lunedì 7 marzo 2011

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الشخص


محاور الدرس




1) الشخص و الهوية



2) الشخص بوصفه قيمة



3) الشخص بين الضرورة و الحرية

- تمهيد




يحيل مفهوم الشخص في التمثل العامي إلى معاني البروزوالظهور،أو المكانة الإجتماعية،الإقتصاديةأو السياسية...وهذا المعنى نجده في لسان العرب لإبن منظور: "رجل شخيص إذا كان سيدا ..." وتشيركلمة"..........." اللاتينية إلى القناع الذي يضعه الممثل على خشبة المسرح للعب أوتشخيص دور معين...أما لالاند فميز في معجمه الفلسفي بين الشخص الطبيعي من حيث هو جسم ومظهر،والشخص المعنوي من حيث هوذات واعية،والشخص القانوني من حيث أن له حقوقا وعليه واجبات.يبدو إذن،أن مفهوم الشخص يحمل اكثر من دلالة؛ وهو مايجعله يطرح صعوبة وتعقيدا ،فيما يتعلق بتحديد هويته،طبيعتها ومتجلياتها،قيمته، أسسها ومقوماتها، وتموقعه في إطار وضعه البشري الذي يسيجه بجملة من الإكراهات النفسية والإجتماعية، قد تفقده هويته وقيمته وحريته. فما الشخص؟ ومن أين يستمد هويته وقيمته؟وهل هو ذات حرة أم كيان خاضع لإكراهات نفسية واجتماعية قد تتجاوز إرادته فتفقده هويته وقيمته وحريته؟وماالسبيل لتجاوز هذه الشروط و الإكراهات لكي يحقق الشخص هويته ويستعيد قيمته و يمارس حريته ؟



ـ الشخص والهوية:





تعود الإرهاصات الأولى لإشكالية الهوية ، إلى الفلسفة اليونانية،فبالعودة إلى قولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك "يتبين أن ما يميز الشخص هو قدرته على تكوين معرفة حول ذاته وتصرفاته وسلوكه رغم التغيرات المختلفة التي يمر بها في مسيرة حياته.فما الشخص؟ ومن أين يستمد هويته؟ هل يستمدها من بعده الفكري أم من بعده الحسي أم من بعده الروحي ؟



يؤكد الفيلسوف العقلاني رونيه ديكارت(1596ـ 1650) على أن الفكر هو ما يمثل هوية الشخص، فالتفكير خاصية ملازمة للذات من خلال ممارسة جملة من العمليات الذهنية ،مثل الشك و النفي والإثبات...وهي عمليات لا تنفصل عنها بل إنها دليل على وجودها الوجود اليقيني الذي لايطاله الشك، وهذا ما نجد له صدى في عبارة الكوجيطو الشهيرة " أنا أفكر إذن أنا موجود " ومتى ما انقطعت الذات عن التفكير انقطعت عن الوجود .وعلى خلاف ديكارت يرى الفيلسوف التجريبي جون لوك(1632ـ 1704) أن التفكير وإن كان يجسد هوية الشخص ،فإنه لا يخرج عن إطار الإحساس ،فهو حصيلة احتكاك الذات بمحيطها الخارجي عن طريق الحواس (البصر ،السمع ،الذوق...) وبفضل الذاكرة يمتد الشعوربالهوية الشخصية رغم اختلاف الأمكنة والازمنة يقول جون لوك : " فالذات الموجودة الآن في الحاضر هي نفسها التي كانت في الماضي ،وهذا الفعل الماضي قد أنجز من طرف الذات نفسها التي تقوم باستحضاره في الذهن " .



إذا كانت نزعة ديكارت العقلانية ، قد أرجعت الهوية الشخصية إلى التفكير المجرد؛ وإذا كانت نزعة جون لوك التجريبية ،قد رأت في الفكر بما هو خبرات حسية والذاكرة ما يمثل هذه الهوية . فإن شخصانية إيمانويل مونيي(1905ـ 1950) ترفض اختزال الشخص في بعد واحد من أبعاد وجوده المتعددة ، فهو واقع كلي وشمولي لا يقبل التجزئ أوالتصنيف في إطار إنتماء طبقي أو سياسي أو ثقافي ...لأنه ليس موضوعا ، إنه بنيان روحي داخلي لايدركه إلا الشخص ذاته .



تأسيسا على ماسبق ، يتضح أن المواقف الفلسفية ،تروم تحديد هوية الشخص بالنظر إليه كذات مفكرة .غير أنها تختلف في منظورها لطبيعة هذا الفكر ، فقد حصره ديكارت في الفكر المجرد ،بينما ربطه جون لوك بالتجربة الحسية و الذاكرة ، في حين اعتبرته شخصانية مونيي روحا داخلية . وإذا كان من الصعب الإجماع حول معيار محدد للهوية الشخصية ؛ فإن ذلك يعود إلى الطبيعة المركبة للشخص، إذ لايمكن الإقتصار على نعته بالذات المفكرة فحسب،بل إنه كائن حقوقي وأخلاقي أيضا ....



الشخص بوصفه قيمة:



خلصنا من خلال النقاش السابق إلى أن هوية الشخص تقوم على استحضار مرجعيات متعددة و متداخلة ،لتحديد أسسها وفهمها ،لكن يبقى القاسم المشترك بين الفلاسفة ،هو أن الشخص ذات مفكرة ،عاقلة ،واعية قوامها الأنا كيفما كانت طبيعة وأسس بنائه وتكوينه ( التفكير/ العقل / الشعور / الذاكرة ...) .إلا أن قيمته تقترن بأبعاده الأخلاقية و الحقوقية ، فما الذي يؤسس البعد القيمي الأخلاقي للشخص؟وبمعنى آخر ،من أين يستمد الشخص قيمته ؟ هل من كونه كائنا عاقلا أم من كونه كائنا أخلاقيا يسلك وفق قيم محددة؟



في سياق عرض نظريته للعدالة كإنصاف،يرى جون راولز(1921ـ 2002) أن قيمة الشخص تتأسس على كفاءاته العقلية والأخلاقية ،و المشاركة في الحياة الإجتماعية والتعاون مع الآخرين أفرادا كانوأو جماعات وهيآت ؛من منطلق أن المجتمع نظام للتعاون المنصف؛ فلا يمكن الحديث عن قيمة الشخص إلا إذا تبين بأنه كائن مفكر وكائن أخلاقي يروم العدل والخير والإلتزام والمسؤولية.وفي ذات السياق ،يذهب إيمانويل كانط (1724ـ 1804) إلى أن الشخص لايكتسي قيمته من عقله المجرد ، بل من التصرف وفق مايمليه عليه عقله الأخلاقي العملي ،وٌيلزم احترامه ومعاملته كغاية في ذاته لا مجرد وسيلة ،عملا بالمبدأ الأخلاقي الأسمى ومفاده: "تصرف على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك ،كما في شخص غيرك دائما وأبدا ،كغاية وليس مجرد وسيلة"أي تصرف مع الآخرين كما تتصرف مع ذاتك ؛وهذا مايمنح الشخص قيمة مطلقة ويكسبه احتراما لذاته ويلزم الآخرين باحترامه ،بأن يحافظ على كرامته، وأن يعتبر الآخر غاية لا مجرد وسيلة ،يسري عليه قانون العرض والطلب .أما التصور الهيجلي فينطلق من النظر إلى الشخص ،كقيمة أخلاقية بالأساس ؛لا يمكنها أن تتحقق إلا بإنخراطه داخل حياة المجموع، وتتجلى قيمة الأشخاص في امثتالهم لروح شعوبهم وتجسيدهم لهذه الروح .وهذا يقتضي من الشخص العمل على تحقيق بعده الأخلاقي وامتثاله للواجب ووعيه بالسلوك الخير الممثل للقانون ، والآخر المنافي له .



ومجمل القول، أن الخطاب الفلسفي ينظر إلى الشخص بما هو ذات عاقلة ومسؤولة ،تستوجب الاحترام والمعاملة بوصفها غاية لا مجرد وسيلة ،كما أن قيمته لا تتحدد في مجال الوجود الفردي بل في انفتاحه على الآخرين في إطار أشكال من التضامن الإنساني القائم على التعاون والإلتزام بالمبادئ الأخلاقية ...



الشخص بين الضرورة والحرية:





لقد مهدت العلوم الإنسانية الطريق أمام الإنسان للتعرف على الإكراهات والحتميات التي تتحكم فيه ، متقاطعة في ذلك مع بعض التوجهات الفلسفية الحتمية التي تنفي عن الشخص كل مبادرة للفعل الحر . فإذا كانت بعض فلسفات الوعي قد جعلت من الذات سيدة نفسها وأفعالها ،فإن هناك توجهات فلسفية وعلمية ،كشفت على أن الأنا ليس سيد نفسه وأفعاله ولو في عقر منزله الخاص .فكيف يمكن النظر للشخص ؟ هل باعتباره ذاتا حرة ،أم بوصفه كيانا خاضعا لشروط وإكراهات قد تتجاوز إرادته وتحد من حريته ؟ أليس بمقدور الشخص أن يتحدى هذه الشروط و الإكراهات وذلك من خلال نزوعه نحو التحرر وقدرته على الإختيار؟



لقد كشف رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد (1856ـ 1938) على أن الشخص ليس سيد نفسه وأفعاله ،فالجزء الأكبر من سلوكاته وأفعاله يعود إلى حتميات لاشعورية ترتبط بتاريخ الفرد منذ طفولته المبكرة ؛وذلك من خلال تفاعل مكونات الجهاز النفسي ، أي الهو ويمثل الميول والدوافع و الغرائز ؛ الأنا الأعلى ويمثل القيم والمعايير الإجتماعية التي يتشربها الطفل من محيطه عن طريق التنشئة الإجتماعية، الأنا وتقوم بوظيفة تنسيقية بين رغبات الهو وإملاءات الأنا الأعلى وإكراهات العالم الخارجي .وهذا التفاعل يوضح أن الشخص محكوم بحتميات لا شعورية قد لا يعيها ،وتتجلى في مجموعة من السلوكات اللاواعية ( فلتات اللسان ، زلات القلم ، الأحلام ...) .وفي السياق نفسه ،يأتي موقف باروخ اسبينوزا (1632ـ1677 ) ليؤكد على أن الشعور بالحرية أو القول بحرية الفعل مجرد وهم ناتج عن وعي الإنسان بأفعاله وجهله بأسبابها الحقيقية الكامنة وراءها ،ومثال ذلك أن الحجر المتدحرج،يتوهم أنه يتحرك عن حرية واختيار ـ إذا ما افترضناه يتوفر على الوعي ـ في الوقت الذي يجهل العلة الخارجية التي كانت سببا في حركته، وبالمثل فالطفل الرضيع يشتهي الحليب والشاب المنفعل يريد الإنتقام أو الهروب والشخص الثرثار يعتقد أنه حر في أقواله في الوقت الذي يجهل الأسباب الحقيقية الكامنة خلف سلوكه.وعلى خلاف ذلك تقر شخصانية إيمانويل مونيي (1905ـ 1950) على أن الشخص كائن حر وهو الذي يقرر مصيره ويتخد قراراته دون وصاية من أحد فردا كان أوجماعة ،وذلك في إطار مجتمع يكفل لأفراده الحماية والوسائل اللا زمة لتطوير ميولاتهم وتنميتها ، بعيدا عن كل نزعة تنميطية وتحكمية لا تؤمن بالإختلاف ؛فالشخص ليس وسيلة ، كما لا ينبغي أن يقوم أحد مقامه في اتخاد قراراته، فحرية الشخص مشروطة بوضعه الواقعي .



تأسيسا على ماتقدم ،يتضح أن الوضع البشري يسيج الشخص بجملة من الشروط والإكراهات ،النفسية والإجتماعية والثقافية ؛والتي قد تتجاوز إرادته .غير أن قدرته على التخطيط لمشاريعه وتحقيق تطلعاته ، لاتنفي قدرته على الفعل و الإختيار...





تمرين تطبيقي





"ما الأنا؟ إن رجلا يقف على النافذة لرؤية العابرين يجعلني أتساءل إذا كنت أمر من هناك وقف ذلك

الرجل لرؤيتي أنا؟ الجواب لا،لأنه لا يفكر في أنا بصفة خاصة.لكن بالنسبة لإنسان يحب أحدا لجماله، هل يحبه فعلا؟ الجواب لا،لأن داء الجذري إذ يقضي على الجمال،دون أن يقضي على الشخص،سيقضي على ذلك الحب تماما ؛وإذا كان هناك من يحبني نظرا لجودة حكمي أو لقوة ذاكرتي،فهل يحبني أنا فعلا ؟ الجواب لا،لأنه يمكن أن أفقد تلك الصفات دون أن أفقد ذاتي.فأين يوجد إذن هذا الأنا ،إذا لم يكن لا في الجسم ولافي النفس؟ثم كيف نحب الجسم أو النفس،إذا لم يكن بسبب تلك الصفات التي ليست هي الأنا أبدا،لأنها قابلة للزوال؟وهل يمكن أن نحب بشكل مجرد جوهر نفس شخص مع بعض الصفات البارزة؟هذا غيرممكن وغير عادل .إننا لا نحب أحدا إذن ،بل نحب فقط صفات معينة"

بليزباسكال،خواطرالفقرة88،ص:36ـ37





حلل و ناقش





هام :يعتبر هذا الملخص اقتراحا لصيغة أولية تقريبية مساعدة لمفهوم الشخص حسب الكتاب المدرسي "منار الفلسفة"



مع تحيات موقع تفلسف tafalsouf.t35.com



*********



****



إعداد: عبد العزيز شكود، جمال الدين البوعزاوي، حميد شيبوب







يتحدد الشخص في السياق الفلسفي باعتباره الفرد الذي تنسب له مسؤولية أفعاله الصادرة عنه، كما أنه يأخذ قيمة خاصة عندما ينظر اليه كذات واعية و حرة و مسؤولة ذات كرامة، نعني ذاتها و قيمتها الأخلاقية، من هنا نطرح السؤال التالي :



كيف تتحدد قيمة الشخص، هل باعتباره ذاتا أخلاقية في تعامله مع الآخرين؟ أم أنه ذات معزولة و متعارضة معهم؟.



تصور كانط : العقل أساس قيمة الشخص و كرامته.



ذهب كانط في تصوره لقيمة الشخص إلى القول أن الإنسان هو أكثر من مجرد طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامته، أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر، وما دام هذا العقل ومقتضياته كونيا، فإن الإنسانية جمعاء تحمل داخل كل فرد مما يستوجب احترامه و معاملته كغاية لا كوسيلة، و النظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء. و هذا الإحترام الواجب له من طرف الغير لا ينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه نفسه، إذ لا ينبغي له أن يتخلى عن كرامته، بل يجب عليه دائما أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة.



و على هذا الأساس، فمهمة الإنسان لا تكمن في تقبل الحالة الواقعة، وانما في تجاوز الواقع، فالعقل ينبغي أن يتحكم في الواقع و يحكمه، فهو لا يخضع بقدر ما أنه يخضع. كما أن هناك رباطا أساسيا بين العقل و الحرية، لكن الحرية هنا ليست رفض كل ضرورة و إلزام، إنها خضوع للقانون، أي القانون الداخلي للعقل. وفي مجال هذا القانون الأخلاقي يكون الإنسان قانون نفسه، إنه مجال الأوطونوميا الذي يرفض خضوع العقل لما كان يعتبر أوثانث تحده و تحد من حريته. صحيح أن هناك ميادين يعمل فيها العقل بكل حرية مثل العلوم و الصنائع، و لكن هناك مجالات أخرى لا يكون فيها إعمال الفكر حرا، لذا يقوم كانط ضد هذه المجالات، و سيرفض لأخلاقه أن تؤسس على الدين أو أن تكون خضوعا لأوامر خارجية.



هكذا فإذا كان الإنسان يعامل نفسه كغاية بالذات، فواضح أنه لا يمكن الاقتصار على اعتباره خاضعا للقانون، وإنما يجب أن يكون أيضا مانع القانون، و متى كان هذا القانون صادرا عن العقل، كان واحدا عند جميع الموجودات العاقلة و كانت هذه الموجودات بمثابة عالم معقول، أي اتحاد منظم خاضع لقوانين مشتركة.



