكون المعييار الكوني الصوري ليس شيئا غير المعيار المنطقي اأي القانون الكلي للفهم و العقل .



موقف فتجنشتاين :



ضد أي نزوع مثالي ، أهتم الفلاسفة التحليليون ورواد الوضعية المنطقية بمسألة تحليل اللغة وأنه لا توجد مشكلات بقدر ما هناك سوء فهم اللغة .الأمر الذي سيحدو بفتجنشتاين إلى جعل المنطق الرياضي الآلة العمدة في التحليل ، فمعيار صدق الفكرة وبطلانها هو مدى قابليتها للتحقق تجريبيا ، مركزا بشكل كبير على تحليل البناء المنطقي للغة القضايا ، والهدف من التحليل هو الوصول إلى الدقة و الوضوح وتجاوز الإبهام و الغموض ، وتخليص اللغة من الشوائب الميتافيزيقية .



فالقضايا الكاذبة أو الفارغة من المعنى هي التي لا تعبر عن أشياء واقعية يمكن الإحالة عليها أي أن بنيتها التركيبية لا تسعفنا ألى أي دلالة ممكنة (مثلا : الأفكار الخضراء تنام غاضبة) .



موقف فتجنشتاين قد يبدو مغريا على مستوى التحليل غير أنه سرعان ما اعتبر تحليلا مهزوزا . فرغم الاعتراف بالأهمية التي تلعبها التجربة في تمحيص الأفكار ، فهذا الموقف يبقى تعسفيا خصوصا أنه يعتبر القضايا الوجدانية والعاطفية والمواقف الشعورية ... قضايا ميتافيزيقية خاوية من المعنى ، وفي هذا إفقار للواقعية واختزال لاختلاف الموضوعات وإفراغها من منطقها الخاص .



المحور الثالث : الحقيقة كقيمة



موقف كانط :



إن الميول أو المصالح أو السياقات أو الظروف لا أهمية لها في إعتبار التصور الأخلاقي المطلق الذي يحدد به كانط مفهوم الواجب ، فالقول الحقيقة والتمسك بها واجب يتعين التاسيس له وإقامته على عقد قانوني مثين ، من هنا يصبغ كانط فهمه للحقيقة بطابع أخلاقي يتشكل في أبعاد مطلقة يجب الالتزام بها ، لأن القوانين المشرعة بناء على نصوص ملزمة و الواجب القانوني يستند في عمقه على الواجب الأخلاقي الذي يرتبط بالإرادة و الإلتزام .



فالفعل/السلوك نابع من كونه غاية في ذاته بغض النظر عن النتائج ، ووسيلة لا تخضع للمزايدات و الظروف .



فكانط يربط بين الحقيقة و أبعاد عملية وسلوكية دون أن يكتفي باستثمارها المصطلحي فقط في مسار اشتغاله المعرفي ، ويحيل على السؤال الذي ينبغي أن تسترد به كل مبادرة سلوك (ماذا لو فعل الناس جميعهم هذا السلوك؟) .من هنا يظهر البعد الغائي و الوظيفي الذ يتناول منه كانط مفهوم الحقيقة ، وكذا باعتبارها ارتباطا باليومي و القانوني من أجل تحقيق السلام الدائم .



موقف نيتشه :



في مقابل هذا الإتجاه يؤسس فريديرك نيتشه اتجاها جذريا للحقيقة ومتوخيا البحث عن غايتها و أصلها ، إن الحقيقة كما هي ليست أكثرمن أوهام ثبتت صحتها في معركة الصراع.



إن قيمة الحفيقة يجب أن تكون مبنية على الغرائز وتثوير لها وليس على العقل كما أسس لها سقراط وأفلاطون ، الذين أحدثا طلاقا بين الحياة والفكر ، لفد أسسا لحقيقة في معناها الضيق



تنشد ضد البقاء و السلم و التعايش مع الآخرين ، في شكل استيعارات وتشبيهات وتجميلات شعرية بلاغية ، صارت إلزاما على المجتمع .



