lunedì 7 marzo 2011

دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : التقنية و العلم

محاور الدرس




1) لماذا التقنية خاصية إنسانية؟



2) التقنية و العلم.



3) نتائج تطور التقنية.

-تقديم




يعيش الإنسان المعاصر الحضارة وسط زخم التقنية بين عدة أجهزة وآلات مختلفة أنتجتها التكنولوجيا الحديثة فانتظمت حياته أفرادا وجماعات بانتظام كل ميادين الحياة بانتظامها، فمن الميدان السياسي إلى الاقتصادي نجد المعدات والآلية تخترق الحياة البشرية حتى أضحت مألوفة لدى الناس ولا يستطيعون العيش بدونها، وخير مثال على هذا ما يطبع العالم اليوم من انتشار موحد لنماذج التنمية والتصاميم والمخططات وتطور أدوات التواصل واكتساح الإعلاميات لكل الحقول، وفرض مفهوم جديد عن الزمان، كل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى بل أضحى العالم قرية صغيرة.



المعنى الشائع لمفهوم التقنية في اللسان العربي نجده يقابل العلم، كما يقابل الممارسة النظرية وتطبيق المعرفة، ثم أنها شيء محايد، وهي ليست خيرا في ذاته ولا شرا في ذاته، إنما مجرد وسيلة تتخذ معناها من التوظيف التي توظف فيه.



ويعرف معجم لالاند التقنية بأنها "مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة.



يشير هذا التعريف في دلالاته الأولى إلى كل إنتاج لأشياء مختلفة (أدوات، آلات..) لا تستطيع الطبيعة توفيرها وإنتاجها بذاتها، ويحمل دلالات ثانية يمكن أن نجملها في كونه أولا بتركيزه على خاصية التحديد الدقيق يقصي من دائرة التقنية كل الوسائل التي لا تتلاءم بصفة مع الأغراض التي صنعت من أجلها، وفي كونه ثانية يربط التقنية بخاصية النقل والتحويل وهو ما يضفي عليها طابعا اجتماعيا تصبح التقنية بمقتضاه قابلة للتعلم والاكتساب والتطوير والانتشار داخل الوسط الاجتماعي وأخيرا يربط ذلك التعريف التقنية بأهداف عملية ونفعية.



يمكن أن نستخلص من هذا التعريف إذن أن التقنية نشاط إنساني أساسي تقوم عليه باقي الأنشطة الإنسانية الأخرى، وأنه جزء من نسيج العلاقات الاجتماعية، وبذلك فالإنسان لم يحول الطبيعة باعتماده على التقنية بل تحول هو نفسه إلى كائن ثقافي يعيش حياة اجتماعية واعية.



وقد أبرز معظم الفلاسفة والأنتربولوجيين أن البعد التقني سابق أو على الأقل ملازم للبعد المعرفي في الإنسان، وأن الإنسان نفسه كائن صانع قبل أن يكون كائنا عارفا، بمعنى أن المهارات العملية للإنسان سابقة بل متفوقة على مهاراته النظرية أو المعرفية.



وإذا كانت التقنية قد تطورت عبر تاريخ الإنسانية تطورا بطيئا عبر عشرات القرون: الحجر، الحديد، البروز، فإنها أخذت تتحول نوعيا من التقنية اليدوية إلى التقنية الممكنة مع ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا حيث تلاحقت الثورات التقنية تباعا:



الثورة البخارية، المحرك الانفجاري، اكتشاف الكهرباء ونتائجه، الثورة الإلكترونية، المعلوميات، الثورة الجينية وهي تحولات تحكمها معايير التسارع والميل إلى الاستقلال الذاتي والكونية والتطور العلمي بعيدا عن أي منظور غائي، وذلك في إطار تصور جديد للعلم ذاته الذي لم يعد كما كان في العصور القديمة معرفة نظرية شاملة متقابلة مع التقنيات كصناعات وممارسات علمية، بل في منظور أن العلم أصبح مرتبطا عضويا بالتقنية. إلا أن التطور الهائل للتقنية الحديثة وكشوفاتها وقدراتها التي جعلت الإنسان يحقق ما كان يحلم به عبر السحر والميتولوجيا في القديم سواء في استكشاف الأبعاد اللانهائية للكون الكبير وفي الأبعاد اللانهائية للأكوان الصغرى في المادة الجامدة والمادة الحية أو في السعي إلى التحكم في بعض مظاهر الحياة عبر التلقيح الاصطناعي أو الاستنسال وغيره كل ذلك بدأ يطرح تساؤلات للمقارنة بين إيجابيات التقنية وحدود سلبياتها، وحول كيفية ضبط تطورها قانونيا وأخلاقيا حتى لا تتجاوز حدود المعقول الأخلاقي.



3 – التأطير الإشكالي للوحدة::



إذا كانت التقنية هي مجموع الوسائل والأدوات التي يخترعها الإنسان اعتمادا على العلم، والتي تهدف إلى توفير خدمات مختلفة للإنسان وتساعده على التغلب على حوائج الطبيعة وعلى الأمراض ومظاهر النقص وتمكنه من تقليص المسافات واختصار الأزمة وتقريب البعيد إلى غير ذلك من الفوائد إلا أن التطور الهائل الذي واكب التقنية الحديثة أصبح يطرح عدة تسؤالات:



- كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟



- ولماذا تعتبر خاصية إنسانية؟



- ما العلاقة بين التقنية والعلم؟



- ما هي الآثار الناتجة عن هذه العلاقة؟



- هل تعمل التقنية خلف كشوفاتها الإيجابية وتحولاتها النوعية آثارا سلبية تهدد الإنسان والطبيعة؟



- ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان؟ لماذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصير العالم؟





التقنية والعلم



المحور الأول: لماذا التقنية خاصية بشرية؟



التأطير الإشكالي للمحور: - كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟



- ولماذا تعتبر خاصية إنسانية.



المضامين:



* أطروحة أوسولد شنغلر: O.Spengler، فيلسوف ألماني، اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاريخ، من كتبه "انحطاط الغرب" و"الإنسان والتقنية".



يرى شبنغلر أنه إذا أردنا تحديد مفهوم التقنية فعليا ألا ننطلق من المفهوم القديم الذي يعتبرها مجرد صناعة الأدوات والآلات بل ترجع تعريفها في الواقع إلى الأزمنة الغابرة كما أن نشأتها التاريخية غير معروفة، لكن ما يميزها هي أنها خاصية إنسانية تتمكن من قلب حياة ا لإنسان وضاعفت قوته وغيرت نمط تعامله مع الطبيعة وتمكن من توسع مجالات نشاطه وتنويعها وبلوغ نتائج حاسم لصالح الإنسانية ولم يمس هذا التغيير الإنسان فقط بل تمكنت أيضا من قلب الحياة الحيوانية باعتبارها مجرد خطة حيوية يدافع بها عن نفسه ويحميها من المخاطر ويحافظ على وجوده الطبيعي في حين نجد التقنية عند الإنسان هي استراتيجية وخطة للحياة بهدف التخلص من سيطرة الطبيعة ولكي ندرك مدلول التقنية وحتى لا نقع في الخطأ الثاني لهذا المفهوم فعلينا ألا نحصر التقنية في وظيفة الأدوات والآلات فهي استباق واستكشاف للمستقبل، لذا يميز شبنغلر بين التقنية عند الحيوان باعتبارها خطته الحيوية التي تخضع لنظام الغريزة وتوجه سلوكه للحفاظ على بقائه واستمراريته بينما التقنية الإنسانية هي خطة للحياة يهدف من خلالها إلى التأمل والاستباق لتنظيم الوجود الإنساني من خلال التعرف على كيفية استخدامها باتباع استراتيجية واضحة ومنظمة فالتقنية هي مسألة سلوك مهتم وهادف نتوخى من خلاله بلوغ أهدافنا وتحقيقها وليست مجرد أشياء وموضوعات، فالتقنية هي سيرورة إنسانية يسعى من خلالها إلى الدفاع عن نفسه والحفاظ على بقائه في استمرارية للحياة وللوجود البشري.



* أطروحة هايدجر: يتسائل هايدجر عن ماهية التقنية فيجد كجواب لها بأنها نمط وجود الكائن البشري الخاضع لسيطرة الفكر التقني، فالإنسان يوجد تحت قوة تتحداه وتفرض عليه سيطرتها فلم يعد حرا إزاءها كل أصبح خاضعا لسيطرتها نظرا لما تمت له ماهية التقنية من قوة خفية تمكن الإنسان من استخدام جميع قدراته على التخطيط والحساب والتوجيه اعتمادا على معرفة تطبيقية سعى إلى الفعالية والاقتصاد بوصفها المبدأين الأساسين اللذين قامت عليهما التقنية وهكذا جسدت على نحو ما الوجه الأساسي لنمو العقل العلمي وجعلت من العلم في حد ذاته قيمة يتم السعي إليها بحيث أصبح تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني المستمر م هنا فماهية التقنية ترتبط بسيطرة العلم في مستواه التقني على الوجود البشري.



* أطروحة ديكارت: يرى بأن امتلاك الإنسان لفلسفة عملية عوض الفلسفة النظرية التي تدرس في المدارس تمكنه من معرفة قوانين الطبيعة للسيطرة عليها واستغلالها فباكتشافه للآلة تمكن من فرض سيطرته على الطبيعة وأكد إمكانية بلوغه حياة بطبعها الرخاء والتحرر، ومن خلال الآلة أيضا ضاعف من قدراته الإنتاجية وتحرر من الحاجة المباشرة في علاقته بالطبيعة ولعل أهم ما حققه الإنسان بواسطة الآلة توسيع مجالات نشاطه وتنويعها وبلوغ نتائج حساسة لصالح الإنسانية وبذلك غير نمط تعامله مع الطبيعة وحتى حلمه في أن يصبح سيدا ومالكا للطبيعة.



المحور الثاني: التقنية والعلم.



التأطير الإشكالي للمحور: - ما علاقة التقنية بالعلم.