كتب كانط هذه الأفكار في " أسس ميتافزيقا الأخلاق" في القرن 18، و صحيح أن القرن العشرين شهد تحسنا كبيرا للوضع البشري، لكن عرف في المقابل أزمات و كوارث انسانية خطيرة كالحروب و التطهير العرقي، مما جعل التفكير الفلسفي يعاود مجددا طرح السؤال حول قيمة الكائن البشري بالشكل الذي أكدته بنود اتفاقية حقوق الإنسان. إن هذا الوضع البشري المأساوي، جعل الفيلسوف الأمريكي طوم ريغان يؤكد أن التأسيس الكانطي لقيمة الشخص غير كاف، و حجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية إير عاقلة مثل الأطفال و المجانين و غيرهم. و عليه فإن الخاصية الحاسمة و المشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة أيضا.



و لإبراز و توضيح هذا التصور، يؤكد توم ريغان أن التصور الكانطي بالرغم من أنه عميق و قيم فإنه لا يخلو من تناقصات و مفارقات لخصها في سؤال كبير هو :



- ماهي الكائنات البشرية التي تستحق صفة الشخص؟



يجيب ريغان بالقول أن البويضة المخصبة حديثا و المرضى الذين دخلو حالة الغيبوبة الدائمة يظلون بشرا، لكنهم ليسوا أشخاصا وفق التعريف الكانطي، و نفس الحكم ينسحب أيضا على الرضع والأطفال حتى سن معينة، هذا إضافة إلى كل الكائنات البشرية التي تفتقد للقدرات الفكرية التي بموجبها يعرف كانط الشخص البشري، إن كل هؤلاء يفتقدون الحق في الاحترام. هكذا فالانسان ليس كائنا عاقلا فحسب، بل كائن حاس يستشعر حياته أيضا.



تصور امانويل مونييي :



يؤكد المذهب الشخصاني الذي يتزعمه ايمانويل مونييي أن للشخص قيمة مطلقة، فهو صاحب المركز الأسمى في الكون. و تتمثل هذه القيمة في خروج الشخص من ذاته و الانفتاح على الآخرين، أي على المجتمع، وهنا لابد للشخص أن يتمتع بالحرية الداخلية و الحرية الخارجية أيضا.



وعلى هذا الأساس يعتبر مونييي الشخص قيمة و غاية في حد ذاته وليس مجرد موضوع خارجي أي شيء مادي، و تتحدد هذه القيمة في مايلي :



أولا : أن الشخص لا يمكن أبدا أن يعتبر وسيلة بالنسبة لشخص آخر أو مجموعة أخرى.



ثانيا : يكون القانون الإجتماعي ظالما عندما يعتبر الأشخاص مواضيع قابلة للتبادل أو التجنيد و ممارسة الإكراهات و العنف ضدهم.



ثالثا : ليست مهمة المجتمع باعتباره نظاما شرعيا و قانونيا و اجتماعيا و اقتصاديا، لا أن يخضع الأشخاص ولا أن يضطلع بتطوير نزعاتهم، و لكن ان يضمن لهم الحماية و الأمن و أوقات الفراغ و اللعب و مساعدتهم على بلوغ الحرية من خلال تربية تأخذ بعين الاعتبار الشخص كغاية في حد ذاته.



تصور هيجل :



يرى التصور الهيجيلي أن القيمة الأخلاقية للشخص لا يمكنها أن تتحقق إلا داخل حياة المجموع، فكل شخص حسب هيجل، وانطلاقا من المكانة التي يحتلها داخل الجماعة التي ينتمي اليها، عليه الإلتزام بواجباته و القيام بدوره و المهام التي اسندت اليه، انها دعوة للإنفتاح على الآخرين و على الواقع من خلال علاقة جدلية أساسها التأثير و التأثر، و معيارها يكمن في السلوك الأخلاقي الذي يصدر عن شخص امتثالا للواجب الأخلاقي.



فالشخص حينما ينخرط في روح شعبه، يصبح مشاركا و مساهما و منخرطا في الروح العامة لشعبه التي تظهر في حضارته بكل قيمها و فنونها و مؤسستها، وهذا يكتسب وجود الشخص كونية شعبه.



هكذا، لا يكتسب الأفراد أي قيمة الا حينما يمتثلون لروح شعوبهم و يختصون بمهمة داخل حياة المجموع، وتكون هذه المهمة قائمة على اختيار حر الفرد.



ومن جهة أخرى، يرى هيجل أن إضفاء صنعة كونية على الفرد يتم من خلال التربية التي تعلمه ما يصلح أخلاقيا للجميع، و تربيه على الغايات العامة للمجتمع كالخير والحق والواجب.



تصور راولز :



تقوم نظرية العدالة عند راولز على فكرة مفادها أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، قادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية و لعب دور معين فيها. فقيمة الشخص تكمن في كونه مواطنا، و جميع الأشخاص هم مواطنون أحرارا وأندادا، بفضل كفاءاتهم العقلية و الأخلاقية.



وفي هذا الإطار، ينتقد راولز في كتابه نظرية العدالة تصور النفعيين الذين لا يهتمون بالحريات الأصلية للأفراد، و يؤكد أن هذه الحريات لا يمكن بيعها و شراؤها، ولا يمكن التضحية بها إذا تعارضت مع النفع العام. و هنا لابد للنظام الاجتماعي مراعاة الحقوق العامة للأفراد، و يذكر منها حق التعبير و حق العمل و حق الإجتماع و حق الملكية و حق الحماية من الأعتقال و السجن التعسفيين.



و من جهة أخرى، يؤكد أن العدالة الإجتماعية تقتضي توزيع الخيرات على جميع المواطنين بشكل عادل، على أساس أن جميع هذه الخيرات ملك لجميع الأفراد، و جميع الأفراد ساهموا في حصول هذه الخيرات.



هكذا تعتبر الخيرات كلها غير موروثة، فهي مكتسبة و قابلة للتداول، ذلك أن المجتمع العادل يضمن لكل من ينتمي إليه حريات مدنية لا يمكن المساس بها، و تضمن له أن يبلغ ما يشاء من الدرجات.



موقف غوسدورف :



يرى جورج غوسدورف أن معرفة الذات لا تحقق بمجرد النظر إلى أنفسنا و التأمل فيها، إنها لا تتحقق إلا بواسطة العالم وفي العالم، لذلك نجده يقيم تقابلا بين الفرد باعتباره يعني ذاته و الشخص الذي يكتمل مع الآخر و يكتسب قيمته داخل الجماعة.



فالكمال الشخصي حسب غوسدورف لا يتحدد في مجال الوجود الفردي المستقل، بل يتحقق في مجال التعايش و داخل المجموعة البشرية، و انفتاح الذات الفردية على الكون و تقبل الآخر.



المحور الثالث- الشخص بين الدرورة و الحرية



الطرح الإشكالي للمحور



يمكن أن يتعرض وجود الشخص في علاقته بالجماعة أوبالأخرين إلى نوع من الإستلاب أو التشيء بسبب الضرورة التي يفرضها المجتمع على أفراد فالفرد يبدو سجين منضومه من القيم والعلاقة التي تحد من أفاقه وتطلعاته الشخصية .



إذن، و امام هذا الوضع يمكننا الإفصاح عن الطبيعة الإشكلية لهذا المفهوم كالتالي:



هل الشخص ذات حرة فيما يصدر منه من أفعال أم أن هناك حتميات تنقى حريته مشروطة بها ؟



بعبارة أخرى : هل يعني أنه لا مكان للحرية في حياة الشخص ؟أم أن حرية الشخص هي حرية في حدود الذي يختاره؟



* موقف سبينوزا :



-ينتقد سبينوزا التصور العامي الذي يعتبر الانسان حرا في اختياراته،فاعلا وفق مشيئته ،و يتولد هذا الوهم الشائع عن وعي الناس بأفعالهم و رغباتهم وجهلهم بالاسباب الالحقيقية المحددة لأفعالهم.



وكما يقول " فإن الناس يعوون حقا رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع أو ذاك ...." ومن هذا المنطلق ينتقد كل حرية إنسانية خارج عما هو طبيعي .



موقف سيجموند فرويد



ويبدوا أن العلوم النسانية المعاصرة تقدم دلائل إضافية داعمة للتصور الحتمي السنينوزي فالتحليل النفسي الذي يعتبر سيجمون فرويد رائه الأول يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلت الطفولة .كما أن كثير



من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو الاشعوري ذات الطبعة الجنسية ويقوم هذا التصور على مجموعة من الاسس و المبادئ، يمكن تركزها في:



-إعتبار السنوات الاولى من حيات الفرد الإنساني فيما يتعلق بنموه الوجداني لاحق وبتالي في تكوني شخصيته .



- إفتراض وجود قوة تتحكم في معظم سلوكات الفرد، وهي قوة الاشعور ودالك من خلال ماتمارسه الغرائز والنزوات المكبوتة التي يزج بها في غياب الا شعورمن ضغوط وديناميكية سعي منها الى الإرتواء والإشباع .



-الطابع الجنسي لهذه الدوافع التي تحرك سلوكات الفرد والتي عبر عنها فرويد ب البيدو........



-الهو ويمثل القوة الأصلية ،ويرمز الى مجموع الرغابات والدوافع الطبيعية والمكبوتة التي تتحكم فيها غريزة الحياة ........وغريزة الموت ............



هذا الهو الذي يعبر عنه نيتشه (( وراء أفكار وشعورك يختفي سيد مجهول يريك سبيل ،إسمه الهو في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب



من صواب حكمتك ))



إضاءة



أما بنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجي فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى إنعكاسات للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوضيفية لجماعات الإنتماء.



بحيث يمكن القول معى دوركايم أنه كلما تكلم الفرد أوحكم ،فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله . وإذا كانت التنشئة الاج تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع ،فإن هذه الثقافة بدورها حسب التحليل ماركسي ليست سوى إنعكاس للبيئة الحتمية المستقلة عن وعي الذوات ،لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس.



إنطلاقا مما سبق يمكن أن نستنتج من هاد الموقف فكرة أساسية مفادها هو إختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية ... هي الت تتفعل وليس الذات أو الفرد.



موقف مونيي



يرى مونيي لأن الشخص هو منبع جميع القيم، وهوى في الأصل حركة نحوى الغير ولا يحقق وجوده مع الأخرين إلا في إطار الفعل المتجدد .



في حرية الشخص في ذاته وهي مشروطة بالوضع الواقعي له ،وهي لاتتحدد إلا عندما يتجه الإنسان نحوى التحرر في إطار التشخص أي خروج بالذات من عزلتها وفرديتها والإتجاه نحوى الشخص عبر الإنفتاح على الأخرين والتواصل معهم وتحمل مصائرهم وألامهم بكل حرية.



إنها إدن حرية منظمة ومطلوبة بنداء الإنسانية في الحرية الحقة حسب مونيي هي الحرية الملتزمة ، لأنها تحترم الغير ومشروطة باحترام القيم و الوصع الواقعي للإنسان ،إلا أن هذا الوضع المشروط لا يعني الخضوع للضرورة .



موقف جان بول سارتر



تعتبر الفلسفة الوجودية لدى سارتر فلسفة الدفاع عن حرية الإختيار المطلق للإنسان مقابل النزعة الموضوعية التي تبرز مشروطية الحرية الإنسانية بظروف والمحددات الوراثية والإجتماعية والإقتصادية واللغوية ...حيث يرى أن وجود الإنسان يسبق ماهيته ،أي أن ماهيته لا تتحدد إلا من خلال وجودها ،وحياته وأفعاله واختيارته وعلاقاته الامتناهية معنى ذالك أنه يشكل ذاته وهويته في ضوء مايختاره لنفسه بوضعه مشروعا .فليس الإنسان كما يتصور ذاته فحسب، بل كما يريد أن يكون في نظر الغير لوصفه شخصا ، ومن هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات محكوم عليه بان يكون حرا وبأن الإنسان ليس شيأ أخر غير مايصنع بنفسه .



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : التبادل

محاور الدرس




1) التبادل خاصية إنسانية.



2) التبادل و المجتمع.



3) التبادل الرمزي.




إن التبادل ظاهرة إنسانية بامتياز لا يمكن حصرها في إطار مستوى معين؛ فمن الصعب القول إنها ظاهرة اقتصادية فقط, أو اجتماعية فقط, أو انثروبولوجية بالحصر. و الوصف الأليق بها وصفها بأنها ظاهرة إنسانية كما تقدم؛ فلما كان المجال الذي تتم فيه هو المجتمع درسها علماء الاجتماع انطلاقا من هذا الأساس, و باعتبار أن موضوع التبادل عادة ما يكون مواد استهلاكية قابلة للقياس الاقتصادي, درسها علماء الاقتصاد من هذه الناحية, و لما كانت تعبيرا عن ثقافة الإنسان الممارس لها تناولها الأنثروبولوجيون بالبحث و الدراسة. و إذا كان التبادل ظاهرة إنسانية بامتياز و اللغة كذلك, فسيكون من المثير مقاربة التبادل من الجانب اللغوي, مما سيغني معرفتنا بهذا المفهوم.



جاء في معجم "لسان العرب" لـ "ابن منظور": " البَدِيل البَدَل, و بَدَلُ الشيء غَيْرُه (...) بِدْل الشيء و بَدَله و بَدِيله الخَلَف منه, و الجمع أَبدال؛ قال "سيبوبه": " إِنَّ بَدَلك زَيد أَي إِنَّ بَديلك زَيْد" قال: " و يقول الرجل للرجل اذهب معك بفلان فيقول معي رجل بَدَلُه أَي رجل يُغْني غَناءه و يكون في مكانه", و تَبَدَّل الشيءَ و تَبدل به و استبدله و استبدل به كُلُّه اتخذ منه بَدَلاً". إن هذه الدلالات تركز على العناصر المستلزم وجودها في كل تبادل, و هي الشيء المبدل أو المستبدل و المبدل به, هذا بالإضافة إلى الأطراف الفاعلة في التبادل باعتبارهم ذواتا مريدة. و قد جاء في نفس المعجم " و بدّله الله من الخوف أَمْناً, و تبديل الشيء تغييره و إِن لم تأْت ببدل, و استبدل الشيء بغيره و تبدَّله به إِذا أَخذه مكانه, و المبادلة التبادُل, و الأَصل في التبديل تغيير الشيء عن حاله, و الأَصل في الإِبدال جعل شيء مكان شيء آخر كإِبدالك من الواو تاء في تالله, و العرب تقول للذي يبيع كل شيء من المأْكولات بَدَّال (...) و قد جعلت العرب بدَّلت بمعنى أَبدلت, و هو قول الله عز وجل: ﴿أُولئك يبدّل الله سَيِّئاتهم حسنات﴾ أَلا ترى أَنه قد أَزال السيئات و جعل مكانها حسنات ؟ (...) وقال "الليث": "استبدل ثوباً مكان ثوب وأَخاً مكان أَخ ونحو ذلك المبادلة".



من خلال ما سبق يتضح الجانب الإيجابي من التبادل؛ فالإنسان لا يتبادل إلا قصد الحصول على ما هو أحسن و أفضل بالنسبة له, و من ناحية دينية هناك تجارة بين الله و بين الإنسان, و التجارة وجه من وجوه التبادل, فإذا كانت هذه التجارة رابحة بالنسبة للإنسان أبدل الله سيئاته حسنات, هذا مقابل أن يؤمن الإنسان بالله و يتبع سبيله فلا يبدله و لا ينحرف عنه, ليكون بذلك من الأبدال؛ جاء في "لسان العرب": " و الأَبدال قوم من الصالحين بهم يُقيم اللهُ الأَرض, أَربعون في الشام و ثلاثون في سائر البلاد, لا يموت منهم أَحد إِلا قام مكانه آخر, فلذلك سُمُّوا أَبدالاً, و واحد الأَبدال العُبَّاد, بِدْل وبَدَل, و قال "ابن دريد": " الواحد بَدِيل (...)وبَدَّل الشيءَ حَرَّفه, و قوله عز وجل: ﴿و مـا بَـدَّلوا تبديلاً﴾" يستخدم البدل بمعنى البديل, و قد يستخدم بمعنى الوجع؛ ورد في "لسان العرب" قول "ابن منظور": " و البَدَل وَجَع في اليدين و الرجلين, و قيل وجع المفاصل و اليدين و الرجلين بَدِل بالكسر يَبْدَل بَدلاً فهو بَدِلٌ إِذا وَجِع يَديه و رجليه, (...) و يقال للرجل الذي يأْتي بالرأْي السخيف : "هذا رأْي الجَدَّالين و البَدَّالين", و البَدَّال الذي ليس له مال إِلا بقدر ما يشتري به شيئا,ً فإِذا باعه اشترى به بدلاً منه يسمى بَدَّالا".