في تصور نيتسه مصدر الحقيقة هو ذلك العود ال أبدي للعصر الهيليني التراجيدي ، حيث الإقبال على الحياة ب آلامها و آمالها ، وحيث تسود الطقوس الديونيزوسية ملغية الوجه الأبولوني للحياة ، إنها تأسس للأنسان الأعلى ، ورغبة في التفوق و إرادة القوة ...



موقف وليام جيمس :



فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي و المجرد . فقيمة الحقيقة هي قدرتها على تحقيق نتائج و تأثيرات في الواقع ، و بالنسبة لجيمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي ، وقد تكون غير مباشرة بمعنى غير فعالة بشكل مباشركحديث وليام جيمس عن تأثير الإيمان بالله في الفرد بحيث ينحت داخله مجموعة من القيم التي باكتسابها تسود قيم من قبيل الخير و الفضيلة .



موقف كيركيكارد :



الحقيقة لها قيمة أخلاقية إنها فضيلة على الطريقة السقراطية قبل أن تكون مجرد معرفة ، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحياة وتعاش بالمعاناة .



الحقيقة ليست شيء ثابت إنها حوار و اختلاف وهي ذاتية لأنها لا تتكرر في كل واحد منا ، إنها أخلاق وفضيلة وليست قضية معرفية وغاية مذهبية بعيدة عن شروط ووجود الإنسان .



موقف مارتن هايديجر :



إن الحقيقة المكتفية بذاتها ليس بوسعها تجاوز العوائق التي تحول دون تحققها ذلك أن الحقيقة كمجال تعانق الخطأ و الوهم ، بل إن الحقيقة في صميمها تستقر اللاحقيقة في دروب التيه .إن النظرة إلى الشيء تحول الشيء إلى مجرد مظهر ، والفكرة الميتافيزيقية للحقيقة تقتصرعلى إقامة علاقة حيوية أو تطابق مع الواهر الملاحظة ، لكنها بهذا تغفل الظاهرة الأصلية وهي ما سماها هايديجر " السر" ، ذلك أن الإنسان لا يستشعر بكينونته التائهة في سديم الأوهام أو المستمسك بالحقائق الزائفة ، لهذا كان الوعي بحالة التيهان هو أولى الخطوات نحو الحقيقة لأن هذه الإخيرة هي الفعل الديناميكي الذي يجعل الأشياء تنبثق على ضوء يقظة فكرنا ليفهم الوجود ، كما أن الحقيقة هي كشف الحجاب الذي يخرج الوجود من النسيان ، ولا أحد يمتلك هذه الحقيقة وإن كنا نسير عاى ضوئها .



من هنا تتبدى أهمية الحرية كقدرة بفضلها ننفتح عن الأشياء ويكشف لنل الوجود ، والوصول للأشياء ليس ممكنا إلا لأننا نملك ملكة الكشف وهي الحقيقة التي تعصمنا التيه .



موقف إيريك فايل :



إذا كان كل خطاب يدعي تضمن الحقيقة أو يقاربها ، وإذا كانت الفلسفة كمعرفة اتخذت من الحقيقة غايتها وأقصى مطالبها فإن غيابها كقيمة عليا ضرورية فإن نتيجته لا تكون هي الخطأ ، بل عاقبة هذا الغياب هو العنف أي الخصم اللذود للمعنى و للإتساق المنطقي والحجاجي . يكون أثر العنف على جهتين : جهة سلبية الفعل و اللغة، ثم جهة الرؤية السطحية والقاصرة على طرح الأسئلة الكاشفة للجوانب المعتمة والمغيبة .



كما أنه لا يمكن الفصل بين الخطاب ومنتجه ، لأنه ترجمة لذاتية المنتج وبهذا تنتفي الدعوة الكلاسيكية التي مفادها : مطابقة الفكر للواقع ، لأن الأحق بهذه المطابقة هو الإنسان مع فكره أي مع التعقل .

رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيدعيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و ...

رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيد عيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و أبي وسائر اموات المس لمين 🤲 #اللهم_صل_وسلم_على_نبينا_محمد   #ال...