- ما هي الآثار الناتجة عن هذه العلاقة؟



* أطروحة : س – موسكوفيتشي S.Moscovici



يرى موسكوفيتشي أنه لم يعد المهندس بإمكانه أن يجد حلولا لمختلف المشاكل التي واجهت الحرفيين والصناع إذا لم يكن يتمكن من استخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية فالمهندس يحتاج إلى تعلم مبادئ الهندسة والحساب التي تمكنه من ضبط رسوماته وخطاباته بشكل دقيق كما تعطيه فكرة صحيحة وواضحة عن أبعاد البناءات وأحجامها وذلك من صيغ رياضية تتميز بالدقة والإتقان، من هنا حاجة المهندس في عمله إلى التصميم الرياضي وتتجلى هذه الضرورة الملحة في:



- أصبح من الضروري معرفة الأوزان والأحجام والأشكال ولو بطريقة تقريبية، فالتقنية تحتاج إلى امتلاك المفاهيم الرياضية التي ستمكنها من التطور السريع والذي ينعكس بدوره على عمل المهندس الذي يرتبط بتطور قدرته في استخدامه للعلم الرياضي.



- ارتبط استخدام الهندسة والحساب في البداية بوصف الآلات ورسم الخطاطات والتصاميم إلى أن ذلك سيتطور ليصبح وسيلة للدراسة والقياس مما سيساهم في تطور التقنية، فارتباطها بالعلم الرياضي والعلم التجريبي حولها إلى تكنولوجيا أصبح بمقدورها التحكم في سيرورة تطور العلم بحيث لم يعد بإمكاننا الفصل بينهما وكمثال على ذلك نجد العالم ليوناردو دافنتشي يلجأ بدوره إلى الهندسة قصد تصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة وأصبحت التقنية تعمد بشكل أساسي على الرياضيات قصد تطوير أبحاثها، فالمهندس يحتاج إلى الرياضيات لتطوير مهاراته باعتبارها العنصر المكون لهذه المعرفة وتعتبر الخطاطات والتصاميم والتجارب عنصرا في هذه المعرفة فكل آلة أو بناء منشأة يتطلب معرفة التجارب وفحوصات قبلية سرعان ما تتطور وتتمكن بدورها من التحكم في العلم، وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن مفهوم التقنية أصبح يشمل جميع قدرات الإنسان على التخطيط والحساب والتوجيه بالاعتماد على معرفة تطبيقية تسعى إلى الفعالية والاقتصاد وهكذا فالتقنية هي تجسيد لنمو الحقل العلمي وجعلت من العلم في حد ذاته قيمة يتم السعي إليها بحيث أصحب تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني ال مستمر، من هنا استحالة انفصال التقنية عن العلم.



* أرطوحة إدغار موران E.Morin



يعتبر إدغارموران أننا نعيش في عصر تاريخي تعرف فيه التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية تداخلات وتفاعلات فيما بينها وعلى مختلف المستويات والتجريب العلمي هو في حد ذاته تقنية للتحكم، كما أن تطور العلوم التجريبية يساهم في تطور التقنيات وبه منح العلم سلطا تحكمية في المادة الحية واللاعضوية، فالتجربة تطور التقنية والتي تعمل بدورها على تطوير أنماط جديدة من التجريب والملاحظة العلمية كملاحظة الجزئيات والتلسكوبات التي تسمح بتطوير المعرفة العلمية، ومن هنا تصبح التقنية قوة مسيطرة كما أن العلم يتمكن من فرض سيطرته على الآلة وإخضاعها لحاجياته، من هنا لا يمكن أن نعتبر أن العلم والتقنية سيرورة دائرية تداخل فيها عدة عوامل ورهانات سياسية واقتصادية تتحكم في تحديد مصير الدول والشعوب وأصبح العلم كمؤسسة قوية وسلطة حقيقية تساهم في قلب المجتمع والتحكم فيه بل تتم مراقبته بواسطة السلطات الاقتصادية والسياسية وتلعب كل الأطراف المتداخلة من علم، تقنية، مجتمع ودولة دورا فعالا في استمرار هذه السيرورة.



* أطروحة عبد السلام بنعبد العالي:



يرى عبد السلام أن الفيزياء الحديثة ليست فيزياء تجريبية يتم تطبيقها على الطبيعة قصد الاستحواذ عليها والسيطرة انطلاقا من تطبيقاتها ولكن الفيزياء نظرية خالصة تجبر الطبيعة على إظهار تلك القوى القابلة للحساب الرياضي والخاضعة للتجريب، فالآلة ليست مجرد وسيلة يعتمدها الإنسان في استغلاله للطبيعة بل تحمل في نظامها معرفة علمية متجددة أعطت لمفهوم الآلة معنى جديدا يتجلى في المعرفة التي تمتلكها الآلة في ذاتها وعن طريق الممارسة اتخذت شكل الآلة في التطبيق الخارجي للمعرفة الرياضية، إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية مكنتنا من القدرة على السيطرة على الطبيعة وامتلاكها، فالإنسان سيد الطبيعة مالكا لها، فإرادة المعرفة هي إرادة القوة والتمكن والسيطرة التي قام عليها العلم بحيث أصبح تصور العلم يقوم على فكرة التقدم التقني المستمر انطلاقا من المعرفة الرياضية التي يمتلكها.



تركيب: كانت الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية والأرسطية تقيم تقابلا بين العلم كمعرفة نظرية شاملة، وبين التقنية كصنعة وممارسة عملية، وضرورة وأشياء عارضة، حسية وطارئة. لكن ابتداء من عصر النهضة الأوربية الحديثة خفت حدة التقابل بينهم، إذ عد العلم معرفة بعلل الظواهر وقوانين حدوثها، وأضحت التقنية هي مجموعة من العمليات والإجراءات الرامية إلى التحكم في نتائج العلم واستخدامها وتطبيقها، إلا أن هذا لم يمنع من معرفة نظرية خالصة في حين أن التقنية هي معرفة تطبيقية لكن هناك اتجاه فلسفي آخر يرى أن العلم نفسه تقني في جوهره وتصوره فهو استجابة للتقنية وامتثال لها.



المحور الثالث: نتائج تطور التقنية.



التأطير الإشكالي للمحور:- ما هي نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان؟



- لماذا تحولت إلى قوة مسيطرة على وجود الإنسان؟



* أطروحة ميشيل سير: M.Serres (1930 ¬)



انتقد ميشيل سير المسلك الذي سار عليه العقل الغربي وذلك باتخاذه التقنية كوسيلة للتحكم في الطبيعة، وهذا الأسلوب أدى بدوره إلى تحكم التقنية نفسها على الإنسان والطبيعة معا فتحولت من مجرد أداة لتحكم الإنسان على الطبيعية إلى عنصر يهدد كيانهما ووجودهما معا، وخطورة هذا التحكم حسب ميشيل سير أنه مقتصر على فئة أو منطقة دون أخرى أو أنه محلى، بل سيكون ذا بعد كوني وعالمي وشامل.



فلا خيار أمامنا إلا إعادة النظر في علاقتنا بالأشياء التي أصبحت تسودها علاقة التملك والتحكم عن طريق إيجاد السبل الكفيلة للخروج من هذا الإشكال العويص، وهذا السبيل هو تحكم جديد في التحكم الحالي المستمد أصوله من العقل الغربي الحديث.



* أطروحة كارل ماركس:



يرى ماركس أن كل الأشياء تبدو جلية وواضحة من خلال نقيضها، وهكذا فإذا كانت التقنية تحمل ي ذاتها إيجابيات وتبهر الإنسان وتملك قدرة إيجابية في اختصار الوقت وتحد من ساعات العمل عبر الآلات المختلفة فإنها في الوقت نفسه تسبب الجوع والإنهاك المفرط، لتتحول الثورة التقنية إلى مصدر البؤس، فأصبح كل انتظار تقني ثمنه انحطاط معنوي.



ومن خلال مفهوم الاستلاب فإن ماركس يؤكد أنه بقدر ما فتئ الإنسان يصبح سيدا وممتلكا للطبيعة بقدر ما تمارس عليه الآلات والقدرات التي يمتلكها استلابا ويتحول إلى عبد لهاته الآلات التي يمتلكها.



إن التقنية حسب ماركس تستدعي استغلالها والتحكم فيها من طرف أناس جدد غايتهم تحويلها إلى وسيلة لنفع المجتمع لا لممارسة الاستلاب والاضطهاد.



أطروحة ماركوز



يعتبر ماركوز أن التقنية رغم قوة حضورها ليست في نهاية المطاف سوى "مظهر" لفكر أصبح يمثل سلطة في حد ذاتي. إن التقنية تصدر عن فكر لا يرى في الوجود البشري سوى استغلال للطبيعة، ولا يرى في تقدم العلوم سوى تجديد الآلات وابتكارها. ويتلازم هذا الفكر مع رهانات سياسية واقتصادية حاسمة في تحديد مصير الدول والشعور بحيث لا يتوقف النشاط التقني على رجل التقنية أو العالم بل يتعداها إلى رجل السياسة والاقتصاد وهذا الأخيران أمام وضع لا يقبل التوقف، فبالأحرى التراجع، إنهما ليسا سوى مدبرين لحركة لها قوتها الخاصة ومنطقها الخاص أي المؤسسة قائمة بذاتها.



موسى الخلف:



يجيب موسى الخلف على السؤال الإشكال حول نتائج تطور التقنية على الإنسان من زاوية تخصصه في الهندسة الوراثية التي شهدت منذ فترة قصيرة تطورا هائلا جعلنا نطرح على هذه الوضعية سؤال حول مدى انعكاسها على المستوى الأخلاقي على الفرد، وعن نتائجها السلبية على الإنسان والطبيعة معا.



يعتبر موسى الخلف أنه رغم الطابع الإيجابي لهذا التقدم التقني على مستوى الهندسة الوراثية، إلا أن لها طابع سلبي يتمثل بالأساس في كونها وسيلة في يد بعض الأشخاص أو الدول للتحكم لتحقيق الربح المادي.



تركيب:



من خلال ما تقدم يمكن القول أن أغلب الفلاسفة في إجابتهم على الأشكال المركزي للمحور والمتمثل في نتائج تطور التقنية يتفقون على اعتبار التقنية وسيلة للتحكم على مصير الإنسان والطبيعة معا وأن طابعها السلبي أصبح طاغيا مما يهدد كيان الإنسان والطبيعة معا.



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : المجتمع

محاور الدرس




1) أساس الاجتماع البشري.



2) الفرد و المجتمع.



3) المجتمع و السلطة.