و هذه الدلالات التي ذكرناها نجد باقي المعاجم تتفق حولها؛ يقول "الزمخشري" في "أساس البلاغة": " بدل الشيء غيره, (...) و استبدلته و بادلته بالسلعة إذ أعطيته شروى ما أخذته منه, و رب بدل شر من بدل و هو وجع في العظام, (...) و هو من الأبدال أي الزهاد".



و في "الصحاح" لـ "الجوهري" نقرأ ما يلي: "البديل البدل, و بدل الشيء غيره, (...) و تبديل الشيء أيضا تغييره و إن لم يأتي ببدل, (...) و المبادلة التبادل, و الأبدال قوم من الصالحين".



و نفس الشيء وارد في معجم "العين" لـ "الخليل ابن أحمد الفراهيدي": "البدل خلف من الشيء, و التبديل التغيير, و استبدلت ثوبا مكان ثوب و أخا مكان أخ و نحو ذلك المبادلة".



أما "الزبيري" في " تاج العروس" فنراه يذكر بعض الدلالات النحوية اللغوية للجذر ب.د.ل, يقول في معجمه: " حروف البدل أربعة عشر حرفا: حروف الزيادة ما خلا السين و الجيم و الدال و الطاء و الصاد و الزاي, يجمعها قولك: أنجدته يوم صال زط, و حروف البدل الشائع في غير إدغام أحد و عشرون حرفا...".



و في "جمهرة اللغة" لـ "إبن دريد": " بادلت الرجل مبادلة و بدالا إذا أعطيته شروى ما تأخذ منه, (...) و البادل لحم الصدر واحدتها بادلة"



بالرغم من أن ظاهرة التبادل قد خضعت كغيرها من الظواهر الاجتماعية للتغير والتطور فأصبحت لها أشكال عديدة وصور مختلفة ودلالات متعددة إلا أن السمة الغالبة كما يرى مارسيل "موس" في التبادلات هي تلك الوظائف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والرمزية, و يضيف "موس" من خلال دراسته حول المجتمعات البدائية أن التبادلات قد تبدو أنها تقدم عن تفضل وإرادة بينما هي في حقيقة الأمر ليست اختيارية بل جبرية ولغرض معين ولذلك أطلق عليها موس التبادلات الإلزامية{[1]}.



إن التبادلات الإلزامية هي التي تأخذ عنصر الإلزام والإجبار بمعنى أنه يتحتم على الشخص يردها بأخرى مماثلة أو بما يساويها في القيمة او أكبر منها, و تأخذ ظاهرة الإلزام في المجتمعات البدائية ثلاث مظاهر : العطاء والأخذ والرد. أي الالتزام بتقديم التبادلات {الهدية كنمودج}والالتزام بقبولها والالتزام بردها وهذه الثلاث مظاهر مرتبطة بشكل كبير في المجتمعات البدائية .



ففي جزر فيجي جنوب ميلانيزيا يوجد نظام للتبادل يسمى ألكيري كيري حيث خلاله لا يمكن رفض أي شيء من أحد فيقع تبادل الهدايا بين الأسرتين أثناء الزواج . أما مجتمعات الهنود الحمر في الشمال الغربي لأمريكا فيلتزم زعماء القبائل بتقديم تبادلتهم (روح البوتلاش) عن الأبناء والبنات وأرواحهم وأرواح الأسلاف التي يجب إرضاؤها حتى تبارك زعامة الرجل. وكذلك الالتزام بقبول التبادلات وإلا يكون ذلك دليل على الخوف من عدم القدرة على الرد لاحقاً . وقد يرفض الزعيم قبول الهبة إمعاناً في إظهار مكانته السامية على أساس أنه فوق قبول هبة من أدنى. فالالتزام هنا يتضمن إقامة الحفل الذي يدعى إليه أثرياء القوم ويوفر لهم الطعام ويقدم لهم الهبات. ويتضمن أيضاً الالتزام برد الدعوة وذلك عن طريق إقامة حفل لاحق{[2]}.



وكذلك تتبع الهبات التي يتبادلها الميلانيزيون في الكولا نفس الأسلوب إذ أنها إلزامية لأن الشركاء يتبادلون الهبات والزيارات والخدمات والحماية الأمنية والسحر ويتوقعون من شركائهم أن يقوموا بنفس الشيء عندما يذهبون إليهم في جزرهم. وهناك علاقة شبيهة بالكولا على أساسها تقوم مبادلات منتظمة وجبرية بين الشركاء من قبائل زراعية من جهة وقبائل بحرية من جهة أخرى . فالشريك الفلاح يأتي ليضع منتجاته أمام شباك شريكه الصياد. و على هذا الأخير بعد أن يقوم بصيد وفير أن يذهب إلى القرية ليقدم لشريكه الفلاح مقابل هديته محصول صيده.



و نستطيع أن نرى من الأمثلة السابقة أن التبادلات في المجتمعات البدائية نادراً ما يكون اختياراً وحتى لو بدأ لنا أن هذه الهدايا تعطى لوجه الهبة والعطاء فأنها تعطى في الحقيقة لوجود صفة الإلزامية فيها والتي لا يستطيع أي فرد في المجتمع البدائي أن ينكرها وإلا يتهم بالخوف من الرد . وقد بلغ الأمر في بعض المجتمعات إلى حد طرد المرأة التي لم يحسن أقاربها العطية رداً عما تلقوه في عملية المصاهرة.



ويرى موس أن التبادلات مهما كان نوعها أو شكلها ومهما كانت نوعية المناسبات التي تقدم فيها وحتى عندما لا يكون الذي توهب إليه في حاجة مادية إليها إنما تتضمن بالضرورة نوعاً من الالتزام تفرضه على المعطى له وتتطلب منه أن يقوم بردها إما بما يساويها في القيمة أو أكبر منها في القيمة . ولقد حاول موس أن يتوصل إلى تفسير علمي لخاصية الجبر والإلزام في التبادلات. وفهم القواعد والقوانين التي تحكم هذه الظاهرة وتجعل منها شيئاً جبرياً وليس اختيارياً . وأخيراً توصل هذا الانثروبولوجي إلى أن هذه الصفة الإلزامية في تبادل الهدايا في المجتمعات البدائية ترجع إلى عدة عوامل نذكر منها:



1 – أن الشيء المعطى كائن له روح وتكمن فيه قوة تحركه وهو مرتبط بصاحبه الأول، فإذا أعطى فإن روح الشيء نفسه تضمن رجوعه أو رجوع ما يعادل قيمته إلى مالكه الأول.



2 – وجوب العطاء ووجوب الأخذ ووجوب الرد فوجوب العطاء مرجعه أن الشيء بما أنه متداخل مع صاحبه ومتكامل معه فإن إعطاءه يعتبر تعبيراً عن رغبته في التقرب إلى الشخص المعطى له والتحالف معه . ووجوب أخذ الشيء المقدم هو بمثابة تعبير عن قبول هذه المحالفة والمشاركة والقرابة التي عرضها المعطي . والامتناع عن العطاء والأخذ معناه رفض المشاركة والتحالف وذلك في حكم إعلان الحرب الخاصة أو العامة .



3 – مفهوم القربان والصلة بينه وبين الهبات ، فالقربان هو الهبة إلى الناس لوجه الآلهة والطبيعة وقد يكون أحياناً لوجه الآلهة والأرواح كثمن للحصول على الأمان والسلام{[3]} فالاعتقاد عند الكثير من المجتمعات البدائية أن التبادلات{الهبة كمثال} تكمن فيها قوة روحية تتسبب في رجوعها إلى معطيها الأصلي وهذه هي إحدى المفاهيم التي حاول الأنثروبولوجيين دراستها وبحثها . والسبب الآخر هو أن إعطاء الهبة وقبولها وردها يعني الرضا بقبول العلاقة مع المتبادل معه والدخول في أحلاف وصداقة أو قرابة . والرفض يعني علنياً عدم قبول هذه الصداقة أو التحالف. وهذا ما يجعل من تبادل الهبات شيئاً مقدساً وإلزامياً في المجتمعات البدائية . ففي جزر التروبرياند يدخل سكان الجزر في تحالفات سياسية وتفرض عليهم عملية التبادل المستمرة عدداً من الحقوق والواجبات والالتزامات المتبادلة وبذلك تخلق نوعاً من العلاقات الواسعة الممتدة بين القبائل المختلفة . وبما أن التبادلات تعتبر ظاهرة اجتماعية إذاً لابد أن لها من وظائف وسنحاول أن نعرض لبعضها هنا.



الوظائف الانتربولوجية للتبادلات{الهبة كنموذج}:



1 –وظائف لها علاقة بالشرف والسمعة :



إن التبادلات{الهبة}ترتبط في تقديمها وفي قبولها بنوع من الشرف والسمعة وذيوع الصيت. وذلك كما في نظام " البوتلاتش" السائد في عدد من قبائل الهنود الحمر الذي يرتكز في أساسه على أن يقوم الشخص من ذوي المكانة والمركز الاجتماعي بتوزيع نوع من الأغطية على أقاربه الذين لا يلبثون بعد انقضاء فترة من الزمن أن يردوا إليه هذه الأغطية بعد أن يضيفوا إليها أعداد أخرى كبيرة قد تصل إلى أضعاف ما أخذوه منه في الأصل . ويهدف ذلك إلى اكتساب المزيد من الشرف والسمعة الطيبة وذيوع الصيت عن طريق المدح والإعطاء والمبالغة في الرد ويلجأ الشخص إلى إحراق الكثير من ممتلكاته وإحراق هذه الأغطية ذات القيمة الاجتماعية العالية ليدلل على إستها نته بالأشياء المادية التي تؤلف ثروة الرجل العادي. و كلما أهدر الشخص هذه السلع المادية وقام بإحراقها أو إتلافها كلما ارتفعت مكانته في المجتمع . ويتضح ذلك أيضاً عند مجتمع " التيف " من خلال تبادلهم الهدايا وإزالتها عن طريق استهلاكها بالاستعمال الشخصي أو في إقامة الحفلات بحيث لا تعود تعتبر عنصراً من عناصر التبادل . فإن عملية الإزالة بهذه الطريقة تؤدي إلى رفع مكانة صاحبها



2 –وظائف توطيد العلاقات الاجتماعية :



إن في تبادل الهبات توطيد للعلاقات الاجتماعية حيث في مجتمع " التيف " قد يضطر الفرد أحياناً إلى أن يستبدل بعض السلع ذات الفئة الاجتماعية المنخفضة بسلع ذات قيمة اجتماعية عالية تحت وطأة الظروف الخاصة التي يعيش فيها وبخاصة فيما يتعلق بالتزاماته نحو أقاربه أو حاجة هؤلاء الأقارب الماسة إلى تلك السلع رقم أنها لا تتمتع بقيمة مساوية لتلك السلع التي اضطر للنزول عنها . وأن المجتمع ينظر بعين الاعتبار إلى الشخص الذي يعمل على تحويل ثروته من السلع الدنيا إلى السلع ذات القيمة الاجتماعية . ومجتمع التيف يحتقرون الشخص الذي تنحصر كل ممتلكاته وكل ثروته في السلع الخاصة بالقوت والمعيشة والسبب في ذلك يرون أنه عجز في الشخص عن أن يحقق مثل ذلك العمل الذي يقدره المجتمع.



ويسلك التبادل في نظام " الكولا " مسلك الأصدقاء إلا أن الحقوق والواجبات والالتزامات المفروضة على أطراف التبادل تتفاوت تبعاً للمسافة التي تفصل الجزر والقرى عن بعضها البعض وكذلك تبعاً للمركز الذي يشغله الفرد . فإن الرجل العادي يدخل في علاقات على مقربة منه أي مع أقربائه وأصدقائه بينما الرجل الغني تتشعب علاقاته إلى حد كبير نظراً لمكانته الاجتماعية العالية . وكأن كل طرف من أطراف التبادل في نظام الكولا الذي يعيشون في جزر متفرقة تفصل بينهما البحار يعتبرون حلفاء يناصرون بعضهم البعض في أوقات الشدائد إلى جانب القيام بواجبات الضيافة . بالإضافة إلى أن نمط التبادل نفسه كثيراً ما يكون دليلاً على وجود علاقة اجتماعية من نوع معين بالذات مثلاً في تبادل الهبات .



3 –وظائف اقتصادية :



إن نظام التبادل الشعائري يتبعه مقايضة لسلع تجارية كنشاط ثانوي . ويجري التبادل في الكولا بالسلع القيمة وهي العقود والأساور المصنوعة من المحار بين شركاء الكولا . وعلى الرغم من أن هذا النظام يعتبر نظام شعائري بالدرجة الأولى ولا تحصل فيه المساومة إلا أنه يوجد فيه تبادل لسلع تجارية ثانوية .



فحينما يشرع أحد أفراد الحلقة في زيارة شركائه في الاتجاه المقابل، فإنه يحمل قاربه ما استطاع من أطعمة ومصنوعات مادية منتجة محلياً لبيعها في هذه الرحلة. وبعد انتهاء الإجراءات الصورية المتعلقة بهدايا الكولا فإن هذه السلع تخضع للمساومة وتباع للآخرين بحيث يكون الطرفان المتاجران على درجة من الرضا بصفقاتهما.



4 –وظائف لها علاقة بالمركز الاجتماعي :



يرتبط تبادل الهبات بالمركز الاجتماعي في الكثير من المجتمعات . ففي مجتمع التيف يتبع الأشخاص عدة طرق للحصول على المزيد من المكانة الاجتماعية . فقد يلجأ ون إلى إزالة السلع وتدميرها أو تحويلها إلى أشكال أخرى بحيث لا تصبح سلعاً من سلع التبادل . فقضبان النحاس الأصفر يمكن تحويلها إلى أنواع أخرى من الحلي ، والأبقار والماشية يمكن ذبحها في المناسبات المختلفة ، أما القماش الأبيض الذي يقيم له التيف وزناً كبيراً فيستهلك بالاستعمال الشخصي . وقد اعتقد بعض الانتربولوجيون أن الأفراد في المجتمعات البدائية يلجأ ون إلى تجميع السلع للحصول على المزيد من المكانة الاجتماعية ولكن - حسب موس- هذا اعتقاد خاطئ . فالرجل البدائي يسعى للحصول على السلع ولكنه لا يحتفظ بها لنفسه بل يتخلص منها بعدة طرق كما ذكرنا . ومن هذه الطرق الإزالة والتدمير والتحويل . وكلما ارتفعت قيمة الهبات المقدمة كلما ارتفعت مكانة الشخص الاجتماعية ، وتزيد أيضاً مكانة الشخص الاجتماعية بزيادة كمية الثروة الموزعة في المناسبة وليس في ادخارها والمحافظة{[4]}.



مما سبق يتضح أن التبادلات بمختلف أشكالها{الهبة،البوتلاش،الكولا...}تؤدي وظائف مختلفة في المجتمعات البدائية،لكن هده الوظائف لا يمكن حصرها في المجتمعات البدائية ،وقد أدى اختلاف وتنوع أشكال التبادلات في المجتمعات المعاصرة ،إلى تعدد وظائفها داخل المجتمع فإضافة إلى الوظائف السابقة تداخلت عناصر أخرى ومنها البعد الرمزي الذي أصبح يشكله التبادل.



رؤية أنتربولوجية لقداسة التبادل:



إن التبادل الذي يتم بين أفراد المجتمع تصاحبه دائماً بعض الطقوس والشعائر. فهذه الطقوس تعمل على حفظ حقوق أطراف العلاقة في الأخذ والرد ولذلك فإنها تحقق الاستقرار وتدعم أواصر العلاقات داخل مجتمع القبيلة. بالإضافة إلى أن هذا النظام الشعائري يهدف إلى اكتساب المزيد من الشرف والسمعة الطيبة وذيوع الصيت عن طريق المنح والإعطاء والمبالغة في الرد والدليل على ذلك أن الشخص كثيراً ما يلجأ إلى إحراق الأغطية ذات القيمة الاجتماعية العالية وأحياناً أخرى قد يحرق بعض ممتلكاته ليدلل على استهانته بالأشياء المادية ويدعو غيره من الأشخاص الذي يحضرون حفل البوتلاتش إلى مجاراته في أعماله .



وكنموذج لقداسة التبادلات نأخذ نظام الكولا الذي هو نظام شعائري تتبعه بعض القبائل المالينزيه التي تعيش في منطقة جزر واحدة تنتشر على شكل حلقة وتكون دائرة مغلقة للتبادل. وفي نطاق هذه الدائرة يتبادل الملاينزيون مجموعتين من السلع . مجموعة السولافا " المحار " ومجموعة الموالي " إسورة " وتسير السولافا في اتجاه عقارب الساعة بينما تسير الموالي في الاتجاه المعاكس ويتم تبادل هاتين السلعتين في كل نقطة من نقاط الدائرة ويتبع ذلك حفلات ومراسيم وطقوس وسحر . ويقوم الزائر وخاصة إذا كان من ذوي المكانة الرفيعة بتقديم هداياه من النقود مثلا للشخص الذي اعتاد التبادل معه ويأخذ معه في مقابل ذلك بعض الأساور التي تهدي إليه نظير هبته في هذا الحفل الرسمي الكبير الذي أقامه أهل الجزيرة . والمشتركون في عملية التبادل هذه يستلمون الأشياء لفترة من الزمن ولكنهم لا يستطيعون أن يحتفظوا بها إلى الأبد لأنه يتوجب عليهم تمريرها في خط السير المرسوم لها كما تجري العادة .



وقد يذهب الرجال في رحلات الكولا خالي الوفاض لا يحملون أي هدايا ليقدموها إلى شركائهم بل ليقدموا بذهابهم تذكرة بأن عليهم دين شرف قد آن أوان سداده . يتحقق النجاح في الكولا كما يظن من يمارسونها بإجراء طقوس سحرية لتهدئة الشريك وجعله يشعر بأنه كريم يستطيع أن ينتظر . والأسس التي يقوم عليها هذا التبادل المؤجل هو أن كل هدية تقدم يجب أن تساوي الهدية المستلمة . وهذا واجب مقدم الهدية فهو الذي يجري التقديرات .



ويحدث أحيانا أن يتأخر الشخص في رد الهبة المناسبة ولذلك يتوجب عليه أن يقدم بعض الهدايا الصغيرة من حين لآخر حتى تتاح له فرصة تقديم الهدية المناسبة . والملفت فيها ما يدل على تفكير الناس في أمور الربح والكسب والمساومة . ومع أن الكولا يصحبه أحيانا نظام مقايضة تجاري ثانوي لسلع تجارية ضرورية وكذلك يصحبه تبادل هدايا وخدمات إلا أن هذا التبادل التجاري ليس هو الأساس الذي تقوم عليه الكولا .



ويميز الأهالي بين الكولا والمقايضة ولذلك يعيبون احياناً على الشخص طريقته في تبادل الكولا فيقولون أنه " يقوم بالكولا كما لو كان يقوم بعملية مقايضة " فهذه العملية ليست عملية تجارية تقوم على المساومة أو إلى حساب أو تقدير قيمة الهدية . والمبدأ الآخر هو أن العرف والتقاليد تحتم على الرجل الذي يقبل هبة من شخص آخر أن يرد إلى المهاب له ما يقابل هبته ويرى مالينوفكسي أن شريك الكولا يشتري المجد كما يشتري الصداقة فشركاؤه الذين يعيشون في جزر نائية يستطيع أن يعتبرهم حلفاء ويتوقع منهم الحماية . فالمكاسب الاجتماعية بما فيها الحصول على الشهرة والصيت هي الاساس في هذه العملية . فالتبادلات في هذه الحالة يؤكد الروابط الاجتماعية والهدايا لا تعطي اعتباطاً وانما هي تقدم لمقابلة بعض الالتزامات الاجتماعية المحددة .



ونجد ذلك دراسة بول بوهانان . والتيف قبائل تعيش في وسط وادي بنيو في نيجيريا الشمالية وتعتمد هذه القبيلة على محصولات القوت والمعيشة من خلال ممارسة الزراعة. ولكنهم يستكملون معظم احتياجاتهم الأخرى من عدد كبير من الأسواق المجاورة التي تعرض فيها مختلف السلع،بحيث تأخذ هده التبادلات بعد ودلالة ومقدسة،من المفروض والواجب على المشتغلين بالزراعة تقديم محصلهم وفي اعتقادهم أنه يتقربون إلى الآلهة،ونجد أصحاب المواشي نجد لهم نفس الاعتقاد ،الشيء الدي يضفي على التبادلات صفة القداسة.



ما يفهم من لفظ التبادل في المجال الفلسفي يختلف باختلاف الأنساق الفلسفية و السياق التاريخي الذي جاءت فيه, و آية ذلك أن كل مفهوم في الفلسفة يحمل طابع الفلسفة التي أنتجته و لا يفهم المقصود منه إلا بإرجاعه إلى السياق التاريخي و المذهب الذي ورد فيه و على هذا الأساس نجد "جبراييل مارسيل" يؤكد أن التبادل خاصية إنسانية تؤسس للوجود الأصيل. فالوجود الحق لا يقوم إلا على نوع من التبادل بين الأنا و الآخر, بيد أن التبادل هنا لا يعني النظر إلى الآخر بوصفه موضوعا أو أداة في خدمة الأهداف, كما لا يعني النظر إليه على أنه غاية في ذاته أو أن له قيمته الخاصة به و التي لا تعادل قيمتي, بل إن التبادل هنا يعني الحوار مع الآخرين و التواصل معهم, كما يعني المشاركة و المحبة و عن طريقه ندرك شخصيتنا و نؤسس لوجودنا الحقيقي. كما يؤكد "جبراييل مارسيل" أن حدود التبادل لا تقف عند حوار الأنا مع الغير بل يمتد إلى تبادل أرقى يجمع بين الأنا و الغير.



و هذا "ماركس" كارل يؤكد أن المجتمع الإنساني يقوم على أساس تبادل المنتجات؛ لهذا يعتبر التبادل المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه كل نظام اجتماعي, ذاك أن الإنسان تكون لديه حاجات أساسية ينبغي إشباعها لحفظ بقائه, لهذا يتجه نحو الطبيعة لتحقيقها, و من هنا الدخول في علاقة جدلية مع الطبيعة. و لكن ضعفه و ضغط الحاجة يدفعه إلى الدخول في نوع من التبادل الاجتماعي مع الغير و القائم على التفاعل بين الطبقات الاجتماعية قصد استغلال الطبيعة. إلا أن انقسام المجتمع إلى طبقات ( طبقة مالكة لوسائل الإنتاج و طبقة عاملة) يجعل التبادل قائما على المنفعة و الاستغلال. و تختلف مظاهر التبادل باختلاف أنماط الإنتاج عبر التاريخ, لكن معظمها يعبر عن تفاعل قائم على الصراع و الاستغلال و المنفعة:



- نمط الإنتاج القديم : التبادل بين الأسياد و العبيد



- نمط الإنتاج الإقطاعي: التبادل بين العسكريين و الأقنان.



- نمط الإنتاج الرأسمالي: التبادل بين أصحاب وسائل الإنتاج و العمال.



و إذا عدنا إلى الفلسفة الحديثة "توماس هوبز" ينظر للتبادل على أنه خاصية إنسانية لم تتمظهر إلا عند الاجتماع البشري وفق عقد اجتماعي ينظم طبيعة التفاعل و التواصل بين أفراد المجتمع الذين كانوا سابقا يعيشون حالة حرب فيما بينهم منعت قيام أي شكل من أشكال التواصل و الحوار و التفاعل.



إذا كنا نعتبر أن التبادل خاصية إنسانية بامتياز, فإن الإنسان بالفعل كائن تبادلي لأنه يمتلك أعقد أشكال التبادل, ليتجاوز بذلك التبادل المادي و الإقتصادي إلى التبادل الرمزي الذي يتجلى بالأساس في تبادل التمثلات و الأفكار و التصورات و المواقف و السلوكات, و بالتالي يمكننا القول إن التبادل سمة سيكولوجية اجتماعية و ثقافية.



في سياق ذلك أغنت السيكولوجية مفهوم التبادل و ساهمت في توضيحه بالوصف و التحليل الدقيقين لمتغيراته المعرفية الوجدانية و الإجتماعية معتبرة إياه خاصية إنسانية بامتياز ينبغي تطويرها و تفعيلها لدى الأفراد و الجماعات. و تأتي أهمية المقاربة السيكولوجية للتبادل من كون هذا الأخير لا يمكن دراسته بمعزل عن النشاط المعرفي و الوجداني و اللغوي و التواصلي و باستقلال عن ميادين مثل: الإدراك, الفهم, الذاكرة, حل المشاكل, المواقف الذاتية, الإنفعالات؛ فالتبادل في أبعاده اللغوية و التواصلية بين الأفراد هو سلوك ناتج عن التربية و التنشئة الاجتماعية يترك آثارا على نفسية الأفراد.



إن التبادل في أبعاده اللغوية و التواصلية يقوم بوظيفتين أساسيتين:



1) الوظيفة الإعلامية الإخبارية و يتجلى ذلك في تبادل المحتويات التي تكون عبارة عن وقائع و أحداث و أفكار و معارف تتعلق بالعالم الفيزيائي و الإجتماعي و الذي يجب على الفرد أن يتعلمه هو كيف يستوعبه و يتحكم فيه.



2) وظيفة ممارسة المراقبة؛و يتجلى ذلك في سلوك الشخص للمعنى المتبادل الرمزي و التواصلي و يمثل هذا الطلبات, الاقتراحات, الأوامر, البرهنة, التشجيعات و التأثيرات الوجدانية التي يكتسبها الطفل و يستعملها للتأثير على محيطه.



إن التبادل نفسيا هو مجموعة من التأثيرات المتبادلة على مستوى الحالات الشعورية و اللاشعورية للشركاء داخل نفس المحيط الاجتماعي. و من وجهة نظر علم النفس الإجتماعي فإن التبادل الرمزي و الإجتماعي للأفكار و المعارف و التمثيلات و المواقف هو بالأساس تفاعل بين عدة شركاء تحدده قواعد الوضعية و السياق. فالتبادل إذن صيرورة ديناميكية للتأثير و التفاعل المتبادلين.



أما التبادل كمفهوم سيكولوجي في نظرية التحليل النفسي عند "سيغومند فرويد" فإنه يأخذ بعدا مهما بحيث يعتبر محوريا في الشخصية و ذلك تبعا لمنطق التبادل الذي يحدث بين الجوانب الفطرية و البيولوجية مع البيئة الاجتماعية إنها علاقة شد و جذب, ومن خلال هذا الصراع و التبادل و التفاعل مع البيئة تتكون الشخصية و تنمو و يتحدد شكلها.



و حسب النظرية السلوكية و خصوصا مع "واطسون" يعتبر التعلم هو الإطار و المجال الذي يحدد التبادل الإنساني في بعده السلوكي بحيث أن تبادل السلوكيات بين الناس هو عبارة عن تبادل لمجموعة من المثيرات و الاستجابات فيما بينهم؛ فالتبادل في هذا السياق يأخذ صبغة انفعالية و بالتالي فالفرد في هذا العدد على أن التبادل بهذا المعنى هو نشاط آلي و ظاهري يمكن تحليله إلى و حدات بسيطة هي الاستجابات الأولية التي ترتبط بمثيرات محددة للكشف عما بين هذه الوحدات من علاقات, و دراسة القوانين التي تتحكم في هذا السلوك.







[1] -مارسيل موس،مرجع سابق ص77



[2]-ايفانزبريتشارد "الانتربولوجا الاجتماعية"ترجمة أحمد أبوزيد،المنشورات الجامعية المصرية،القاهرة1976 ص56



[3] - مارسل موس"بحث في الهبة"مرجع سابق،ص87.



-[4] ايفا نز بريتشارد"الانتربولوجيا الاجتماعية"مرجع سابق،ص64



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الشغل

محاور الدرس




1) الشغل متعة؟



2) الشغل خاصية إنسانية.



3) الشغل بين الحرية و الاستلاب.




الوضعـــــــــية المشكلة







يحكى أنه كان في إحدى الحقول ، صرار يهوى اللهو والمرح ، حيث كان يقضي كل الصيف في الغناء ، وحين حل الشتاء ، غطت الثلوج الحقل ، وقضى البرد القارس غطى كل الزرع ، ووجد الصرار نفسه بدون زاد.



أخذ الصرار يتضور جوعا ، وفجأة خطر بباله ان يتوسل النملة فلربما يجد لديها ما يسد رمقه.



طرق الصرار باب النملة ، ولما فتحت له قال:



- ألا أقرضتني بعض الحبوب تحميني وعكاء الجوع ، وأنا أعدك بردها في الموسم المقبل.



أجابت النملة:



- أليس لديك زاد؟



الصرار:



- لا



النملة:



- وما كنت تفعل في فصل الصيف إذن ، عندما كان الكل يتزود للشتاء؟



الصرار:



- كنت اغني ...



النملة:



- كم أنا سعيدة بك ، قضيت الصيف كله في الغناء , ولما لا تقضي الشتاء في الرقص.



2 - التـــــــــــــعليمات







· من هم أبطال هذه القصة؟



· ماهو موضوع الحوار؟



· ماهو مصدر هذا الطعام؟



· كيف يمكن الحصول عليه من الطبيعة؟



· بما أن القصة اقتصرت على حيوانات ، فهل الحيوانات تشتغل؟











3 - استثمار النتائج وربطها بدرس الشغل



محور



الشغل خاصية إنسانية







تعــــــريف الشــــــغل







غالبا ما يفيد الشغل في التمثل الشائع العمل العضلي والجهد الجسدي الذي بموجبه يحول الإنسان الطبيعة. وهكذا يرتبط مفهوم الشغل في التمثل الشائع بالعمل اليدوي، ويقصي العمل الفكري كفاعلية يمكن اعتبارها شغلا. وفي التمثل المعجمي العربي، فإن الشغل يفيد ـ إضافة إلى العمل اليدوي ـ شغل حيز مكاني، فيكون بهذا ضد الفراغ ؛ حيث نقول مثلا : "هذه الطاولة تشغل هذا المكان". ويفيد الشغل ـ كذلك ـ العمل الفكري خصوصا حينما يصبح الفرد مهووسا بفكرة معينة، فيقال مثلا : "هذه الفكرة تشغل ذهن هذا الشخص". بل إن كلمة صناعة في اللغة العربية تنتقل من مستوى الحرفة لتشمل العمل الفكري، فيقال مثلا : صناعة الأدب، صناعة الحكمة ...الخ.



وفي التمثل المعجمي الفرنسي، فإن الشغل le travail يفيد كلا من العمل الفكري واليدوي. وإذا انتقلنا إلى مجال الفلسفة، فإن الآراء المتداولة حول ظاهرة الشغل تنقسم إجمالا إلى : فلسفات رافضة للشغل باعتباره إقصاء لماهية الإنسان، وفلسفات تعتبر الشغل أساس كل قيمة إنسانية، وأخيرا فلسفات تنتقد الشغل دون أن تقصيه من الظواهر الإنسانية. انطلاقا من هذا تتولد الإشكالات التالية : هل الشغل خاصية إنسانية أم حيوانية ؟ ماهي الأثار التي خلفها تقسيم الشغل على حياة الإنسان ؟ هل الشغل فاعلية تعمل على تحرير الإنسان وتحقيق ذاته ؟ أم أنه يعمل ـ على العكس ـ على استعباد الإنسان واستلابه؟







2 ـ تــــــمهيد



إن الشغل ظاهرة مرتبطة منذ القديم بتحقيق الحاجات الضرورية في حياة الإنسان. ولكن المجتمعات القديمة كانت تميز بين عمل وآخر ؛ فاليونان ـ مثلا ـ كانوا يستهجنون العمل اليدوي.. هكذا كان أفلاطون وأرسطوينظران إلى الشغل ويربطانه بالعمل اليدوي، ومن ثمة فهو عمل لا يصلح إلا للرعاع والعبيد. إن العمل اليدوي، في نظر فلاسفة اليونان، يتنافى مع ماهية الإنسان، لأن الإنسان "حيوان عاقل"، ومن ثمة تكون الخصوصية الأساسية للإنسان هي التفكير. هكذا يكون العبد مجردا من خصوصياته الإنسانية، فأصبح ـ كما يرى أرسطو ـ مجرد آلة، لأنه يعوض الآلة التي يحتاج إليها الإنسان.