يتكون المجتمع من مجموعات أفراد وجماعات ,تربط بينهم علاقات وخدمات متبادلة. فالمجتمع الإنساني هو مجموعة من الأفراد, تربط بينهم علاقات قوية تجسدت في شكل مؤسسات, أصبحت في الغالب محمية بواسطة آليات الضبط والنظام , تبدأ من النهي والتوبيخ , لتصل إلى العقاب الذي يشعر الفرد بسببه بقوة القهر و الخضوع لإكراه الجماعة .




يقتضي هذا الوضع التساؤل عن أساس المجتمع البشري . هل هو طبيعي أم ثقافي ؟ ما هدف الحياة الحياة الاجتماعية ؟ ما وضعية الفرد داخل المجتمع ؟ هل هو كيان حر ومستقل ؟ أم مجرد عنصر خاضع للجماعة ؟ ثم كيف يمارس المجتمع سلطته على الأفراد ؟.



المحور الأول : أساس الاجتماع البشري.



1- أطروحة ابن خلدون : الاجتماع البشري طبيعي فطري وضروري.



المجتمع في نظر ابن خلدون لابد منه. بهذا الشكل يخضع المجتمع لقوانين عامة, مثله في ذلك مثل الظواهر الفردية . لذلك بدأ ابن خلدون بحوثه بدراسة العوامل التي ترجع إليها نشأة الحياة الاجتماعية , وهي في نظره ثلاثة :



- الضرورة : لكنها ضرورة طبيعية ولها مظهرين أما ضرورة اقتصادية , لأن الفرد لا يستطيع أن يحصل على حاجاته كلها بنفسه . لابد أن ينتج وأن يوفر الحماية... ذلك أن الصراع الدائم بين الإنسان والحيوانات المتوحشة أدى إلى الاجتماع للتعاون من أجل القضاء على العدو ( نص ابن خلدون ص : 60).



- الشعور الفطري : ذلك أن الإنسان في نظره مزود بشعور فطري تلقائي يدفعه إلى الاستئناس بأخيه الإنسان.



- ميل الفرد ورغبته الخاصة : للإنسان ميل نحو تحقيق فكرة التجمع من أجل دفع عدوان الناس بعضهم عن بعض . متى نشأ المجتمع على هذه الصورة يكون مسرحا لنوعين من الظواهر هما :



أ‌. ظواهر طبيعية : لايتدخل المجتمع في هذه الظواهر بمعنى أخر لم ينشأها , لكنه وجدها كما هي عليه مستقلة عنه بطبيعتها تؤثر فيه ويتأثر بها...مثل العوامل المناخية و الجنس ...



ب‌. ظواهر اجتماعية : وهي ظواهر يخلقها المجتمع ولا توجد منفصلة عنه, بل بل تشكل كلا متماسكا من الأجزاء ووحدة حية تتفاعل عناصرها وتتشابك أثارها.



خلاصة :



يرى ابن خلدون أن الإنسان مدني بفطرته وطبيعته, فالاجتماع الإنساني ضروري, لأن غرائز الإنسان البيولوجية والنفسية لايمكن أن تتحقق إلا في إطار المدنية.



1. أرسطو:



يرى أرسطو في كتابه المطول السياسة. أن الإنسان حيوان مدني قابل بالطبيعة للحياة الاجتماعية, التي تجد أسمى تعبير لها في الدولة والتي يعتبرها سابقة على الأسرة والفرد. إن الحاجة إلى الاجتماع لاتفرضها غرائز الإنسان فقط , بل كذلك خصوصية الإنسان , باعتباره وحده الحيوان الناطق (العاقل) . جعل أرسطو غاية الاجتماع البشري هي الدولة .( نص أرسطو ص : 61).



2. جون جاك روسو( 1712-1778) :



الاجتماع البشري اتفاقي إرادي:



وضع روسو كتابا خاصا بهذا الموضوع تحت عنوان " العقد الاجتماعي". تتمحور أطروحته حول تمتع الإنسان بالحرية في حالة الطبيعة , وان حياته كانت سعيدة وخيرة. الا أن هناك الكثير من العقبات التي حالت دون استمرار حياته تلك بسبب اصطدام المصالح وتنازع الناس فيما بينهم, دفعت الناس إلى بناء حياة اجتماعية عن و قصد وبناء مجتمع سياسي , تحل فيه الدولة محل الفرد.



وعليه تكون سيادة ا لمجتمع أو الدولة هي سيادة الشعب..وهذا ما يعبر عنه قول روسو:"أن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد".



إن أساس التعاقد عند روسو هو: اتفاقي يتم بموجبه التنازل لطرف ثالث قصد حماية مصالح الجماعة وتحقيق أمانهم واستقرارهم وهو ما يطلق عليه (الوكيل أو الحاكم). ينصب من طرف الأفراد , لايملك سلطة مطلقة , لأن السيادة دائما للجميع- في رأي هوبز- على اثر هذا التعاقد تنشأ حالة المدنية التي تكسب الإنسان خصوصيات سلوكية أكثر(قيم العدالة والأدب والأخلاق...) وذلك بإرادة العامة واختيارها بالتخلي عن المصلحة الشخصية.



يذهب جون لوك بدوره إلى أن المجتمع أسس على اتفاق إرادي بين الأفراد. ويؤكد بالمقابل أن حالة الطبيعة ليست ليست حالة فوضى وعنف , إنما هي حالة تتميز أساسا بالحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد. الذين لايحكمهم الا القانون الفطري القائم على أن لكل فرد حقوق معينة, في الحياة والحرية والملكية الخاصة و في بلوغ السعادة.إذ لا يتوجب على أي إنسان أن يعتدي على حقوق غيره من الناس أثناء ممارسة حقوقه الشخصية.



غير أن الأفراد كثيرا ما يميلون إلى انتهاك الحقوق الطبيعية والاعتداء على ملكية غيرهم فتتحول حالة الفطرة من سلام وأمن إلى حرب ونزاع.



نتج عن هذا إرادة الانتقال من حالة الفطرة إلى حالة مجتمع سياسي مدني, لا يتم فيه التنازل عن جميع الحقوق للملك بل بعضها فقط. وعليه لايجوز للحاكم المساس بالحقوق الطبيعية للأفراد وإلا وجبت الثورة عليه.



في نفس السياق . يرى أن الإنسان في حالته الطبيعية كان حرا يفعل ما يشاء, ويمتلك ما يشاء .إلا أن تصادم الشهوات سرعان ما يجعله يعيش حالة" حرب الكل ضد الكل ". لايمكن للإنسان أن يستمتع بما يرغب فيه, لذلك كان من الضروري تشكيل مجتمع قائم على ميثاق محددو أو عقد اجتماعي لإنهاء حالة الحرب.فيه يتنازل كل فرد من أفراد المجتمع عن كل حقوقه الطبيعية لصالح الرئيس الذي تجب طاعته, والخضوع المطلق له حتى لو كان طاغية, فطغيانه أفضل من حالة الصراع والحرب التي تسبق ظهور المجتمع.



المحور الثاني : الفرد والمجتمع



علاقة الفرد بالمجتمع :



1 إميل دوركايم ( 1858-1917) :



يؤكد دوركايم في تناوله لأنواع التضامن : التضامن الآلي و التضامن العضوي, أن هناك نوعا من العقوبات التي تصدر من القانون الجنائي في التضامن الآلي. وفيه يخضع الفرد لما يسمى بالضمير الجمعي.



أما الشكل الثاني : فيمتلك نوعا من القهر والعقوبات الصادرة عن القانون المدني والتجاري والإداري والدستوري.



إن حرية الفرد في المجتمع الآلي تظل منصهرة في الجماعة. فالأفراد كالوحدات الاجتماعية أو الوحدات المكونة لأجسام اللاعضوية (سبنسر). لايمكن أن تشعرك فردية الفرد إلا إذا تماسكت وتحركت مجتمعة كما يؤكد دوركايم.



هذه الصيغة التي أسست لمنطلق الانصهار الكلي للفرد في الجماعة. سوف تنمو وتنقشع من خلالها صيغة الفرد المستقلة.استقلالية الأفراد المكونة للمجتمع العضوي, نتيجة تقسيم العمل. سيظل الفرد على هذا الأساس هو الكل في المجتمع الآلي مقابل الشخصية الفردية , التي لاتشكل شيئا أمام الشخصية الجماعية. في الجماعة يلقى الشخص مجاله الخاص , بل يسعى وفق قانون التزايد السكاني إلى تحقيق الشخصية المتميزة. بمعنى أن حرية ومساحة الوعي الفردي لا يمكن أن تتم إلا إذا ترك للوعي الجمعي مساحته ( نص دوركايم ص : 64).



2. كارل ماركس ( 1818-1883) :



"ليس وعي الإنسان هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي, وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم وتصورهم".يتبين أن الناس عندما يتعاونون لإنتاج وسائل إشباع حاجاتهم الأساسية, فإنهم يدخلون في علاقات معينة معينة مع بعضهم البعض .تلك علاقات تحتمها الضرورة وتكون مستقلة عن الإرادة والوعي . وتتمثل علاقات الإنتاج هذه في البناء الفوقي للمجتمع. فهي المسؤولة عن تحديد الطابع العام لهذا المجتمع.أي قوانينه ونظمه السياسية وأوجه نشاطه الفكري ( نص ماركس ص : 65).



يدافع هربرت سبنسر عن تشبيه المجتمع بالكائن العضوي, مؤكدا أن هناك طبيعة عضوية, تغلب على المجتمع. إلا أن هذا الأخير هو شيء أكبر من الكائن العضوي (الفرد). بالرغم من أن الكائنات العضوية " الأفراد"هي أعضاء المجتمع.