1- الــــــشغل خاصية أنـسانية:



موقف كارل ماركس:



إن الأطروحة الماركسية، تنظر إلى الشغل من وجهين : فالشغل هو مجهود جسمي وقوة فزيائية يسخر بهما الإنسان الطبيعة لنفسه، حيث يقول ماركس : "إن العمل الحي يأخذ الأشياء ويبعثها من بين الأموات" ؛ كما أن الشغل فاعلية (أو نشاط) مرتبطة بماهية الإنسان، فبواسطته ينمي الإنسان مواهبه وملكاته وقدراته.



وانطلاقا من هذا يمكن طرح الإشكال التالي : هل يمكن اعتبار إنجازات بعض الحيوانات شغلا ؟ إذا تأملنا ما تقوم به بعض الكائنات الحية، يبدو كأنها تشتغل، وقد نجدها تضاهي في مهاراتها أمهر الصناع الآدميين، ومع ذلك يرى ماركس أنه لا يمكن اعتبار إنجازاتها شغلا، لأن الفعل الذي يصدر عنها مجرد سلوك آلي غريزي ونمطي. فالشغل ـ إذن ـ ظاهرة إنسانية لارتباطه بالوعي. بمعنى أن الشغل معاناة فكرية، هو تصميم وتخطيط وتدبير، هو إبداع وخلق وابتكار، هو سلوك غائي يبحث عن الأفضل، هو شعور بالمتعة وتحقيق للذات. فهو ليس نشاطا معزولا، وإنما هو ـ كما قال ماركس ـ مسار تتفاعل فيه ثلاثة مكونات : الشغل ذاته كفعل للإنتاج، والمادة التي هي موضوع التحويل، والأداة التي بواسطتها يحدث فعل الإنتاج... وكنتيجة لهذا، يرى الماركسيون أن الشغل خاصية إنسانية بامتياز.







موقف نيتشه:



ويقف نيتشه موقف المستغرب من أمثال هذه التحاليل لأنه يرى أن الاستغلال أمر طبيعي، لأن إرادة القوة كانت دائما هي المتحكمة في أعناق الناس. فالإنسان بطبعه يعمل على هيمنة "أخلاق القوة" (أخلاق السادة) ومن الطوباوية أن نفكر في مجتمع ينعدم فيه الاستلاب لأن المجتمعات لا يمكن أن تنسلخ عن أشكال الاستغلال. إن المساواة وأفكار التحرر لا تكون إلا بين الأقوياء الأنداد. وتجدر الإشارة إلى أن نيتشه يرفض العمل اليدوي لأنه يعتبر شيئا يتنافى مع القيم الأرستقراطية التي تعبر عن عدم الحاجة إلى العمل، وضرورة الانصراف إلى العمل الفكري، والمطالعة، وكتابة الرسائل الطويلة، وهذا كله من شيم السادة الأقوياء. إلا أن الإشكال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو : ألا يمكن للإنسان أن يتحرر من خلال الشغل وبواسطته ومهما كانت طبيعة العمل الذي يمارسه؟







2- تقسيـــــــــم الشغل:



موقف ادم سميث:



لقد أبانت الثورة الصناعية عن قيمة العمل والتصنيع. لذا نجد آدم سميث A. Smith يؤكد أن الشغل هو أساس كل قيمة تبادلية، فقد تبين بعد تقسيم الشغل، أن الفرد أصبح في حاجة إلى غيره لينتج له ما لا يستطيع هو إنتاجه. كما أن قيمة المنتوج تزداد بكمية المجهود المبذول لإنتاجه. فالشغل إذن مثل العملة، فهو الثمن الذي يدفعه الإنسان ليقتني الأشياء أو ليعطيها قيمة.



موقف إيميل دوركايم:



إن الشغل حسب إيميل دوركايم نابع من الأساس من تقسيم العمل داخل مجتمع ما والذي يمكن أن يأخد شكلين أساسيين :



· تقسيم العمل داخل مجتمع تحكمه العادات والتقاليد ، حيث يكون الفرد ملزما بتطبيق تعليمات الجماعة وأي خروج عن تلك القواعد يتعرض للنبد والنفي ويسمى التضامن الآلي ، لكن هذا النوع من التقسيم يجعل المجتمع غير قادر على تحقيق التقدم ، لأنه يرتكز على ماهو أخلاقي أكثر مما هو وظيفي ، فتسود فيه الكثافة الروحية.



· تقسيم العمل داخل مجتمع يكون فيه الأفراد غير مرتبطين بالجماعة ولكن يبقى في حاجة إليهم كما هم في حاجة إليه ويسمى بالتضامن العضوي ، وهذا النوع من التقسيم يحقق فيه المجتمع تقدما كبيرا، لأن الأفراد فيه تجمعهم علاقات وظيفية بعيدا عن ماهو روحي ، وهذا ماجعل إيميل دوركايم يرى أن هذا النوع تكون الكثافة المادية فيه مرتفعة جدا ، ويكون أكثر تنظيما وأكثر وصولا إلى تحقيق التقدم.







3- الشغل بين الإستيلاب والتحرر



موقف فريدريك إنجلز:



ترى الماركسية أن الشغل تحول (مع ظهور المجتمعات الصناعية) إلى ظاهرة تعمل على استلاب الإنسان بدل أن تحرره، حيث يؤكد انجلز Engels أن الشغل أصبح عملا إجباريا يعمل على إذلال الإنسان وإفقاده كرامته. وكان ذلك نتيجة لتقسيم العمل، حيث أصبح الفرد يشتغل مقابل شيء تافه (الأجرة) لا تربطه به أية علاقة إنسانية. بل إن تبسيط الشغل أدى إلى اختزاله في حركة تافهة يكررها العامل دون توقف ؛ فتحول الشغل إلى عمل رتيب ومخبل، يعمل على تشييء الإنسان والانحدار به إلى مصاف الحيوان. وهذا الإحساس بالاستلاب يظهر ـ كما يقول ماركس ـ من خلال نفور العامل من الشغل حيث يحس داخله بالشقاء والتذمر، وانهيار نفسي وإرهاق يمنعه من تطوير طاقاته وتحقيق ذاته. وتكون النتيجة الحتمية لهذا وضع عكسي : بدل أن يحس الإنسان بكينونته داخل الشغل، أصبح يبحث عن ذاته في أوقات الفراغ في أعمال تعتبر مجرد وظائف حيوانية كالأكل، والنوم، والإنجاب. إن الاستلاب في نظر الماركسية ليس إلا نتيجة حتمية للاستغلال الناجم بدوره عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.







موقف جون بول سارتر



يرى سارتر أن تقسيم الشغل على الطريقة التايلورية أدى إلى استلاب الإنسان. فمن المعروف أن النزعة التايلورية ترى أن المردودية في الاقتصاد لا تقوم إلا على الزيادة في الإنتاجية بأقل من الجهد والتكاليف، وفي أسرع وقت ممكن. ومن ثمة يكون العمل المتسلسل القائم على نظام الآلية النموذج المثالي لتحقيق الأهداف الاقتصادية، لكن هذا ـ في اعتقاد سارترـ لا يمنع العامل من التحرر من أشكال الاستلاب من خلال جدلية العبد والسيد، التي أبان هيغل - من خلالها - كيف أن العبد يستطيع أن يحقق ذاته بواسطة الشغل ويجبر السيد بالتالي على الاعتراف به. فلما أصبح العبد وسيطا بين السيد والطبيعة مكنه ذلك من السيطرة على الطبيعة ومن تبعية السيد له، وهذا إدراك أولي لصورة الحرية. وإذا كيفنا هذا التمثل مع نموذج العمل المتسلسل يتضح أن جدلية العبد والسيد لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا تصور العامل الحركة البسيطة التي يقوم بها في بعدها الوظيفي، أي في تكاملها مع الحركات التي يقوم بها العمال الآخرون ؛ الأمر الذي يدفع بهم إلى أن يتمثلوا أنفسهم كما لو كانوا ذاتا واحدة، ومن ثمة يدرك العامل أنه لا يمكنه أن يحقق ذاته بمعزل عن الآخرين. وعلى العامل في ذات الوقت أن يتمثل فرديته كذات يجب بناؤها من الداخل من خلال عملية التكوين المستمر التي ستمكنه من مواكبة تطورات نظام الآلية. إلا أن الإشكال المطروح هنا هو : هل يمكن أن يتطور نظام الآلية دون أن يكون على حساب كينونة الإنسان ؟







موقف جورج فريدمان:



يرى جورج فريدمان G. Friedmann أن نظام الآلية يحتوي على سلبيات، أهمها، أنه يعرض العامل إلى استلاب ذهني وإلى تدهور نفسي، بل واستلاب اقتصادي من جراء البطالة التي تكون عادة نتيجة حتمية لتعميم الآلية وتطورها. كما أن بعض المصالح الفردية قد تؤدي إلى تعميق القطيعة بين العمال ورؤسائهم مما يسبب تدهور العلاقات الاجتماعية. إلا أن فريدمان يرى أنه يجب التخلص من تلك النظرة الاختزالية والسطحية لنظام الآلية والتي تلخص هذا النظام في السلبيات فقط. إن إيجابيات الآلية تفوق بكثير سلبياتها. فمن الطوباوية الاعتقاد أن العامل يمكن أن يستفيد بشكل مباشر مما ينتجه كما كان الأمر معمولا به في القرون الوسطى. ومن الطوباوية كذلك أن يتحقق الإنتاج دون التضحية نسبيا بحرية العامل. إلا أنه من الممكن دائما أن يبحث العامل عن تحقيق ذاته ويحققها خارج المصنع، في أوقات الفراغ. فيكفي التأكيد على أن نظام الآلية أراح العامل من الاستعباد الجسدي الذي كان يعاني منه من جراء الأعمال الشاقة والمضنية. كما مكن رجال الأعمال من الربح لما يمثله نظام الآلية من اقتصاد في التكاليف. إضافة إلى أن نظام الآلية لا يهدد كرامة الإنسان باعتباره مستهلكا، حيث يستطيع كل فرد أن يستجيب لحاجاته الضرورية وينميها نظرا لما سيجده أمامه من وفرة.







إستــــــــــنتاج:



كتخريج عام، نقول : إن الشغل ظاهرة استأثرت باهتمام الفلاسفة والسياسيين والسوسيولوجيين، وعلماء الاقتصاد وغيرهم. ففي الوقت الذي يرتبط فيه الشغل عند البعض بالإنتاجية والتقنية، والتصنيع، والتقدم والتخلف ...الخ ؛ يرتبط عند آخرين بالالتزام، وخلق الذات للذات، وخلق الذات للآخر، والرغبة والحرية والاستلاب ...الخ. ومهما تعددت الأطروحات، فإننا لا نستطيع أن نتصور العالم اليوم دون ظاهرة الشغل، أو حياة ليس فيها عمل، إلا إذا كنا طوباويين أو مستغرقين في أحلام اليقظة ؛ وكما قال كارلايل : "إنه من الحماقة أن نلعن الشمس لأنها لا تشعل لنا لفائف التبغ". ومن ثمة، لابد من الاعتقاد بالبعد الفلسفي للشغل باعتباره علاقة ميتافزيقية جديدة بين الذات ونفسها، بين الذات والمجتمع. فإذا كان ديكارت قد قال :"أنا أفكر فأنا إذن موجود" ؛ فإننا يمكن أن نعارضه بهذه الفكرة : "أنا أشتغل إذن أنا موجود" لأن أبشع أشكال الاستلاب هو استلاب اللاشغل (أو استلاب البطالة). فالشغل وحده يستطيع أن يحقق للإنسان إنسانيته ويضمن له كرامته. إننا اليوم نوجد بالقدر الذي نعمل، بل الأصح أن وجودنا متوقف على الشغل، من خلاله نستطيع أن نتفاعل مع ذواتنا ومع الآخرين، وهو الكفيل بأن يقيم التصالح بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين مجتمعنا.



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : التقنية و العلم

محاور الدرس




1) لماذا التقنية خاصية إنسانية؟



2) التقنية و العلم.



3) نتائج تطور التقنية.

-تقديم




يعيش الإنسان المعاصر الحضارة وسط زخم التقنية بين عدة أجهزة وآلات مختلفة أنتجتها التكنولوجيا الحديثة فانتظمت حياته أفرادا وجماعات بانتظام كل ميادين الحياة بانتظامها، فمن الميدان السياسي إلى الاقتصادي نجد المعدات والآلية تخترق الحياة البشرية حتى أضحت مألوفة لدى الناس ولا يستطيعون العيش بدونها، وخير مثال على هذا ما يطبع العالم اليوم من انتشار موحد لنماذج التنمية والتصاميم والمخططات وتطور أدوات التواصل واكتساح الإعلاميات لكل الحقول، وفرض مفهوم جديد عن الزمان، كل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى بل أضحى العالم قرية صغيرة.



المعنى الشائع لمفهوم التقنية في اللسان العربي نجده يقابل العلم، كما يقابل الممارسة النظرية وتطبيق المعرفة، ثم أنها شيء محايد، وهي ليست خيرا في ذاته ولا شرا في ذاته، إنما مجرد وسيلة تتخذ معناها من التوظيف التي توظف فيه.



ويعرف معجم لالاند التقنية بأنها "مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة.



يشير هذا التعريف في دلالاته الأولى إلى كل إنتاج لأشياء مختلفة (أدوات، آلات..) لا تستطيع الطبيعة توفيرها وإنتاجها بذاتها، ويحمل دلالات ثانية يمكن أن نجملها في كونه أولا بتركيزه على خاصية التحديد الدقيق يقصي من دائرة التقنية كل الوسائل التي لا تتلاءم بصفة مع الأغراض التي صنعت من أجلها، وفي كونه ثانية يربط التقنية بخاصية النقل والتحويل وهو ما يضفي عليها طابعا اجتماعيا تصبح التقنية بمقتضاه قابلة للتعلم والاكتساب والتطوير والانتشار داخل الوسط الاجتماعي وأخيرا يربط ذلك التعريف التقنية بأهداف عملية ونفعية.



يمكن أن نستخلص من هذا التعريف إذن أن التقنية نشاط إنساني أساسي تقوم عليه باقي الأنشطة الإنسانية الأخرى، وأنه جزء من نسيج العلاقات الاجتماعية، وبذلك فالإنسان لم يحول الطبيعة باعتماده على التقنية بل تحول هو نفسه إلى كائن ثقافي يعيش حياة اجتماعية واعية.



وقد أبرز معظم الفلاسفة والأنتربولوجيين أن البعد التقني سابق أو على الأقل ملازم للبعد المعرفي في الإنسان، وأن الإنسان نفسه كائن صانع قبل أن يكون كائنا عارفا، بمعنى أن المهارات العملية للإنسان سابقة بل متفوقة على مهاراته النظرية أو المعرفية.



وإذا كانت التقنية قد تطورت عبر تاريخ الإنسانية تطورا بطيئا عبر عشرات القرون: الحجر، الحديد، البروز، فإنها أخذت تتحول نوعيا من التقنية اليدوية إلى التقنية الممكنة مع ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا حيث تلاحقت الثورات التقنية تباعا:



الثورة البخارية، المحرك الانفجاري، اكتشاف الكهرباء ونتائجه، الثورة الإلكترونية، المعلوميات، الثورة الجينية وهي تحولات تحكمها معايير التسارع والميل إلى الاستقلال الذاتي والكونية والتطور العلمي بعيدا عن أي منظور غائي، وذلك في إطار تصور جديد للعلم ذاته الذي لم يعد كما كان في العصور القديمة معرفة نظرية شاملة متقابلة مع التقنيات كصناعات وممارسات علمية، بل في منظور أن العلم أصبح مرتبطا عضويا بالتقنية. إلا أن التطور الهائل للتقنية الحديثة وكشوفاتها وقدراتها التي جعلت الإنسان يحقق ما كان يحلم به عبر السحر والميتولوجيا في القديم سواء في استكشاف الأبعاد اللانهائية للكون الكبير وفي الأبعاد اللانهائية للأكوان الصغرى في المادة الجامدة والمادة الحية أو في السعي إلى التحكم في بعض مظاهر الحياة عبر التلقيح الاصطناعي أو الاستنسال وغيره كل ذلك بدأ يطرح تساؤلات للمقارنة بين إيجابيات التقنية وحدود سلبياتها، وحول كيفية ضبط تطورها قانونيا وأخلاقيا حتى لا تتجاوز حدود المعقول الأخلاقي.



3 – التأطير الإشكالي للوحدة::



إذا كانت التقنية هي مجموع الوسائل والأدوات التي يخترعها الإنسان اعتمادا على العلم، والتي تهدف إلى توفير خدمات مختلفة للإنسان وتساعده على التغلب على حوائج الطبيعة وعلى الأمراض ومظاهر النقص وتمكنه من تقليص المسافات واختصار الأزمة وتقريب البعيد إلى غير ذلك من الفوائد إلا أن التطور الهائل الذي واكب التقنية الحديثة أصبح يطرح عدة تسؤالات:



- كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟



- ولماذا تعتبر خاصية إنسانية؟



- ما العلاقة بين التقنية والعلم؟



- ما هي الآثار الناتجة عن هذه العلاقة؟



- هل تعمل التقنية خلف كشوفاتها الإيجابية وتحولاتها النوعية آثارا سلبية تهدد الإنسان والطبيعة؟



- ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان؟ لماذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصير العالم؟





التقنية والعلم



المحور الأول: لماذا التقنية خاصية بشرية؟



التأطير الإشكالي للمحور: - كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟



- ولماذا تعتبر خاصية إنسانية.



المضامين:



* أطروحة أوسولد شنغلر: O.Spengler، فيلسوف ألماني، اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاريخ، من كتبه "انحطاط الغرب" و"الإنسان والتقنية".



يرى شبنغلر أنه إذا أردنا تحديد مفهوم التقنية فعليا ألا ننطلق من المفهوم القديم الذي يعتبرها مجرد صناعة الأدوات والآلات بل ترجع تعريفها في الواقع إلى الأزمنة الغابرة كما أن نشأتها التاريخية غير معروفة، لكن ما يميزها هي أنها خاصية إنسانية تتمكن من قلب حياة ا لإنسان وضاعفت قوته وغيرت نمط تعامله مع الطبيعة وتمكن من توسع مجالات نشاطه وتنويعها وبلوغ نتائج حاسم لصالح الإنسانية ولم يمس هذا التغيير الإنسان فقط بل تمكنت أيضا من قلب الحياة الحيوانية باعتبارها مجرد خطة حيوية يدافع بها عن نفسه ويحميها من المخاطر ويحافظ على وجوده الطبيعي في حين نجد التقنية عند الإنسان هي استراتيجية وخطة للحياة بهدف التخلص من سيطرة الطبيعة ولكي ندرك مدلول التقنية وحتى لا نقع في الخطأ الثاني لهذا المفهوم فعلينا ألا نحصر التقنية في وظيفة الأدوات والآلات فهي استباق واستكشاف للمستقبل، لذا يميز شبنغلر بين التقنية عند الحيوان باعتبارها خطته الحيوية التي تخضع لنظام الغريزة وتوجه سلوكه للحفاظ على بقائه واستمراريته بينما التقنية الإنسانية هي خطة للحياة يهدف من خلالها إلى التأمل والاستباق لتنظيم الوجود الإنساني من خلال التعرف على كيفية استخدامها باتباع استراتيجية واضحة ومنظمة فالتقنية هي مسألة سلوك مهتم وهادف نتوخى من خلاله بلوغ أهدافنا وتحقيقها وليست مجرد أشياء وموضوعات، فالتقنية هي سيرورة إنسانية يسعى من خلالها إلى الدفاع عن نفسه والحفاظ على بقائه في استمرارية للحياة وللوجود البشري.



* أطروحة هايدجر: يتسائل هايدجر عن ماهية التقنية فيجد كجواب لها بأنها نمط وجود الكائن البشري الخاضع لسيطرة الفكر التقني، فالإنسان يوجد تحت قوة تتحداه وتفرض عليه سيطرتها فلم يعد حرا إزاءها كل أصبح خاضعا لسيطرتها نظرا لما تمت له ماهية التقنية من قوة خفية تمكن الإنسان من استخدام جميع قدراته على التخطيط والحساب والتوجيه اعتمادا على معرفة تطبيقية سعى إلى الفعالية والاقتصاد بوصفها المبدأين الأساسين اللذين قامت عليهما التقنية وهكذا جسدت على نحو ما الوجه الأساسي لنمو العقل العلمي وجعلت من العلم في حد ذاته قيمة يتم السعي إليها بحيث أصبح تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني المستمر م هنا فماهية التقنية ترتبط بسيطرة العلم في مستواه التقني على الوجود البشري.



* أطروحة ديكارت: يرى بأن امتلاك الإنسان لفلسفة عملية عوض الفلسفة النظرية التي تدرس في المدارس تمكنه من معرفة قوانين الطبيعة للسيطرة عليها واستغلالها فباكتشافه للآلة تمكن من فرض سيطرته على الطبيعة وأكد إمكانية بلوغه حياة بطبعها الرخاء والتحرر، ومن خلال الآلة أيضا ضاعف من قدراته الإنتاجية وتحرر من الحاجة المباشرة في علاقته بالطبيعة ولعل أهم ما حققه الإنسان بواسطة الآلة توسيع مجالات نشاطه وتنويعها وبلوغ نتائج حساسة لصالح الإنسانية وبذلك غير نمط تعامله مع الطبيعة وحتى حلمه في أن يصبح سيدا ومالكا للطبيعة.



المحور الثاني: التقنية والعلم.



التأطير الإشكالي للمحور: - ما علاقة التقنية بالعلم.



- ما هي الآثار الناتجة عن هذه العلاقة؟



* أطروحة : س – موسكوفيتشي S.Moscovici



يرى موسكوفيتشي أنه لم يعد المهندس بإمكانه أن يجد حلولا لمختلف المشاكل التي واجهت الحرفيين والصناع إذا لم يكن يتمكن من استخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية فالمهندس يحتاج إلى تعلم مبادئ الهندسة والحساب التي تمكنه من ضبط رسوماته وخطاباته بشكل دقيق كما تعطيه فكرة صحيحة وواضحة عن أبعاد البناءات وأحجامها وذلك من صيغ رياضية تتميز بالدقة والإتقان، من هنا حاجة المهندس في عمله إلى التصميم الرياضي وتتجلى هذه الضرورة الملحة في:



- أصبح من الضروري معرفة الأوزان والأحجام والأشكال ولو بطريقة تقريبية، فالتقنية تحتاج إلى امتلاك المفاهيم الرياضية التي ستمكنها من التطور السريع والذي ينعكس بدوره على عمل المهندس الذي يرتبط بتطور قدرته في استخدامه للعلم الرياضي.



- ارتبط استخدام الهندسة والحساب في البداية بوصف الآلات ورسم الخطاطات والتصاميم إلى أن ذلك سيتطور ليصبح وسيلة للدراسة والقياس مما سيساهم في تطور التقنية، فارتباطها بالعلم الرياضي والعلم التجريبي حولها إلى تكنولوجيا أصبح بمقدورها التحكم في سيرورة تطور العلم بحيث لم يعد بإمكاننا الفصل بينهما وكمثال على ذلك نجد العالم ليوناردو دافنتشي يلجأ بدوره إلى الهندسة قصد تصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة وأصبحت التقنية تعمد بشكل أساسي على الرياضيات قصد تطوير أبحاثها، فالمهندس يحتاج إلى الرياضيات لتطوير مهاراته باعتبارها العنصر المكون لهذه المعرفة وتعتبر الخطاطات والتصاميم والتجارب عنصرا في هذه المعرفة فكل آلة أو بناء منشأة يتطلب معرفة التجارب وفحوصات قبلية سرعان ما تتطور وتتمكن بدورها من التحكم في العلم، وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن مفهوم التقنية أصبح يشمل جميع قدرات الإنسان على التخطيط والحساب والتوجيه بالاعتماد على معرفة تطبيقية تسعى إلى الفعالية والاقتصاد وهكذا فالتقنية هي تجسيد لنمو الحقل العلمي وجعلت من العلم في حد ذاته قيمة يتم السعي إليها بحيث أصحب تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني ال مستمر، من هنا استحالة انفصال التقنية عن العلم.



* أرطوحة إدغار موران E.Morin



يعتبر إدغارموران أننا نعيش في عصر تاريخي تعرف فيه التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية تداخلات وتفاعلات فيما بينها وعلى مختلف المستويات والتجريب العلمي هو في حد ذاته تقنية للتحكم، كما أن تطور العلوم التجريبية يساهم في تطور التقنيات وبه منح العلم سلطا تحكمية في المادة الحية واللاعضوية، فالتجربة تطور التقنية والتي تعمل بدورها على تطوير أنماط جديدة من التجريب والملاحظة العلمية كملاحظة الجزئيات والتلسكوبات التي تسمح بتطوير المعرفة العلمية، ومن هنا تصبح التقنية قوة مسيطرة كما أن العلم يتمكن من فرض سيطرته على الآلة وإخضاعها لحاجياته، من هنا لا يمكن أن نعتبر أن العلم والتقنية سيرورة دائرية تداخل فيها عدة عوامل ورهانات سياسية واقتصادية تتحكم في تحديد مصير الدول والشعوب وأصبح العلم كمؤسسة قوية وسلطة حقيقية تساهم في قلب المجتمع والتحكم فيه بل تتم مراقبته بواسطة السلطات الاقتصادية والسياسية وتلعب كل الأطراف المتداخلة من علم، تقنية، مجتمع ودولة دورا فعالا في استمرار هذه السيرورة.



* أطروحة عبد السلام بنعبد العالي:



يرى عبد السلام أن الفيزياء الحديثة ليست فيزياء تجريبية يتم تطبيقها على الطبيعة قصد الاستحواذ عليها والسيطرة انطلاقا من تطبيقاتها ولكن الفيزياء نظرية خالصة تجبر الطبيعة على إظهار تلك القوى القابلة للحساب الرياضي والخاضعة للتجريب، فالآلة ليست مجرد وسيلة يعتمدها الإنسان في استغلاله للطبيعة بل تحمل في نظامها معرفة علمية متجددة أعطت لمفهوم الآلة معنى جديدا يتجلى في المعرفة التي تمتلكها الآلة في ذاتها وعن طريق الممارسة اتخذت شكل الآلة في التطبيق الخارجي للمعرفة الرياضية، إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية مكنتنا من القدرة على السيطرة على الطبيعة وامتلاكها، فالإنسان سيد الطبيعة مالكا لها، فإرادة المعرفة هي إرادة القوة والتمكن والسيطرة التي قام عليها العلم بحيث أصبح تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني المستمر انطلاقا من المعرفة الرياضية التي يمتلكها.



تركيب: كانت الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية والأرسطية تقيم تقابلا بين العلم كمعرفة نظرية شاملة، وبين التقنية كصنعة وممارسة عملية، وضرورة وأشياء عارضة، حسية وطارئة. لكن ابتداء من عصر النهضة الأوربية الحديثة خفت حدة التقابل بينهم، إذ عد العلم معرفة بعلل الظواهر وقوانين حدوثها، وأضحت التقنية هي مجموعة من العمليات والإجراءات الرامية إلى التحكم في نتائج العلم واستخدامها وتطبيقها، إلا أن هذا لم يمنع من معرفة نظرية خالصة في حين أن التقنية هي معرفة تطبيقية لكن هناك اتجاه فلسفي آخر يرى أن العلم نفسه تقني في جوهره وتصوره فهو استجابة للتقنية وامتثال لها.



المحور الثالث: نتائج تطور التقنية.



التأطير الإشكالي للمحور:- ما هي نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان؟



- لماذا تحولت إلى قوة مسيطرة على وجود الإنسان؟



* أطروحة ميشيل سير: M.Serres (1930 ¬)



انتقد ميشيل سير المسلك الذي سار عليه العقل الغربي وذلك باتخاذه التقنية كوسيلة للتحكم في الطبيعة، وهذا الأسلوب أدى بدوره إلى تحكم التقنية نفسها على الإنسان والطبيعة معا فتحولت من مجرد أداة لتحكم الإنسان على الطبيعية إلى عنصر يهدد كيانهما ووجودهما معا، وخطورة هذا التحكم حسب ميشيل سير أنه مقتصر على فئة أو منطقة دون أخرى أو أنه محلى، بل سيكون ذا بعد كوني وعالمي وشامل.



فلا خيار أمامنا إلا إعادة النظر في علاقتنا بالأشياء التي أصبحت تسودها علاقة التملك والتحكم عن طريق إيجاد السبل الكفيلة للخروج من هذا الإشكال العويص، وهذا السبيل هو تحكم جديد في التحكم الحالي المستمد أصوله من العقل الغربي الحديث.



* أطروحة كارل ماركس:



يرى ماركس أن كل الأشياء تبدو جلية وواضحة من خلال نقيضها، وهكذا فإذا كانت التقنية تحمل ي ذاتها إيجابيات وتبهر الإنسان وتملك قدرة إيجابية في اختصار الوقت وتحد من ساعات العمل عبر الآلات المختلفة فإنها في الوقت نفسه تسبب الجوع والإنهاك المفرط، لتتحول الثورة التقنية إلى مصدر البؤس، فأصبح كل انتظار تقني ثمنه انحطاط معنوي.



ومن خلال مفهوم الاستلاب فإن ماركس يؤكد أنه بقدر ما فتئ الإنسان يصبح سيدا وممتلكا للطبيعة بقدر ما تمارس عليه الآلات والقدرات التي يمتلكها استلابا ويتحول إلى عبد لهاته الآلات التي يمتلكها.



إن التقنية حسب ماركس تستدعي استغلالها والتحكم فيها من طرف أناس جدد غايتهم تحويلها إلى وسيلة لنفع المجتمع لا لممارسة الاستلاب والاضطهاد.



أطروحة ماركوز



يعتبر ماركوز أن التقنية رغم قوة حضورها ليست في نهاية المطاف سوى "مظهر" لفكر أصبح يمثل سلطة في حد ذاتي. إن التقنية تصدر عن فكر لا يرى في الوجود البشري سوى استغلال للطبيعة، ولا يرى في تقدم العلوم سوى تجديد الآلات وابتكارها. ويتلازم هذا الفكر مع رهانات سياسية واقتصادية حاسمة في تحديد مصير الدول والشعور بحيث لا يتوقف النشاط التقني على رجل التقنية أو العالم بل يتعداها إلى رجل السياسة والاقتصاد وهذا الأخيران أمام وضع لا يقبل التوقف، فبالأحرى التراجع، إنهما ليسا سوى مدبرين لحركة لها قوتها الخاصة ومنطقها الخاص أي المؤسسة قائمة بذاتها.



موسى الخلف:



يجيب موسى الخلف على السؤال الإشكال حول نتائج تطور التقنية على الإنسان من زاوية تخصصه في الهندسة الوراثية التي شهدت منذ فترة قصيرة تطورا هائلا جعلنا نطرح على هذه الوضعية سؤال حول مدى انعكاسها على المستوى الأخلاقي على الفرد، وعن نتائجها السلبية على الإنسان والطبيعة معا.



يعتبر موسى الخلف أنه رغم الطابع الإيجابي لهذا التقدم التقني على مستوى الهندسة الوراثية، إلا أن لها طابع سلبي يتمثل بالأساس في كونها وسيلة في يد بعض الأشخاص أو الدول للتحكم لتحقيق الربح المادي.



تركيب:



من خلال ما تقدم يمكن القول أن أغلب الفلاسفة في إجابتهم على الأشكال المركزي للمحور والمتمثل في نتائج تطور التقنية يتفقون على اعتبار التقنية وسيلة للتحكم على مصير الإنسان والطبيعة معا وأن طابعها السلبي أصبح طاغيا مما يهدد كيان الإنسان والطبيعة معا.



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : المجتمع

محاور الدرس




1) أساس الاجتماع البشري.



2) الفرد و المجتمع.



3) المجتمع و السلطة.

يتكون المجتمع من مجموعات أفراد وجماعات ,تربط بينهم علاقات وخدمات متبادلة. فالمجتمع الإنساني هو مجموعة من الأفراد, تربط بينهم علاقات قوية تجسدت في شكل مؤسسات, أصبحت في الغالب محمية بواسطة آليات الضبط والنظام , تبدأ من النهي والتوبيخ , لتصل إلى العقاب الذي يشعر الفرد بسببه بقوة القهر و الخضوع لإكراه الجماعة .