وهكذا يصبح المجيتمع عند سبنسر نسقا شاملا لعناصر التنظيم الاجتماعي التي يوجد بينها نوع من التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين الأفراد على بعضهم البعض. وهو يقول في ذلك: "إننا ننظر إلى المجتمع بوصفه كيانا كليا، فالبرغم انه يتألف من وحدات مستقلة، فان هناك نوع من الإحساس بالوحدة والتجمع بين هذه الوحدات، ترجع إلى الترتيب الذي يتحقق لها في المنطقة التي يشغلها ذلك المجتمع وهذه هي السمة الرئيسية التي تميزذكرنا عن المجتمع". (1)



3. الكسيس دوطوكفيل (1805-1859) :



تتميز نظرة دوطوكفيل بكون الفردانية بما هي استقلالية هادئة وعزلة عن الأشياء. أي العائلة والأصدقاء، وهي تتعارض مع الأنانية التي تستند إلى آلية الحب الجارف والمفرط للذات. حيث تفضل الأنا نفسها عن الجميع. وبما أن الفردانية هي الاستقلالية العقلانية، فهي تفيد الاكتفاء الذاتي من حيث الغني والقوة. هذه هي الأسس التي تنبني عليها الفردانية الضحية، وهذه الأخيرة هي تأمل الذات لنفسها، فهي ملك للفرد يستحضرها بين يديه متى شاء وهذا لا يعني أن الفرد/ الأفراد ينسون ماضيهم المشترك مع ذويهم –أجدادهم وسلاستهم- بل إن الفرد يعود إلى نفسه باستمرار إلى درجة السقوط في العزلة. ( انظر نص .دوطوكفيل ، نص: 65).



المحور الثالث: المجتمع والسلطة.



إذا كان المجتمع يتوقف وجوده وبقاءه على مجموعة من المؤسسات كالقوانين والمدرسة، فان الفرد يؤسس تواجده الاجتماعي على أساس مؤسسة الدولة.



فكما ذهب تحليلا وتاريخيا هاربرت سبنسر على أن أصل الدولة والحكومة هو الخوف من الحياة هو العامل الأساسي الذي أدى عبر العصور إلى ظهور القول السياسي فالسلطة كما ذهب فلاسفة العقد الاجتماعي لا يبررها إلا السلطة السياسية فهي -أي الدولة- بما هي سلطة ومؤسسات خاضعة لمطالب الأفراد، وهي وسيلة تحقيق اكبر قدر من الحرية الفردية .فان الكثير منهم يؤسس لفكرة القهر انطلاق من تنازل الأفراد عن حقوقهم كاملة في سلطة ديكتاتورية وفردية قادرة على ممارسة القهر والقمع. يقول ماركس في هذا الصدد:" الدولة ليست تعبير عن الإرادة العامة، وإنما قوة تعلو على المجتمع،وهذه القوة إن كان أملها هو المجتمع إلا أنها تضع نفسها فوقه فتغترب عنه".



1. سيغموند فرويد ( 1856-1939) :



يرى فرويد أن المجتمع يمارس نوعا من القهر الاجتماعي على الأفراد, من خلال آليات التنشئة الاجتماعية المتمثلة في التربية والبيئة, عن طريق تدخل النظام الأخلاقي,و يمارس قهرا على الفرد , الذي يميل إلى إثبات غرائزه فيحوله من كائن أناني إلى كائن منفتح على الأخر.



إن التدخل المفرط للمجتمع المتحضر في خصوصيات الأفراد . يخلق نوعا من التوتر والصراع النفسي لدى الفرد , على نحو غير متشدد . تجعله يقبل قيم المجتمع ويتخلى عن غرائزه. إذ يتسامى بها في الواقع بامتهان حرف وممارسة هوايات خلاقة ( الفن والقراءة و الرياضة...) لتعويض ما انتزعه المجتمع منه.



إن الشخص عندما يتخلى ويتنازل عن غرائزه لصالح المجتمع. يكون حسب فرويد شخصا منافقا يعيش نوعا من الاغتراب الذاتي. إذ يتخلى عن طبيعته الخاصة وينصهر في الذات الاجتماعية (نص فرويد ص : 68).



2. يتناول ألان تورين ( 1925...) علاقة الفاعل بالمجتمع, على ليس بسابق على وجود الأفراد أو الفاعلين بل هو حدث لايتم إلا في إطار دائرة من الاحتكاكات و الصراعات والتفاعلات بين الأفراد.



فالمجتمع دينامية في شكليها : الماكرو والميكروسلطوية. إن النظام الاجتماعي لا يتم إلا في إطار أشكال الحركة والتفاعل و الفاهم والصراع بين الفاعلين الاجتماعيين و الذين يشكلون مفتاح فهم المجتمع. إن الفاعل الاجتماعي لايمكن أن نفهمه في ظل المجتمع, بل في ظل مجموع العلاقات , أو المواجهات القائمة بين فاعلين اجتماعيين. نفسها العلاقات والصراعات التي تنتج المجتمع ( نص ألان تورين ص: 69).



3. رالف لينتون (1953-1893) :



على العكس من ذلك يرى لينتون . أن الفرد الإنساني , يتلقى تعاليم مهيأة سلفا, هي ما يمنحه نماذج سلوكية تستجيب لحاجاته , خاصة الحاجات التي خلقها لديه الغير. إذ تبقى هذه النماذج تحيل الفرد إلى المشاركة والاندماج في الحياة الاجتماعية لإشباع حاجاته الخاصة . بل أكثر من ذلك التنشئة الاجتماعية تحتم على الفرد أن يتعلم الأكل لإشباع الجوع بطريقة مقبولة من لدن المجتمع و إرضاء باقي النماذج السائدة (رالف لينتون ص: 69).



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : اللغة

محاور الدرس




1) اللغة خاصية إنسانية.



2) اللغة و الفكر.



3) اللغة و السلطة.

إن مسألة اللغة إشكالية أنطلوجية خصها الإنسان مكانة هامة من حيث هو متوسل بأدوات منطقية وفلسفية وتجريبية. اختزلت في حقل التكلم كممارسة حاولت الإجابة على أسئلة الوجود، وكسبيل للتواصل مع الواقع باعتباره مجموعة الأشياء غير المسماة والضامن الأساسي للتعرف على المحيط الخارجي.




فكيف حاول المهتمون مقارنة مفهوم اللغة؟و ما هي التعاريف التي منحت لهذا المفهوم؟



ارتبطت اللغة في تداولاتها بالكلام، فعندما يراد التعبير، مثلا، عن ممارسة أحد الناس للغة ما يقال إنه يتكلم تلك اللغة. وكأن اللغة اسم لشيء لا يتحقق إلا من خلال فعل الكلام. وهذا الارتباط بين اللغة والكلام، متضمن في الدلالة المعجمية لكلمة لغة نفسها. فهي مشتقة، في اللغة العربية، من اللغا أو اللغو، ويعني الكلام غير المفيد، الفارغ من المعنى، كما تعني الكلام المميز لمجتمع معين، بحيث تتحدد اللغة في لسان العرب لابن منظور بأنها: "أدوات يعبر بها قوم عن أغراضهم" وإذا رجعنا لأي معجم فرنسي سنجد على انها مشتقة من كلمة لاتينية Lingua التي تعني الكلام واللسان. كما تدل كلمة Logos الإغريقية على الكلام والفكر والعقل.



كما يعرفها ابن جني بأنها نظام من الرموز الصوتية التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذه الرموز التي وضعت للإعلان عن الأشياء المعلومات فإذا استحضر الرمز أو اللفظ عرف به ما سماه 0000000 ليمتاز عن غيره، ويعني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين[1].



انطلاقا من هذه التعاريف، يتضح على أن الكلام فعل صوتي فردي يتم في الزمان ويتلاشى ضمنه، بينما تبقى اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبموجبها يبني المجتمع معرفته ويحقق تواصله، هذا الأخير الذي قد يتحقق بالاستناد إلى وسائل أخرى غير الكلام – تندرج بدورها تحت غطاء اللغة – الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.



وبالتالي فاللغة، ظاهرة قد تتخذ صورا صوتية[2] أو صورا كونية[3].



ومن هذا المنطلق تتخذ اللغة طابع الظاهرة المعقدة التي يمكن أن تشكل موضوع دراسات متعددة – الفيزيزلوجيا[4]، السوسيولوجيا[5]، الأنثروبولوجيا[6]، السيكولوجيا[7]، اللسانيات...



وتستمد إشكالية اللغة أصولها من الفلسفة اليونانية القديمة حيث كانت فكرة محاكاة الكلمات للأشياء فكرة قديمة، نجدها عند الحضارات الشرقية، فأدخلها أفلاطون إلى فلسفته الخاصة، حيث اعتقد هذا الفيلسوف أن تقنين اللغة من اختصاص المشرع (الفيلسوف) الذي يعرف كيف يصنع الكلمات لأن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء التي تعبر عنها، وذلك حتى تكون مطابقة لها وتستطيع التأثير عليها. فالأطروحة الأفلاطونية (من خلال محاورة كريتل- عدالة الأسماء) بهذا الصورة، تجمع بين تصورين: التصور الفلسفي الذي يؤكد أن اللغة محاكاة للطبيعة، والتصور الفلسفي الكلاسيكي الذي يجعل وضع اللغة مقصورا على بعض المشرعين والحكماء.



وتجدر الإشارة إلى أن البحث في أصل اللغة أصبح متجاوزا، لأن إشكالية اللغة أعمق وأعقد من ذلك.



بالوقوف عند كل ما تقدم، تتضح الإشكالية الفلسفية التي نسعى إلى مقاربتها من خلال هذا الدرس، والتي يمكن تفريعها إلى التساؤلات التالية:



- كيف يمكن حصر الظاهرة اللغوية في الإنسان؟ ما الذي يجعله كائنا مفكرا ورامزا؟



- ما علاقة اللغة بالفكر؟ هل يمكن التفكير بدون كلمات؟



- هل اللغة منظومة قواعد ومبادئ تعمل باستقلال عن مؤسسات المجتمع وقيمه، أم أنها تحمل سلطة محايثة لها؟



1- اللغة خاصية إنسانية:



لقد حاول الفلاسفة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن تفسير وجود لغة عند الإنسان؟



يعتبر ديكارت* من المهتمين بالظاهرة اللغوية خصوصا وأنه حاول باستمرار اقامة الفروق بين الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يقترب من بعض النظريات العلمية، وبالخصوص نظريات التعلم التي بنت أسسها على تجارب بافلوف*. فقد أكدت دراسات ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوانات مجرد استجابات اتفعالية (رد فعل، استجابة شرطية) لمؤثرات (مثبرات) تسبب له لذة أو ألما، اكتسبتها نتيجة الدعم، فالصوت المشروط لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. ويرى ديكارت أن السبب في وجود لغة لدى الإنسان وانعدامها عند الحيوان هو العقل (الفكر).



"...مما يستحق الذكر أنه ليس من الناس... حتى دون أن نستثني البذهاء منهم، من لا يقدرون على تأليف كلمات مختلفة، وأن يركبوا منها كلاما به يجعلون أفكارهم مفهومة. وبالعكس، فليس من الحيوان آخر، مهما كان كاملا ومهما نشأ نشأة سعيدة، يستطيع أن يفعل ذلك."[8] فاللغة إذن ليست ظاهرة فسيولوجية، فالحيوان يتوفر على أعضاء الكلام، لكنه يفتقر إلى اللغة، في حين أن تعطل هذه الأعضاء عند الإنسان لا يمنعه من إنتاج لغة. كما يلاحظ ذلك عند الصم والبكم. لذا يصح القول بأن الحيوان لا يملك عقلا مطلقا، ومن ثمة فهو عاجزا عن التواصل.



وقد تعززت نظرية ديكارت هذه بتمثلات الدراسات اللسانية المعاصرة. حيث أكد بنفينست* بالرجوع إلى بعض التجارب التي أجريت على النحل، أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فيزيائية معينة، إلا أن هذا التواصل عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى، (غياب الإرسال المجدد). وموضوع الرسالة مرتبة دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية، في حين أن لغة الإنسان تعتمد على الفكر. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان، وأخر لغة النحل لا تقبل التحليل، نظرا لمحدودية مكوناتها، في حين أن اللغة البشرية توصف بأنها شبكة رمزية من التأليفات اللانهائية من الدلائل والمورفيمات والفونيمات.



من هنا تتضح الرؤية الفلسفية لكل من ديكارت وبنفنست، أن اللغة خاصية إنسانية. فكيف حاول كاسرير* مقاربة هذه الإشكالية؟



لم يعد الإنسان عند كاسرير مجرد حيوان ناطق بل أصبح في المحل الأول حيوانا خالقا للرموز، وأصبحت صفته هذه هي الدليل الوحيد على إنسانيته.



فإذا كانت الفلسفة النقدية، (مع كانط) قد عينت أساسا بنقد العقل، فإنه ترتب على ذلك أن أصبح العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان في ضوء هذه الفلسفة هو العقل.



ومن بعده ديكارت.



إلا أن كاسرير يرى بأن الجانب العقلي لا يمكن أن ترد إليه كل صور الحضارة الإنسانية، مترتب عن ذلك أن أصبح العقل فرعا واحدا من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع واحد يميز الإنسان ألا وهو القدرة على الرمز. وعلى هذا الأساس يرى كاسرير أنه بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا، فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا.



فالإنسان عنده لا يعيش في عالم حضاري، ولما كان العالم الحضاري يتكون من اللغة والأسطورة والفن والدين... وهو ما يمثل العالم الرمزي. فإن دراسة الإنسان تصبح قائمة على أساس دراسة هذه الرموز.



ولم يتوقف كاسيرر عند هذا الحد، بل زاد موقفه تحليلا، فأوضح أن لكل كيان عضوي (إنسان+حيوان) (بالاستناد إلى دراسة العالم يوكسل) جهازان: جهاز الاستقبال، وجهاز التأثير، كما يضيف جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره وهو الجهاز الرمزي.



يقول كاسيرر: "تبدأ فلسفة الأشكال الرمزية من فرض معين مضمونه أنه إذا كان هناك تعريف لطبيعة الإنسان أو جوهره. فإن هذا التعريف لا يفهم إلا باعتباره لا وظيفيا ولا ماديا، فنحن لا نستطيع أن نعرفه بإمكانية يحملها في ذاته أو غريزة تؤكدها الملاحظة التجريبية، عن الطابع المميز الأكبر للإنسان، أي علامته الفارقة ليس هو طبيعته الميتافيزيقية وإنما هو عمله، هذا العمل أعنى جهاز الفعاليات الإنسانية هو الذي يحدد دائرة الإنسانية، وتمثل اللغة والأسطورة والدين والفن والعلم قطاعات متنوعة من هذه الدائرة."[9]



من خلال هذا، نسنتنج أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان بواسطته أن يتمثل الواقع وكذا حاجة على التقيد به، واستحضاره في صورته وشكله الماديين، وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر. وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال وقطيعة؟



2 اللغة و الفكر:



إن العلاقة بين اللغة والفكر: الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، والأخرى تؤكد – على العكس- فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف برغسون Bergson، نجده يؤكد ان اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية، فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم، ومن ثمة يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.



إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس، فالعقل في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على انه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغماتية وميكانيكية، تلجا إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال، أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل، فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة يستطيع العقل أن يحق من خلالها عمله النفعي، ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير وعن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".



هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه، وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها الأطروحة الصوفية، فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك وشطحان المتصوفة (كقول الحلاج مثلا: "ما في الحبة إلا الله" أو قول البسطامي "سبحاني ما أعظم شأني" ، لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.



كما نجد أن عالم النفس الأمريكي واطسون حاول التأكيد من جهته على أن التعبير عن الفكر يحتاج إلى نضج في أعضاء النطق، وأن العادات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر) وأنه بواسطة التوليفات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر). وأنه بواسطة التوليفات العضلية تستطيع الإفصاح عن جميع الكلمات.



فإذا كان برغسون يؤكد أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، نجد أن ميرلوبونتي في مقابل ذلك يؤكد أن هناك ارتباطا بين اللغة والفكر ولا يمكن اعتبارهما في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة. خاصة منها أطروحة كرستيفا، أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية. حيث ترى جوليا كرستيفا Kristeva. أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا، فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة. أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول جوليا كريستيفا: "إن اللغة هي جسم الفكر".



إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الانفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية، فقد بينت – مثلا- الأبحاث العلمية التي أجريت عل ظاهرة الأفازيا Aphaiel أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي، كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كرستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل واحد، وفي نفس السياق شبه دي سوسير Desaussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه، الورقة وظهرها حيث قال: "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت أو فصل الفكر عن الصوت.



إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومتداخلة، ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة، فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التوصل في إطار من الشفافية والوضوح والتأمين أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية.



إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين المتكلمة، أو بتعبير آخر عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية، وقد حدد جاكبسون Jakobson، عوامل التواصل فيما يلي: المرسل: وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة.. المتلقي: (المرسل إليه)، وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة: وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي.. المرجع: (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة. روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة وأخيرا السنن Le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:



1- الوظيفة الانفعالية: وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان صادقا أو كاذبا.



2- الوظيفة التأثيرية: وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أحل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.



3- الوظيفة الاتصالية: وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.



4- وظيفة وصف اللغة للغة: وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وهذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرا..إلخ.



5- الوظيفة الشعرية: وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها.



إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال Kakobson، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية.



∙ 3 اللغة والسلطة



تعد اللغة ظاهرة معقدة، مما جعلها تطال ميادين مختلفة ومتعددة كميدان السلطة والفكر والإيديولوجية والمنطق ... إلخ، إذ كان من المعروف أن اللغة أداة سلطة وتسلط، لكن مع الدراسات اللغوية الحديثة تأكد أن للغة ذاتها سلطة على النفوس والعقول وأنها تتضمن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعين أن يمر أولا عبر سلطة اللغة ذاتها، خاصة في مجتمعنا المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تداهم الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة عبر أجهزة الإيديولوجيا والسلطة ذاتها.



لقد أصبح من المؤكد من خلال تصورات العديد من الفلاسفة أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والسلطة، حيث لا يمكن تصور لغة بدون سلطة أو سلطة بدون لغة، فإذا كانت اللغة فعل من أفعال السلطة حسب نيتشه ( 1844-1900) على اعتبار أنها تبقى أداة في يد الأقوياء والمهيمنين للتصنيف بين القيم (الخير/الشر، النبيل/الحقير...)، فإنها مع ج.غسدورف (1912-2000) تعمل على توجيه الإنسان ليندمج في التراتبية الاجتماعية، بحيث تفرض عليه الاستعمال الصحيح للكلمات داخل النظام الذي ينتمي إليه، وفي نفس الوقت تساعده على الخروج من ذاته والارتباط بالمحيط العائلي والانفتاح على العالم، فبسبب اللغة يضطر إلى التخلي عن حياته الداخلية والخاصة لمصلحة الوجود الاجتماعي الخارجي.



إن اللغة كذلك سلطة تشريعية وإلزامية قانونها اللسان، بفعل التكرار والاجترار الذي يطال الكلمات التي يتداولها الأفراد، إذ تحدد نطقنا وألفاظنا وتركيبنا اللغوي، لتصبح أداة للضغط ومعبرة عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع.



هكذا تكون اللغة في نظر رولان بارط تحت تأثير الطقوس والعادات وتحت ضغط الطابوهات وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله، أي أن الذات تتكلم في حدود ما يسمح به المجتمع. كما أن اللغة 3تحمل في ذاتها صيغة إلزامية تعمل على تأكيد وإثبات ما يجب أن ينطق به الفرد في إطار علاقته بين الأفراد في حدود ما تسمح به هي، ومن هنا لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.



وإذا كان دي سوسير يدرس موضوعة اللغة كموضوعة مستقلة، والفصل المطلق بين اللسانيات التي تقتصر على اللغة في باطنها وتلك التي تهتم بما هو خارج عنها، فإن بيير بورديو سيتوجه نحو دراسة اللغة في إطار مجالات استعمالها المتعددة والشروط الاجتماعية لاستخدام الكلمات.



وحسب يورديو تبقى دراسة دي سوسير حبيسة البحث عن قوة الكلمات وسلطتها داخل الكلمات ذاتها، أي حيث لا وجود لتلك القوة ولا مكان لتلك السلطة.



ليست سلطة الكلام إذن إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة، أي أن اللغة تستمد سلطتها من الخارج وترمز إلى سلطة وتمثلها وتظهرها، فأي خطاب مرتبط بسلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة للشخص الذي ينتج ذلك الخطاب، فالأسلوب العلائقي اللغوي الذي تتميز به لغة القساوسة أو الأساتذة وجميع المؤسسات راجع بالأساس إلى المقام الذي يحتلونه في إطار سباق وتنافس هؤلاء الذين أسندت إليهم بعض السلطات.