يقتضي هذا الوضع التساؤل عن أساس المجتمع البشري . هل هو طبيعي أم ثقافي ؟ ما هدف الحياة الحياة الاجتماعية ؟ ما وضعية الفرد داخل المجتمع ؟ هل هو كيان حر ومستقل ؟ أم مجرد عنصر خاضع للجماعة ؟ ثم كيف يمارس المجتمع سلطته على الأفراد ؟.



المحور الأول : أساس الاجتماع البشري.



1- أطروحة ابن خلدون : الاجتماع البشري طبيعي فطري وضروري.



المجتمع في نظر ابن خلدون لابد منه. بهذا الشكل يخضع المجتمع لقوانين عامة, مثله في ذلك مثل الظواهر الفردية . لذلك بدأ ابن خلدون بحوثه بدراسة العوامل التي ترجع إليها نشأة الحياة الاجتماعية , وهي في نظره ثلاثة :



- الضرورة : لكنها ضرورة طبيعية ولها مظهرين أما ضرورة اقتصادية , لأن الفرد لا يستطيع أن يحصل على حاجاته كلها بنفسه . لابد أن ينتج وأن يوفر الحماية... ذلك أن الصراع الدائم بين الإنسان والحيوانات المتوحشة أدى إلى الاجتماع للتعاون من أجل القضاء على العدو ( نص ابن خلدون ص : 60).



- الشعور الفطري : ذلك أن الإنسان في نظره مزود بشعور فطري تلقائي يدفعه إلى الاستئناس بأخيه الإنسان.



- ميل الفرد ورغبته الخاصة : للإنسان ميل نحو تحقيق فكرة التجمع من أجل دفع عدوان الناس بعضهم عن بعض . متى نشأ المجتمع على هذه الصورة يكون مسرحا لنوعين من الظواهر هما :



أ‌. ظواهر طبيعية : لايتدخل المجتمع في هذه الظواهر بمعنى أخر لم ينشأها , لكنه وجدها كما هي عليه مستقلة عنه بطبيعتها تؤثر فيه ويتأثر بها...مثل العوامل المناخية و الجنس ...



ب‌. ظواهر اجتماعية : وهي ظواهر يخلقها المجتمع ولا توجد منفصلة عنه, بل بل تشكل كلا متماسكا من الأجزاء ووحدة حية تتفاعل عناصرها وتتشابك أثارها.



خلاصة :



يرى ابن خلدون أن الإنسان مدني بفطرته وطبيعته, فالاجتماع الإنساني ضروري, لأن غرائز الإنسان البيولوجية والنفسية لايمكن أن تتحقق إلا في إطار المدنية.



1. أرسطو:



يرى أرسطو في كتابه المطول السياسة. أن الإنسان حيوان مدني قابل بالطبيعة للحياة الاجتماعية, التي تجد أسمى تعبير لها في الدولة والتي يعتبرها سابقة على الأسرة والفرد. إن الحاجة إلى الاجتماع لاتفرضها غرائز الإنسان فقط , بل كذلك خصوصية الإنسان , باعتباره وحده الحيوان الناطق (العاقل) . جعل أرسطو غاية الاجتماع البشري هي الدولة .( نص أرسطو ص : 61).



2. جون جاك روسو( 1712-1778) :



الاجتماع البشري اتفاقي إرادي:



وضع روسو كتابا خاصا بهذا الموضوع تحت عنوان " العقد الاجتماعي". تتمحور أطروحته حول تمتع الإنسان بالحرية في حالة الطبيعة , وان حياته كانت سعيدة وخيرة. الا أن هناك الكثير من العقبات التي حالت دون استمرار حياته تلك بسبب اصطدام المصالح وتنازع الناس فيما بينهم, دفعت الناس إلى بناء حياة اجتماعية عن و قصد وبناء مجتمع سياسي , تحل فيه الدولة محل الفرد.



وعليه تكون سيادة ا لمجتمع أو الدولة هي سيادة الشعب..وهذا ما يعبر عنه قول روسو:"أن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد".



إن أساس التعاقد عند روسو هو: اتفاقي يتم بموجبه التنازل لطرف ثالث قصد حماية مصالح الجماعة وتحقيق أمانهم واستقرارهم وهو ما يطلق عليه (الوكيل أو الحاكم). ينصب من طرف الأفراد , لايملك سلطة مطلقة , لأن السيادة دائما للجميع- في رأي هوبز- على اثر هذا التعاقد تنشأ حالة المدنية التي تكسب الإنسان خصوصيات سلوكية أكثر(قيم العدالة والأدب والأخلاق...) وذلك بإرادة العامة واختيارها بالتخلي عن المصلحة الشخصية.



يذهب جون لوك بدوره إلى أن المجتمع أسس على اتفاق إرادي بين الأفراد. ويؤكد بالمقابل أن حالة الطبيعة ليست ليست حالة فوضى وعنف , إنما هي حالة تتميز أساسا بالحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد. الذين لايحكمهم الا القانون الفطري القائم على أن لكل فرد حقوق معينة, في الحياة والحرية والملكية الخاصة و في بلوغ السعادة.إذ لا يتوجب على أي إنسان أن يعتدي على حقوق غيره من الناس أثناء ممارسة حقوقه الشخصية.



غير أن الأفراد كثيرا ما يميلون إلى انتهاك الحقوق الطبيعية والاعتداء على ملكية غيرهم فتتحول حالة الفطرة من سلام وأمن إلى حرب ونزاع.



نتج عن هذا إرادة الانتقال من حالة الفطرة إلى حالة مجتمع سياسي مدني, لا يتم فيه التنازل عن جميع الحقوق للملك بل بعضها فقط. وعليه لايجوز للحاكم المساس بالحقوق الطبيعية للأفراد وإلا وجبت الثورة عليه.



في نفس السياق . يرى أن الإنسان في حالته الطبيعية كان حرا يفعل ما يشاء, ويمتلك ما يشاء .إلا أن تصادم الشهوات سرعان ما يجعله يعيش حالة" حرب الكل ضد الكل ". لايمكن للإنسان أن يستمتع بما يرغب فيه, لذلك كان من الضروري تشكيل مجتمع قائم على ميثاق محددو أو عقد اجتماعي لإنهاء حالة الحرب.فيه يتنازل كل فرد من أفراد المجتمع عن كل حقوقه الطبيعية لصالح الرئيس الذي تجب طاعته, والخضوع المطلق له حتى لو كان طاغية, فطغيانه أفضل من حالة الصراع والحرب التي تسبق ظهور المجتمع.



المحور الثاني : الفرد والمجتمع



علاقة الفرد بالمجتمع :



1 إميل دوركايم ( 1858-1917) :



يؤكد دوركايم في تناوله لأنواع التضامن : التضامن الآلي و التضامن العضوي, أن هناك نوعا من العقوبات التي تصدر من القانون الجنائي في التضامن الآلي. وفيه يخضع الفرد لما يسمى بالضمير الجمعي.



أما الشكل الثاني : فيمتلك نوعا من القهر والعقوبات الصادرة عن القانون المدني والتجاري والإداري والدستوري.



إن حرية الفرد في المجتمع الآلي تظل منصهرة في الجماعة. فالأفراد كالوحدات الاجتماعية أو الوحدات المكونة لأجسام اللاعضوية (سبنسر). لايمكن أن تشعرك فردية الفرد إلا إذا تماسكت وتحركت مجتمعة كما يؤكد دوركايم.



هذه الصيغة التي أسست لمنطلق الانصهار الكلي للفرد في الجماعة. سوف تنمو وتنقشع من خلالها صيغة الفرد المستقلة.استقلالية الأفراد المكونة للمجتمع العضوي, نتيجة تقسيم العمل. سيظل الفرد على هذا الأساس هو الكل في المجتمع الآلي مقابل الشخصية الفردية , التي لاتشكل شيئا أمام الشخصية الجماعية. في الجماعة يلقى الشخص مجاله الخاص , بل يسعى وفق قانون التزايد السكاني إلى تحقيق الشخصية المتميزة. بمعنى أن حرية ومساحة الوعي الفردي لا يمكن أن تتم إلا إذا ترك للوعي الجمعي مساحته ( نص دوركايم ص : 64).



2. كارل ماركس ( 1818-1883) :



"ليس وعي الإنسان هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي, وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم وتصورهم".يتبين أن الناس عندما يتعاونون لإنتاج وسائل إشباع حاجاتهم الأساسية, فإنهم يدخلون في علاقات معينة معينة مع بعضهم البعض .تلك علاقات تحتمها الضرورة وتكون مستقلة عن الإرادة والوعي . وتتمثل علاقات الإنتاج هذه في البناء الفوقي للمجتمع. فهي المسؤولة عن تحديد الطابع العام لهذا المجتمع.أي قوانينه ونظمه السياسية وأوجه نشاطه الفكري ( نص ماركس ص : 65).



يدافع هربرت سبنسر عن تشبيه المجتمع بالكائن العضوي, مؤكدا أن هناك طبيعة عضوية, تغلب على المجتمع. إلا أن هذا الأخير هو شيء أكبر من الكائن العضوي (الفرد). بالرغم من أن الكائنات العضوية " الأفراد"هي أعضاء المجتمع.



وهكذا يصبح المجيتمع عند سبنسر نسقا شاملا لعناصر التنظيم الاجتماعي التي يوجد بينها نوع من التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين الأفراد على بعضهم البعض. وهو يقول في ذلك: "إننا ننظر إلى المجتمع بوصفه كيانا كليا، فالبرغم انه يتألف من وحدات مستقلة، فان هناك نوع من الإحساس بالوحدة والتجمع بين هذه الوحدات، ترجع إلى الترتيب الذي يتحقق لها في المنطقة التي يشغلها ذلك المجتمع وهذه هي السمة الرئيسية التي تميزذكرنا عن المجتمع". (1)



3. الكسيس دوطوكفيل (1805-1859) :



تتميز نظرة دوطوكفيل بكون الفردانية بما هي استقلالية هادئة وعزلة عن الأشياء. أي العائلة والأصدقاء، وهي تتعارض مع الأنانية التي تستند إلى آلية الحب الجارف والمفرط للذات. حيث تفضل الأنا نفسها عن الجميع. وبما أن الفردانية هي الاستقلالية العقلانية، فهي تفيد الاكتفاء الذاتي من حيث الغني والقوة. هذه هي الأسس التي تنبني عليها الفردانية الضحية، وهذه الأخيرة هي تأمل الذات لنفسها، فهي ملك للفرد يستحضرها بين يديه متى شاء وهذا لا يعني أن الفرد/ الأفراد ينسون ماضيهم المشترك مع ذويهم –أجدادهم وسلاستهم- بل إن الفرد يعود إلى نفسه باستمرار إلى درجة السقوط في العزلة. ( انظر نص .دوطوكفيل ، نص: 65).



المحور الثالث: المجتمع والسلطة.



إذا كان المجتمع يتوقف وجوده وبقاءه على مجموعة من المؤسسات كالقوانين والمدرسة، فان الفرد يؤسس تواجده الاجتماعي على أساس مؤسسة الدولة.



فكما ذهب تحليلا وتاريخيا هاربرت سبنسر على أن أصل الدولة والحكومة هو الخوف من الحياة هو العامل الأساسي الذي أدى عبر العصور إلى ظهور القول السياسي فالسلطة كما ذهب فلاسفة العقد الاجتماعي لا يبررها إلا السلطة السياسية فهي -أي الدولة- بما هي سلطة ومؤسسات خاضعة لمطالب الأفراد، وهي وسيلة تحقيق اكبر قدر من الحرية الفردية .فان الكثير منهم يؤسس لفكرة القهر انطلاق من تنازل الأفراد عن حقوقهم كاملة في سلطة ديكتاتورية وفردية قادرة على ممارسة القهر والقمع. يقول ماركس في هذا الصدد:" الدولة ليست تعبير عن الإرادة العامة، وإنما قوة تعلو على المجتمع،وهذه القوة إن كان أملها هو المجتمع إلا أنها تضع نفسها فوقه فتغترب عنه".



1. سيغموند فرويد ( 1856-1939) :



يرى فرويد أن المجتمع يمارس نوعا من القهر الاجتماعي على الأفراد, من خلال آليات التنشئة الاجتماعية المتمثلة في التربية والبيئة, عن طريق تدخل النظام الأخلاقي,و يمارس قهرا على الفرد , الذي يميل إلى إثبات غرائزه فيحوله من كائن أناني إلى كائن منفتح على الأخر.



إن التدخل المفرط للمجتمع المتحضر في خصوصيات الأفراد . يخلق نوعا من التوتر والصراع النفسي لدى الفرد , على نحو غير متشدد . تجعله يقبل قيم المجتمع ويتخلى عن غرائزه. إذ يتسامى بها في الواقع بامتهان حرف وممارسة هوايات خلاقة ( الفن والقراءة و الرياضة...) لتعويض ما انتزعه المجتمع منه.



إن الشخص عندما يتخلى ويتنازل عن غرائزه لصالح المجتمع. يكون حسب فرويد شخصا منافقا يعيش نوعا من الاغتراب الذاتي. إذ يتخلى عن طبيعته الخاصة وينصهر في الذات الاجتماعية (نص فرويد ص : 68).



2. يتناول ألان تورين ( 1925...) علاقة الفاعل بالمجتمع, على ليس بسابق على وجود الأفراد أو الفاعلين بل هو حدث لايتم إلا في إطار دائرة من الاحتكاكات و الصراعات والتفاعلات بين الأفراد.



فالمجتمع دينامية في شكليها : الماكرو والميكروسلطوية. إن النظام الاجتماعي لا يتم إلا في إطار أشكال الحركة والتفاعل و الفاهم والصراع بين الفاعلين الاجتماعيين و الذين يشكلون مفتاح فهم المجتمع. إن الفاعل الاجتماعي لايمكن أن نفهمه في ظل المجتمع, بل في ظل مجموع العلاقات , أو المواجهات القائمة بين فاعلين اجتماعيين. نفسها العلاقات والصراعات التي تنتج المجتمع ( نص ألان تورين ص: 69).



3. رالف لينتون (1953-1893) :



على العكس من ذلك يرى لينتون . أن الفرد الإنساني , يتلقى تعاليم مهيأة سلفا, هي ما يمنحه نماذج سلوكية تستجيب لحاجاته , خاصة الحاجات التي خلقها لديه الغير. إذ تبقى هذه النماذج تحيل الفرد إلى المشاركة والاندماج في الحياة الاجتماعية لإشباع حاجاته الخاصة . بل أكثر من ذلك التنشئة الاجتماعية تحتم على الفرد أن يتعلم الأكل لإشباع الجوع بطريقة مقبولة من لدن المجتمع و إرضاء باقي النماذج السائدة (رالف لينتون ص: 69).



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : اللغة

محاور الدرس




1) اللغة خاصية إنسانية.



2) اللغة و الفكر.



3) اللغة و السلطة.

إن مسألة اللغة إشكالية أنطلوجية خصها الإنسان مكانة هامة من حيث هو متوسل بأدوات منطقية وفلسفية وتجريبية. اختزلت في حقل التكلم كممارسة حاولت الإجابة على أسئلة الوجود، وكسبيل للتواصل مع الواقع باعتباره مجموعة الأشياء غير المسماة والضامن الأساسي للتعرف على المحيط الخارجي.




فكيف حاول المهتمون مقارنة مفهوم اللغة؟و ما هي التعاريف التي منحت لهذا المفهوم؟



ارتبطت اللغة في تداولاتها بالكلام، فعندما يراد التعبير، مثلا، عن ممارسة أحد الناس للغة ما يقال إنه يتكلم تلك اللغة. وكأن اللغة اسم لشيء لا يتحقق إلا من خلال فعل الكلام. وهذا الارتباط بين اللغة والكلام، متضمن في الدلالة المعجمية لكلمة لغة نفسها. فهي مشتقة، في اللغة العربية، من اللغا أو اللغو، ويعني الكلام غير المفيد، الفارغ من المعنى، كما تعني الكلام المميز لمجتمع معين، بحيث تتحدد اللغة في لسان العرب لابن منظور بأنها: "أدوات يعبر بها قوم عن أغراضهم" وإذا رجعنا لأي معجم فرنسي سنجد على انها مشتقة من كلمة لاتينية Lingua التي تعني الكلام واللسان. كما تدل كلمة Logos الإغريقية على الكلام والفكر والعقل.