إن فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في ذات الوقت يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع، ومن ثمة فإن من فوض إليه أن يكون ناطقا باللسان، لا يؤثر عن طريق الكلمات ذاتها، بل يؤثر بالرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام ووكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة.



فالخطاب ينبغي أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بأن يلقيه، أي عن هذا الذي عرف واعترف له بأنه أهل لأن ينتج فئة معينة من الخطابات وأنه كفء جدير بذلك (كالقس والأستاذ والشاعر...)، كما ينبغي أن يلقى في مقام مشروع أي أمام الملتقى الشرعي فلا يمكننا مثلا أن نلقي قصيدة سريالية أمام مجلس حكومي.



خلاصة القول اللغة السلطوية ليست إلا الحد الأدنى للسان المشروع الذي لا يستمد سلطته من مجموع تغيرات النطق وكيفيات التلفظ التي تحدد النطق، ولا من تعقيد تراكيبه الصرفية وغناه



اللفظي، أي من خصائص الخطاب ذاته، وإنما من الشروط الاجتماعية للإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة بذلك اللسان المشروع والعمل على الاعتراف به داخل الطبقات الاجتماعية.



إن اللغة هي أخطر النعم كما قال هيدجر.



مراجع:



[1] - نصوص الفكر الإسلامي والفلسفة: السنة الثالثة ثانوي. 1989



[2] - لغة الكلام التي تختلف من مجتمع إلى آخر، إذ لكل مجتمع لغة أو لسان خاص به يميزه ويتحدد به الانتماء الثقافي والحضاري للأفراد (لغة عربية...)



[3] - تشكل لغة كونية يتفاهم بها جميع الناس تقريبا كالتواصل عن طريق الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.



[4] - فهي ترتبط بالجهاز العصبي وبأعضاء الكلام (اللسان، الحنجرة...) والإيماءات الجسدية.



[5] - هي مؤسسة اجتماعية تتمظهر على شكل نسق رمزي يوجد بين أفراد المجتمع الواحد.



[6] - هي أداة للتواصل، وبالتالي فهي خاصية مشتركة بين سائر أفراد النوع البشري.



[7] - هي وسيلة مشتركة بين الأفراد للتعبير عن ما يخالجهم وما يئج به محتوى الوعي.



P.Bourdieu, ce que parler vout dire, Faryad, 1982, P 13, 118.(8)



-(9) دفاتر فلسفية، نصوص مختارة، العدد 5، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2005، ص: 106، 111.



دروس فلسفيه لتلاميذ البكالوريا : الرغبة

محاور الدرس




1) الرغبة و الحاجة.



2) الرغبة و الإرادة.



3)الرغبة و السعادة.
مقـدمـة:




تحليل كلمة رغبة في لسان العرب لابن منظور له.لمعاني التالية:



- الرغبة: الحرص على الشيء والطمع فيه والرغبة (...) السؤال والطمع (...).



- رغب في الشيء رغبا ورغبة ... أراده (...).



- رغب عن الشيء، تركه متعمدا، وزهد فيه، لم يرده (...) يقال رغبت بفلان عن هذا الأمر إذا كرهته له[1] ...



وفي معجم روبير الفرنسي، تشير الرغبة إلى الميل في تحصيل شيء ما بغية تحقيق اللذة (...) [يقال] عبر أو أبدى رغبة أي مرادا، وأمنية (...) [يقال كذلك] الرغبة في النجاح بمعنى الطموح والإرادة والرغبة في المعرفة بمعنى الفضول.



لقد دلت الرغبة في دلالتها المعجمية، على الحرص والطمع في الشيء والإرادة، كما تحيل إلى الترك والزهد في الشيء، أو الطموح والفضول، إن تعدد هذه المفاهيم الدالة على الرغبة يؤكد التباس المفهوم وتشعب معانيه، أما الدلالة الفلسفية عند لالاند في معجمه الفلسفي فمضمونها أن الرغبة ميل عفوي Spontané واع نحو غاية معلومة أو متخيلة (..) وضدها النفور aversion.



يبدو من تعريف لالاند أنه قارن الرغبة بالوعي، وبالغاية التي تكون واضحة أو مضمرة، وأورد ضدها وهو النفور فالرغبة في أشياء لا تخلو من النفور من أشياء أخرى.



1- الرغبة والإرادة:



1) الرغبة جوهر إنساني:



لا شك أن الإنسان لغز أشكل على الإنسان ذاته في بحثه عن ماهيته، من هو؟ أهو الكائن الذي يمضي في الصباح على أربع وفي الظهيرة على اثنين وفي المساء على ثلاث؟ هل ينتهي، تعريفه عند هذا الحد الظاهري؟ أم أنه لغز أعمق وأبعد مدى؟



قد تجيب الفلسفة إنه الحيوان الذي يتجاوز الحيوان بعقله تارة ولغته واجتماعاته تارة أخرى، فهل العقل واللغة والمجتمع محددات كافية لإبراز جوهر هذا الكائن؟



‘ذا كان الجوهر هو الخاصية الثابتة في الشيء، وإذا كان من المستحيل تصور إنسان بدون رغبات، فهل تغدو الرغبة ماهية الذات الإنسانية؟



يلتبس مفهوم الرغبة Désir مع مفاهيم أخرى، مثل مفهوم الحاجة Besoin (كما أشرا سابقا) غير أن الرغبة والحاجة ليستا عبارتان منفصلتان كلية، إحداهما عن الأخرى، فهما قدرة يمتلكها كائن معين في الوجود فتتجلى على شكل غريزي صرف لدى الحيوان فتعرف –القدرة- بالحاجة أي تلك الضرورة البيولوجية (مثل الأكل، النوم، التناسل) والتي غايتها استمرار الكائن في الوجود، ولما كان الإنسان يشترك مع الحيوان في هذا المعطى الحاجي، فإنه يمتاز عنه بتلك الكيفية التي يلبي بها حاجاته وفق مجاله الاجتماعي والثقافي المتنوع والمتطور عبر التاريخ، فتكون الرغبة بذلك تحويل الحاجة إلى ميل مرتبط بموضوع يفتقده الإنسان في وضعه الحاضر ويريد الحصول عليه.



تغدر المسافة إذن بين الذات الراغبة وموضوع رغبتها عائقا يستلزم عنصر الوعي بصفته بعدا أساسيا في السلوك الإنساني، يعمل على تحديد وسائل كفيلة بتحقيق الرغبة، هذا يجعلنا نعتبر أن الإنسان كائن واع برغباته، التي تدفعه إلى تلبيتها، حتى وأن لم يعي تمام الوعي دوافعها الضمنية والمضمرة، واستنادا عليه يقر سبينوزا بأن الإنسان لا يسعى إلى شيء، لا يريده ولا يشتهيه، ولا يرغب فيه لكونه يعتقده شيئا طيبا، بل على العكس من ذلك يعتبره شيئا طيبا لكونه يسعى إليه ويشتهيه ويرغب فيه.



يظهر أن لكل فرد رغباته الخاصة به، مادام يسقط على الشيء المرغوب صفاتا ذاتية تجعله مرغوبا لديه، فهل هذا معناه أن الرغبة مشروطة بالوعي كوحدة لقيمة الشيء المرغوب؟



1) الرغبة والوعي: أية علاقة؟



يمكن القول بأن الرغبة والوعي متلازمان، فلكي يتجلى الوعي بصفته توجها نحو العالم الخارجي، ينبغي أن تحدد توجهه هذا رغبة ما.



لقد كتب ألكسندر كوجيف A.Kojève بأن الوعي بصفته وعي بالذات، في مؤلفه مدخل لقراءة هيجل ما مضمونه " إن وجود الإنسان ذاته، الوجود الواعي بذاته، يستلزم ويفترض الرغبة، بعبارة أخرى، لكي يكون هناك وعي بالذات ينبغي أن تكون هناك رغبة، ولكي تكون هناك رغبة ينبغي أن يكون هنالك وعي بالذات، وبالتالي فالرغبة والوعي بالذات ما هما إلا أشيء واحد".



إن الوعي بالذات هو وعي راغب يتوجه نحو الخارج ليعود إلى الذات، فالرغبة لا تتجلى في شكل ميل إل حفظ الذات فحسب، وبل وتأكيد لها كذلك.



إن الذات تسعى من جهة إلى التعرف عن ذاتها في الأشياء التي تمثل أمامها كموضوع، فتقوم بتحويلها عن طريق الشغل أو الفن ... ومن جهة أخرى تسعى إلى الاعتراف بها من لدن الآخر أي من وعي آخر، لكن هذا الاعتراف لا يمنح وإنما تتنازعه الذوات، من تعرفها على ذاتها إلى الاعتراف بها هو انتقال من مجال الحياة العضوية أي الوجود الطبيعي للإنسان إلى مجال الحياة المجتمعية.



إن وعي الذات بذاتها إذن يتحقق عبر/ بواسطة رغبة الاعتراف التي تحملها ذاتان متعارضتان كلاها ترغب في رغبة الأخرى، وهي مرحلة ضرورية في تطور الوعي ليصبح وعيا بالذات، حيث يعطي البشر معنى وقيمة لوجدهم وللعالم المحيط بهم.



وخلاصة ما عبر عنه هيجل نجد لها تعبيرا مكثفا لدى لاكان الذي يقر أن "... رغبة الإنسان تجد معناها في رغبة الآخر، لا لأن الآخر يحمل مفتاح موضوع الرغبة بل لأن أول موضوع للرغبة يجب أن يعترف به الآخر"[2] ... باختلاف بسيط إذن فهيجل جعل الرغبة والوعي متلازمان في حين سوف يجعل لاكان من عنصر اللاوعي عنصرا آخر بعيد النظر في الذات المسيطرة على سلوكها وأهوائها ورغباتها؟.



2) هل للذات سلطة على رغباتها؟



يتضح مما سبق، أن الوعي موجب ومقنن للرغبة، بوصفها ميلا واعيا تجاه موضوع معين، ولغاية معينة، فهل معنى ذلك أن الوعي متحكم في ميولاته ونزوعه أم أن هناك نزوعا وميولا لا يتحكم فيها؟ والمثال، في هذا الإطار أن الميل نحو شخص ما، قد لا تعي الذات دوافعه الحقيقية، ومن ثم تنفلت الرغبة من منطقة الوعي والإرادة، ذاك فعلا هو الخطاب الذي يوجهه التحليل النفسي إلى الذات [مخاطبا] "أنت تعتقدين أنك تعرفين كل ما يجري في نفسك، (...) بل إنك لتذهبين إلى حد الاعتقاد بأن ما هو نفسي مطابق لما هو شعوري، أي لما هو معروف من طرفك، وذلك رغم البراهين الواضحة على أن أشياء كثيرة تحدث في حياتك النفسية أكثر من تلك التي تتماثل إلى شعورك[3]"



لقد أظهرت مكتشفات التحليل النفسي أن الذات ليست سيدة مملكتها كما كان مترسخا في فلسفات الوعي، وقد تلبي رغبة دفينة في النفس وقفت العوائق الاجتماعية والثقافية حاجزا دون تحقيقها، عبر آليات العلم، فلتات اللسان، زلات القلم ...إلخ، وهذا ما أكده هو ما اعتبره سبينوزا عملا بالعلل الحقيقية للرغبة؟ أليس ذلك الجهل هو انعدام معرفة بخبايا النفس وأعماقها والتي سوف يضيف إليها اللاشعور إرضاءه هامة في تاريخ الفلسفة؟



تركيـب:



يتضح إذن أن الرغبة مكون بشري، أساسي يشكل ماهية الإنسان، بصفته ذاتا واعية، تطور وعيها ليصبح وعيا بالذات من خلال جدلية الأنا والآخر، وبصفته ذاتا لا واعية في جزء منها حيث تخرج الرغبة عن مجال السيطرة والتقنين.



2- الرغبة والحاجة:



1- الحاجة:



تحيل الحاجة على كل ما هو ضروري لبقاء الذات من مأكل وملبس ومسكن وغيره، أما الرغبة فتحيل على نزوع وميل الذات إلى كل ما يجلب لها اللذة والاستمتاع سواء أكانت هذه الذات تحتاجه عمليا وواقعيا أم لا، إذا كانت الحاجة تحيل إلى ما هو ضروري لبقاء الإنسان، فهل يمكن الاكتفاء بها فقط؟



إن البقاء الذي يضمنه تحقيق الحاجات الأساسية ليس إلا الحد الأدنى من الوجود والإنسان في هذا الجانب (البقاء) لا يتميز كثيرا عن باقي الكائنات الحية، بل إن هناك عددا من الكائنات الحية التي طورت استراتيجيات للبقاء تتفوق كثيرا عن تلك التي طورها الإنسان، فالسلاحف مثلا عمرت لملايين السنين ولا يبدو وافي الأفق القريب أنها ستنقرض!



إن الإنسان يشترك مع باقي الحيوانات في الاعتماد على إشباع الحاجات الأساسية (البيولوجية أساسا) لضمان البقاء، وإن كان يمتاز عنها بتعقد وتعدد حاجاته ما بين اجتماعية و"نفسية" وبيولوجية، فإن هذا الامتياز هو امتياز نوع، فكثير من الكائنات تميل إلى التجمع في شكل قطعان، ويحمي بعضها بعضا ويعتمد بعضها على بعض، بل إن منها من تملك تقسيما للعمل ( النحل، النمل) وهي في هذا تشترك مع الإنسان في نوع حاجاته لكن درجة تعقد الحاجات الإنسانية أكبر بكثير.



إذا سلمنا بأن الفروق بين الحاجات الإنسانية والحاجات الحيوانية هي فروق درجة لا فروق نوع، فإنه لا يمكننا التسليم بهذا فيما يخص الرغبات، فالرغبة هي خاصية إنسانية محضة.



الرغبة لا تحمل صفة الضرورة الحيوية، ولا يعتمد بقاء الإنسان على إشباعها بل إن إشباع بعضها قد يهدد هذا البقاء نفسه، لكن الإنسان يسعى جاهدا من أجل إشباعها، وهنا يكمن تميز الرغبة الإنسانية عن لحاجة الحيوانية، فالإنسان يرغب في أكثر مما يحتاج، وحياته هي مغامرة كبرى لتخطي سياج الضروريات فقط (عيش الكفاف) إلى فضاء الرغبات (عيش الكماليات)، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!



إن الحاجة هي ضرورة بقاء، أما الرغبة –مهما كان حكمنا عليها- فهي ضرورة تميز، وكلاهما ضروري لبقاء الإنسان المبدع.



2- تمايز الحاجة والرغبة.



اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما، فالرغبة تختلف في كثير من الصفات والخصائص عن الحاجة، وسنحاول في الأسطر التالية التدليل على صدق هذه الدعوى.



لا توجد دائما علاقة تلازم بين الحاجة والرغبة، فكثير من الحاجات تكون ملحة لكننا لا نرغب في تحقيقها (الحاجة للرياضة تكون ملحة عند البعض لكنه لا يرغب في مزاولتها)، وبالمقابل هناك الكثير من الرغبات التي تلح لإشباعها لكننا لا نحتاجها واقعيا (الرغبة في اقتناء ثياب جديدة رغم امتلاك ما يكفي منها).



الحاجة لها موضوع واحد شعوري ومحدد (الحاجة للأكل الحاجة للأمن)، أما الرغبة فمواضيعها غير محددة بدقة، وغالبا ما تكون لا شعورية، وذلك لأن الموضوع المعلن للرغبة لا يمثل دائما الموضوع الحقيقي بل مجرد تعويض عنه ( رغبة المراهق في دراجة فخمة قد لا تكون إلا تعويضا لرغبته بالظهور بمظهر الرجولة).



حاجات الإنسان محدودة وثابتة أما رغباته فغير محدودة وغير ثابتة، فالحاجات التي تضمن وضمنت بقاء الإنسان ظلت هي هي، أما رغبات الإنسان فغير محدودة وذلك أنه كلما تحققت رغبة إلا وتم السعي وراء رغبة أخرى مما يجعلها غير قابلة للإشباع المطلق (= الموت!).



يمكن إلغاء بعض الرغبات وتغيرها مع التقدم في السن وتغير المواقف واغتناء التجارب...، لكن لا يمكن إلغاء الحاجات الأساسية دون تعريض الوجود المادي للفرد للخطر.



إشباع بعض الرغبات قد يكون على حساب حاجات أخرى، وتحقيق حاجات معينة قد يخدم الإنسان من إشباع بعض رغباته (الرغبة في صوم التطوع يلغي (أو يؤجل) الحاجة للأكل، الحاجة للأمن وحفظ الذات .... الإنسان من المغامرة).



تحقيق الحاجات يضمن الحياة والبقاء، لكن تحقيق بعض الرغبات قد يهدد هذه الحياة نفسها (الرغبة في تسلق الجبال الوعرة).



الحاجات تكون في أغلبها مشتركة بين أفراد النوع الواحد (أو المجتمع الواحد)، أما الرغبات فتكون فردية أو مشتركة بين جماعات محدودة، فجميع أفراد النوع البشري يشتركون في الحاجة للأكل والأمن ... لكنهم يتمايزون في رغباتهم فالبعض قد يرغب في اقتناء سيارة في حين يرغب آخر في السفر، وحتى إن اشتركت جماعة معينة في نفس الرغبة، اقتناء سيارة مثلا، فإنهم يختلفون في تفصيل نوع عن آخر، فالرغبة هي مسألة فردية ولا يمكن لأحد أن يرغب بالنيابة عن الآخر، ولا أن يجعل الآخرين يشاركونه رغباته.



ونختم هذه السلسلة من التمايزات بين الحاجة والرغبة بالقول إن الحاجات تتسم بالانسجام والمعقولية، أما الرغبات فتتسم بالتغير السريع والتناقض أحيانا واللامعقولية أحيانا كثيرة، فنجد أن الفرد يغير رغباته بين لحظة وأخرى، ويرغب في الشيء ونقيضه (الرغبة بالبقاء مع الأهل) ونجد عند البعض كثيرا من الرغبات غير المعقولة، فمن الناس من يرغب في أن يكون له أجنحة، أو أن يرجع القهقرة في السن، أو يكون سوبرمان! ويمكننا الاستطراد أكثر في تعداد هي التمايزات والتدقيق في تفاصيلها، لكن فيما ذكرناه الكفاية، ولا بد من الإشارة إلى أن ما عددناه من صفات الرغبة لا ينطبق بالضرورة على جميع الرغبات، وإن كان يلزم ويشمل أغلبها.



3- من الحاجة إلى الرغبة:



لقد ادعينا في مستهل الفقرة السابقة أن الرغبة لا تتطابق مع الحاجة، ودللنا على هذه الدعوى بما يتصفان به من تمايز في الخصائص وما قد يعتريهما من تناقض في الغايات، وقلنا إن الرغبة خاصية إنسانية محضة وإن الحاجة صفة مشتركة بين كل الكائنات الحية، لكن، هل يعني هذا استحالة تواصل أو تكامل الحاجة والرغبة؟ أو بعبارة أدق ألا يمكن للحاجة أن تصبح رغبة؟



للإجابة عن هذا التساؤل سنستحضر المرجعية التحليلية ممثلة في المحللة النفسية النمساوية ميلاني كلاين.



تعتبر ميلاني كلاين من المحللين النفسيين الأوائل الذين حاولوا تطبيق آليات التحليل النفسي على الأطفال، وقد قادتها ملاحظتها للأطفال وتحليلها لذكريات الراشدين عن مرحلة طفولتهم إلى نتائج مهمة، فقد لاحظت أن الأطفال الرضع يرغبون دائما في تواجد الأم (الثدي) معهم سواء أكانوا جياعا أو لا، وقد استنتجت من ذلك أن الثدي يقوم بوظيفتين مزدوجتين الأولى هي إشباع الحاجة البيولوجية للأكل والثانية –وهي الأهم- تجنيب الطفل الخوف والقلق وتخليصه من دوافعه التدميرية وقلقه الاضطهادي، لقد تحول إشباع الحاجة البيولوجية إلى إشباع للرغبة النفسية وكل ذلك يتم بطريقة لا شعورية، وهذا يستدعي أن أي خلل يطال إشباع الحاجات البيولوجية سيكون له أثر على إشباع الرغبات النفسية المرتبطة بها.