كما يعرفها ابن جني بأنها نظام من الرموز الصوتية التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذه الرموز التي وضعت للإعلان عن الأشياء المعلومات فإذا استحضر الرمز أو اللفظ عرف به ما سماه 0000000 ليمتاز عن غيره، ويعني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين[1].



انطلاقا من هذه التعاريف، يتضح على أن الكلام فعل صوتي فردي يتم في الزمان ويتلاشى ضمنه، بينما تبقى اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبموجبها يبني المجتمع معرفته ويحقق تواصله، هذا الأخير الذي قد يتحقق بالاستناد إلى وسائل أخرى غير الكلام – تندرج بدورها تحت غطاء اللغة – الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.



وبالتالي فاللغة، ظاهرة قد تتخذ صورا صوتية[2] أو صورا كونية[3].



ومن هذا المنطلق تتخذ اللغة طابع الظاهرة المعقدة التي يمكن أن تشكل موضوع دراسات متعددة – الفيزيزلوجيا[4]، السوسيولوجيا[5]، الأنثروبولوجيا[6]، السيكولوجيا[7]، اللسانيات...



وتستمد إشكالية اللغة أصولها من الفلسفة اليونانية القديمة حيث كانت فكرة محاكاة الكلمات للأشياء فكرة قديمة، نجدها عند الحضارات الشرقية، فأدخلها أفلاطون إلى فلسفته الخاصة، حيث اعتقد هذا الفيلسوف أن تقنين اللغة من اختصاص المشرع (الفيلسوف) الذي يعرف كيف يصنع الكلمات لأن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء التي تعبر عنها، وذلك حتى تكون مطابقة لها وتستطيع التأثير عليها. فالأطروحة الأفلاطونية (من خلال محاورة كريتل- عدالة الأسماء) بهذا الصورة، تجمع بين تصورين: التصور الفلسفي الذي يؤكد أن اللغة محاكاة للطبيعة، والتصور الفلسفي الكلاسيكي الذي يجعل وضع اللغة مقصورا على بعض المشرعين والحكماء.



وتجدر الإشارة إلى أن البحث في أصل اللغة أصبح متجاوزا، لأن إشكالية اللغة أعمق وأعقد من ذلك.



بالوقوف عند كل ما تقدم، تتضح الإشكالية الفلسفية التي نسعى إلى مقاربتها من خلال هذا الدرس، والتي يمكن تفريعها إلى التساؤلات التالية:



- كيف يمكن حصر الظاهرة اللغوية في الإنسان؟ ما الذي يجعله كائنا مفكرا ورامزا؟



- ما علاقة اللغة بالفكر؟ هل يمكن التفكير بدون كلمات؟



- هل اللغة منظومة قواعد ومبادئ تعمل باستقلال عن مؤسسات المجتمع وقيمه، أم أنها تحمل سلطة محايثة لها؟



1- اللغة خاصية إنسانية:



لقد حاول الفلاسفة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن تفسير وجود لغة عند الإنسان؟



يعتبر ديكارت* من المهتمين بالظاهرة اللغوية خصوصا وأنه حاول باستمرار اقامة الفروق بين الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يقترب من بعض النظريات العلمية، وبالخصوص نظريات التعلم التي بنت أسسها على تجارب بافلوف*. فقد أكدت دراسات ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوانات مجرد استجابات اتفعالية (رد فعل، استجابة شرطية) لمؤثرات (مثبرات) تسبب له لذة أو ألما، اكتسبتها نتيجة الدعم، فالصوت المشروط لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. ويرى ديكارت أن السبب في وجود لغة لدى الإنسان وانعدامها عند الحيوان هو العقل (الفكر).



"...مما يستحق الذكر أنه ليس من الناس... حتى دون أن نستثني البذهاء منهم، من لا يقدرون على تأليف كلمات مختلفة، وأن يركبوا منها كلاما به يجعلون أفكارهم مفهومة. وبالعكس، فليس من الحيوان آخر، مهما كان كاملا ومهما نشأ نشأة سعيدة، يستطيع أن يفعل ذلك."[8] فاللغة إذن ليست ظاهرة فسيولوجية، فالحيوان يتوفر على أعضاء الكلام، لكنه يفتقر إلى اللغة، في حين أن تعطل هذه الأعضاء عند الإنسان لا يمنعه من إنتاج لغة. كما يلاحظ ذلك عند الصم والبكم. لذا يصح القول بأن الحيوان لا يملك عقلا مطلقا، ومن ثمة فهو عاجزا عن التواصل.



وقد تعززت نظرية ديكارت هذه بتمثلات الدراسات اللسانية المعاصرة. حيث أكد بنفينست* بالرجوع إلى بعض التجارب التي أجريت على النحل، أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فيزيائية معينة، إلا أن هذا التواصل عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى، (غياب الإرسال المجدد). وموضوع الرسالة مرتبة دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية، في حين أن لغة الإنسان تعتمد على الفكر. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان، وأخر لغة النحل لا تقبل التحليل، نظرا لمحدودية مكوناتها، في حين أن اللغة البشرية توصف بأنها شبكة رمزية من التأليفات اللانهائية من الدلائل والمورفيمات والفونيمات.



من هنا تتضح الرؤية الفلسفية لكل من ديكارت وبنفنست، أن اللغة خاصية إنسانية. فكيف حاول كاسرير* مقاربة هذه الإشكالية؟



لم يعد الإنسان عند كاسرير مجرد حيوان ناطق بل أصبح في المحل الأول حيوانا خالقا للرموز، وأصبحت صفته هذه هي الدليل الوحيد على إنسانيته.



فإذا كانت الفلسفة النقدية، (مع كانط) قد عينت أساسا بنقد العقل، فإنه ترتب على ذلك أن أصبح العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان في ضوء هذه الفلسفة هو العقل.



ومن بعده ديكارت.



إلا أن كاسرير يرى بأن الجانب العقلي لا يمكن أن ترد إليه كل صور الحضارة الإنسانية، مترتب عن ذلك أن أصبح العقل فرعا واحدا من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع واحد يميز الإنسان ألا وهو القدرة على الرمز. وعلى هذا الأساس يرى كاسرير أنه بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا، فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا.



فالإنسان عنده لا يعيش في عالم حضاري، ولما كان العالم الحضاري يتكون من اللغة والأسطورة والفن والدين... وهو ما يمثل العالم الرمزي. فإن دراسة الإنسان تصبح قائمة على أساس دراسة هذه الرموز.



ولم يتوقف كاسيرر عند هذا الحد، بل زاد موقفه تحليلا، فأوضح أن لكل كيان عضوي (إنسان+حيوان) (بالاستناد إلى دراسة العالم يوكسل) جهازان: جهاز الاستقبال، وجهاز التأثير، كما يضيف جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره وهو الجهاز الرمزي.



يقول كاسيرر: "تبدأ فلسفة الأشكال الرمزية من فرض معين مضمونه أنه إذا كان هناك تعريف لطبيعة الإنسان أو جوهره. فإن هذا التعريف لا يفهم إلا باعتباره لا وظيفيا ولا ماديا، فنحن لا نستطيع أن نعرفه بإمكانية يحملها في ذاته أو غريزة تؤكدها الملاحظة التجريبية، عن الطابع المميز الأكبر للإنسان، أي علامته الفارقة ليس هو طبيعته الميتافيزيقية وإنما هو عمله، هذا العمل أعنى جهاز الفعاليات الإنسانية هو الذي يحدد دائرة الإنسانية، وتمثل اللغة والأسطورة والدين والفن والعلم قطاعات متنوعة من هذه الدائرة."[9]



من خلال هذا، نسنتنج أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان بواسطته أن يتمثل الواقع وكذا حاجة على التقيد به، واستحضاره في صورته وشكله الماديين، وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر. وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال وقطيعة؟



2 اللغة و الفكر:



إن العلاقة بين اللغة والفكر: الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، والأخرى تؤكد – على العكس- فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف برغسون Bergson، نجده يؤكد ان اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية، فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم، ومن ثمة يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.



إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس، فالعقل في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على انه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغماتية وميكانيكية، تلجا إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال، أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل، فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة يستطيع العقل أن يحق من خلالها عمله النفعي، ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير وعن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".



هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه، وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها الأطروحة الصوفية، فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك وشطحان المتصوفة (كقول الحلاج مثلا: "ما في الحبة إلا الله" أو قول البسطامي "سبحاني ما أعظم شأني" ، لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.



كما نجد أن عالم النفس الأمريكي واطسون حاول التأكيد من جهته على أن التعبير عن الفكر يحتاج إلى نضج في أعضاء النطق، وأن العادات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر) وأنه بواسطة التوليفات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر). وأنه بواسطة التوليفات العضلية تستطيع الإفصاح عن جميع الكلمات.



فإذا كان برغسون يؤكد أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، نجد أن ميرلوبونتي في مقابل ذلك يؤكد أن هناك ارتباطا بين اللغة والفكر ولا يمكن اعتبارهما في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة. خاصة منها أطروحة كرستيفا، أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية. حيث ترى جوليا كرستيفا Kristeva. أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا، فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة. أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول جوليا كريستيفا: "إن اللغة هي جسم الفكر".



إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الانفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية، فقد بينت – مثلا- الأبحاث العلمية التي أجريت عل ظاهرة الأفازيا Aphaiel أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي، كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كرستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل واحد، وفي نفس السياق شبه دي سوسير Desaussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه، الورقة وظهرها حيث قال: "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت أو فصل الفكر عن الصوت.



إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومتداخلة، ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة، فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التوصل في إطار من الشفافية والوضوح والتأمين أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية.



إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين المتكلمة، أو بتعبير آخر عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية، وقد حدد جاكبسون Jakobson، عوامل التواصل فيما يلي: المرسل: وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة.. المتلقي: (المرسل إليه)، وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة: وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي.. المرجع: (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة. روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة وأخيرا السنن Le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:



1- الوظيفة الانفعالية: وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان صادقا أو كاذبا.



2- الوظيفة التأثيرية: وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أحل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.



3- الوظيفة الاتصالية: وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.



4- وظيفة وصف اللغة للغة: وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وهذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرا..إلخ.



5- الوظيفة الشعرية: وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها.



إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال Kakobson، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية.



∙ 3 اللغة والسلطة



تعد اللغة ظاهرة معقدة، مما جعلها تطال ميادين مختلفة ومتعددة كميدان السلطة والفكر والإيديولوجية والمنطق ... إلخ، إذ كان من المعروف أن اللغة أداة سلطة وتسلط، لكن مع الدراسات اللغوية الحديثة تأكد أن للغة ذاتها سلطة على النفوس والعقول وأنها تتضمن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعين أن يمر أولا عبر سلطة اللغة ذاتها، خاصة في مجتمعنا المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تداهم الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة عبر أجهزة الإيديولوجيا والسلطة ذاتها.



لقد أصبح من المؤكد من خلال تصورات العديد من الفلاسفة أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والسلطة، حيث لا يمكن تصور لغة بدون سلطة أو سلطة بدون لغة، فإذا كانت اللغة فعل من أفعال السلطة حسب نيتشه ( 1844-1900) على اعتبار أنها تبقى أداة في يد الأقوياء والمهيمنين للتصنيف بين القيم (الخير/الشر، النبيل/الحقير...)، فإنها مع ج.غسدورف (1912-2000) تعمل على توجيه الإنسان ليندمج في التراتبية الاجتماعية، بحيث تفرض عليه الاستعمال الصحيح للكلمات داخل النظام الذي ينتمي إليه، وفي نفس الوقت تساعده على الخروج من ذاته والارتباط بالمحيط العائلي والانفتاح على العالم، فبسبب اللغة يضطر إلى التخلي عن حياته الداخلية والخاصة لمصلحة الوجود الاجتماعي الخارجي.



إن اللغة كذلك سلطة تشريعية وإلزامية قانونها اللسان، بفعل التكرار والاجترار الذي يطال الكلمات التي يتداولها الأفراد، إذ تحدد نطقنا وألفاظنا وتركيبنا اللغوي، لتصبح أداة للضغط ومعبرة عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع.



هكذا تكون اللغة في نظر رولان بارط تحت تأثير الطقوس والعادات وتحت ضغط الطابوهات وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله، أي أن الذات تتكلم في حدود ما يسمح به المجتمع. كما أن اللغة 3تحمل في ذاتها صيغة إلزامية تعمل على تأكيد وإثبات ما يجب أن ينطق به الفرد في إطار علاقته بين الأفراد في حدود ما تسمح به هي، ومن هنا لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.



وإذا كان دي سوسير يدرس موضوعة اللغة كموضوعة مستقلة، والفصل المطلق بين اللسانيات التي تقتصر على اللغة في باطنها وتلك التي تهتم بما هو خارج عنها، فإن بيير بورديو سيتوجه نحو دراسة اللغة في إطار مجالات استعمالها المتعددة والشروط الاجتماعية لاستخدام الكلمات.



وحسب يورديو تبقى دراسة دي سوسير حبيسة البحث عن قوة الكلمات وسلطتها داخل الكلمات ذاتها، أي حيث لا وجود لتلك القوة ولا مكان لتلك السلطة.



ليست سلطة الكلام إذن إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة، أي أن اللغة تستمد سلطتها من الخارج وترمز إلى سلطة وتمثلها وتظهرها، فأي خطاب مرتبط بسلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة للشخص الذي ينتج ذلك الخطاب، فالأسلوب العلائقي اللغوي الذي تتميز به لغة القساوسة أو الأساتذة وجميع المؤسسات راجع بالأساس إلى المقام الذي يحتلونه في إطار سباق وتنافس هؤلاء الذين أسندت إليهم بعض السلطات.



إن فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في ذات الوقت يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع، ومن ثمة فإن من فوض إليه أن يكون ناطقا باللسان، لا يؤثر عن طريق الكلمات ذاتها، بل يؤثر بالرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام ووكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة.



فالخطاب ينبغي أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بأن يلقيه، أي عن هذا الذي عرف واعترف له بأنه أهل لأن ينتج فئة معينة من الخطابات وأنه كفء جدير بذلك (كالقس والأستاذ والشاعر...)، كما ينبغي أن يلقى في مقام مشروع أي أمام الملتقى الشرعي فلا يمكننا مثلا أن نلقي قصيدة سريالية أمام مجلس حكومي.



خلاصة القول اللغة السلطوية ليست إلا الحد الأدنى للسان المشروع الذي لا يستمد سلطته من مجموع تغيرات النطق وكيفيات التلفظ التي تحدد النطق، ولا من تعقيد تراكيبه الصرفية وغناه



اللفظي، أي من خصائص الخطاب ذاته، وإنما من الشروط الاجتماعية للإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة بذلك اللسان المشروع والعمل على الاعتراف به داخل الطبقات الاجتماعية.



إن اللغة هي أخطر النعم كما قال هيدجر.



مراجع:



[1] - نصوص الفكر الإسلامي والفلسفة: السنة الثالثة ثانوي. 1989



[2] - لغة الكلام التي تختلف من مجتمع إلى آخر، إذ لكل مجتمع لغة أو لسان خاص به يميزه ويتحدد به الانتماء الثقافي والحضاري للأفراد (لغة عربية...)



[3] - تشكل لغة كونية يتفاهم بها جميع الناس تقريبا كالتواصل عن طريق الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.



[4] - فهي ترتبط بالجهاز العصبي وبأعضاء الكلام (اللسان، الحنجرة...) والإيماءات الجسدية.



[5] - هي مؤسسة اجتماعية تتمظهر على شكل نسق رمزي يوجد بين أفراد المجتمع الواحد.



[6] - هي أداة للتواصل، وبالتالي فهي خاصية مشتركة بين سائر أفراد النوع البشري.



[7] - هي وسيلة مشتركة بين الأفراد للتعبير عن ما يخالجهم وما يئج به محتوى الوعي.



P.Bourdieu, ce que parler vout dire, Faryad, 1982, P 13, 118.(8)



-(9) دفاتر فلسفية، نصوص مختارة، العدد 5، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2005، ص: 106، 111.



رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيدعيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و ...

رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيد عيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و أبي وسائر اموات المس لمين 🤲 #اللهم_صل_وسلم_على_نبينا_محمد   #ال...