لقد قلنا فيما سبق إن تحقيق الحاجات يضمن البقاء، وإشباع الرغبات يضمن التميز، والآن رأينا مع ميلاني كلاين أن الحاجة يمكن أن تتحول إلى رغبة، تلازم الحاجة والرغبة هو تلازم للبقاء مع التميز، وبعبارة أخرى إنه تحديد لمستقبل الإنسان بوصفه الموجود الوحيد المميز بالرغبات.



تقول ميلاني كلاين إن الطريقة التي يتم بها إشباع حاجات الرضيع إلى الثدي تترك أثرا عميقا على مستقبله وطبيعة شخصيته، ولكي نفهم هذه الفكرة بشكل أفضل لابد من استحضار فرضية أساسية تنص أن "الطفل أبو الرجل"، بمعنى أن ما يعيشه الفرد من خبرات وتجارب في طفولته سيكون لها أبلغ الأثر في تحديد ملامح شخصيته مستقبلا، فجميع سمات واضطراباتها التي تظهر في الكبر تجد نواتها في مرحلة الطفولة.



بل إن الفن والإبداع نفسه ما هو إلا إعلاء للدوافع والرغبات غير المشبعة، ولكن بشكل غير مباشر، فكمية الإحباط والتفريج الذي تسمح به الأم لطفلها هو المسؤول عن إذكاء نار البحث والتخيل وخلق البديل (جوهر الإبداع) عند الطفل المحبط إحباطا متوسطا، فالطفل الذي يرغب في الثدي ولا يناول إليه مباشرة تكون أمامه فرصة للإحساس بالرغبة وتعويضها بالتخيل والبديل (مص الأصبع) وعندما يناول الثدي تكون أمامه فرصة للربط بين الرغبة/ الحاجة والإشباع، مما يولد نفسه الثقة في نفسه والآخرين.



نستخلص مما سبق أن الرغبة تربط بالحاجة بربط لا تصوري يجعل إشباع الحاجات إشباعا لرغبات مرتبطة بها، هذا الرباط اللاشعوري هو المسؤول عن كثير من المفارقات والإشكاليات التي تثار عن علاقة الحاجة والرغبة.



4- من الفرد إلى المجتمع.



لقد تناولت ميلاني كلاين إشكالية الحاجة والرغبة من وجهة نظر فردية غير سوسيولوجية، وربطت الإبداع بالتسامي الذي هو في جوهره تحوير لإحباط طال رغبات فردية من "أم غير متفهمة"، وهذه الأطروحة في جوهرها تتناقض مع بعض الأطروحات السوسيولوجية والانتروبولوجية، فرالف لنتن مثلا يرب الرغبة والحاجة وكيفية إشباعها بما هو اجتماعي، ويصنف الحاجات إلى ثلاثة أنواع بيولوجية واجتماعية ونفسية وهي كلها خاضعة لما هو اجتماعي ومقولبة ضمن المجال الثقافي، ومنه فالمجتمع والثقافة يحددان شكل إشباع الحاجة وأنماط تصريفها.



لقد أشرنا فيما سبق إلى أن الثقافة والفن هي وليدة الرغبة الطامحة إلى تجاوز الحاجة، لكن مالينوفسكي يرى العكس، ويقول إن المجتمع وكل منتجاته هي نتاج لحاجات بيولوجية، فالحاجة إلى التناسل هي التي أدت إلى الزواج وليس العكس، ونضيف على نفس المنوال، أن الحاجة للأمن هي التي خلقت المنازل، والحاجة للراحة هي التي أنتجت الموسيقى.



إن إشباع الرغبات وتحديد موضوعاتها يخضع لمجموعة من الميكانيزمات النفسية والاجتماعية، هذه هي الخلاصة المبدئية التي يمكننا الخروج بها حتى الآن من خلال التركيب والتوفيق بين رأي ميلاني كلاين ورأي رالف لنتن، ولكن هل الرغبة تخضع فقط لما هو نفسي واجتماعي، أم أن هناك عوامل أخرى تتحكم فيها؟



لهذا التساؤل عدة إجابات مختلفة أولها هي إجابة أفلاطون، فهذا الأخير يجعل من الرغبة شهوة لا عاقلة ويجب إخضاعها للعقل والإرادة والتدبر، أما الإجابة الثانية الممكنة فهي إجابة شوبنهور الذي يجعل من العقل مجرد خادم للرغبة، فهو يستعمل جميع الوسائل والتبريرات (أفكار، منطق...) لإشباع الرغبة...



خلاصة تركيبية:



إذا تأملنا في كل ما سبق سنجد أن العلاقة بين الحاجة والرغبة هي علاقة جد متداخلة ومعقدة تعقد الإنسان نفسه، فهما يتكاملان ويتناقضان ويتمايزان أحيانا أخرى.



وإذا سلمنا بكون الرغبة هي أحد أوجه التميز الإنساني فإنه من الصعوبة بمكان تحديد مصدر هذه الرغبة والعوامل المتحكمة فيها، هل هي نفسية أم اجتماعية أم عقلية؟ وإذا كنا نؤمن بتكامل المعارف وتعقد الظاهرة الإنسانية فإنه لا يمكننا التضحية بأي بعد من الأبعاد التي يمكن أن تتدخل في تشكيل الرغبة دون أن نضحي بالفهم المتكامل للإنسان.



3- الرغبة والسعادة:



① محاولة تعريف السعادة:



يختلف الناس في تمثلهم للسعادة، بين من يقصرها على حسن العيش، من حياة مرفهة، وامتلاك للأموال والثروات، وتلبية كاملة للرغبات، وتشيع لها، وتحقيق للذة والمتعة في مختلف أشكالها وتجلياتها، وهناك من يقصرها على حسن السيرة من حياة كريمة ومعتدلة ومنسجمة، وقد نجد الاختلاف بين الأفراد، فالمريض يرى السعادة في الصحة، والفقير يراها في المال، والوحيد يراها في الأنس والصداقة.



يظهر إذن أن التمثل الاجتماعي يهيمن عليه المعنى المادي، الذي يقترن بإرضاء رغبات وشهوات الجسد، والاستمتاع باللذة والرغبة بكل أشكالها.



وفي لسان العرب نجد: سعد، السعد، بمعنى اليمن والخير، وسعد سعدا فهو سعيد، وسعد فهو مسعود، وهو نقيض النحس والشقاوة، ويكتسب اليمن أي الخير دلالتين: الأولى تشير إلى ما هو مادي محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع، أما الدلالة الثانية، فتشير إلى ما هو عقلي، وتتمثل في التدبير.



تتحدد السعادة من الوجهة الفلسفية العامة كحالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للذات، يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن اللذة للحظيتها، وعن الفرح لحركيته، ويبدو من هذا أن المسألة الفلسفية تتحدد عبر مستويين:



مستوى كيفي يتعلق بالطبيعة النظرية والماهوية للسعادة، هل هي مادية ترتبط بكل ما يحقق الإرضاء المادي من رغبات، وامتلاك للخيرات والصحة والنفوذ.



مستوى مجرد يتعلق بكل ما يحقق اللذة العقلية، من معرفة وعلم، أم أنها تتجاوز هذا وذاك لترتبط باللذة الروحية والوجدانية.



② هل السعادة إرضاء لرغبات البدن، أم لرغبات لعقل أم لرغبات القلب؟



لقد عمل المفكرون المسلمون الذين بحثوا في موضوع السعادة على تأكيد شيئين: أولا ضبط مفهوم اللذة بالتمييز فيه بين اللذة العقلية والجسدية، والمفاضلة بينهما، حيث أن اللذة العقلية أي الرغبات العقلية من المعرفة والفكر أرقى شأنا، وأعلى مرتبة من اللذة البدنية، والتي تظل عندهم محتقرة، وهذه المفاضلة نجد جذورها في النسق الفلسفي الأفلاطوني –الأرسطي، الذي يمجد العقل ويرى أن العقل أسمى منزلة من الرغبة والشهوة، حيث أن الرغبات الحسية مرتبطة بعالم الكون والفساد، في حين أن الرغبات العقلية مرتبطة بعالم متعالي دائم لا يلحقه الفساد والتغير، وانطلاقا من هذا كله، فإن سعادة الإنسان لا ترتبط بمدى إرضائه لملذاته الحسية، وذلك لاعتبارات كثيرة منها: أن اللذة البدنية يشارك فيها الإنسان جميع الحيوانات كرغبات الأكل والشرب.



لقد عمل ابن مسكويه على مهاجمة أولئك الأبيقوريون –يقصد هنا الفلسفة الابيقورية التي جعلت اللذة في منزلة الحكمة، وكذلك كل من يدافع على كون السعادة هي اللذة –الذين يحصلون السعادة في الرغبات البدنية، فاعتبرهم من العامة الرعاع، وجهال الناس السقاط، وفي هذا الصدد يقول ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" <... وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات، والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة، إنما وهيت له ليرتب بها الأفعال ويميزها، ثم يوجهها نحو هذه اللذات، لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية الجسمانية، وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع، وجهال الناس والسقاط ... وسيظهر عند ذلك أن من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية ... فقد رضي بأخس أنواع العبودية، ... لأنه يصير نفسه الكريمة عبدا للنفس الدنيئة، التي يناسب بها الخنازير، والخنافس والديدان، وخسائس الحيوانات التي تشاركه في هذا المجال>.



نستنتج من هذا الكلام أن الرغبة في تحقيق وإشباع اللذات والشهوات الحسية، تؤدي إلى جعل النفس أسيرة الشهوات، لا تستطيع أن تكسر هذه القيود الحسية، فقوى الجسم من العقل والبصر والسمع والحركة، وغيرها من القوى الأخرى، جعلت في الجسم لا من أجل تحقيق الشهوات والملذات، وإنما من أجل السمو باللذة العقلية، فلا فرق بين طالب اللذات لبدنية بينه، وبين خسائس الحيوانات والأرض، كالخنازير والخنافس، والديدان، ولأن الابيقوريون جعلوا النفس الشريفة كالعبد الممتهن، وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية لتخدمها في المآكل والمشارب، ولأن الجسد لا يمكنه بأية حال أن يكون داعيا إلى الفضيلة، فإن الداعين إلى السعادة إستنادا إلى الجسد ظلوا عند مستوى البهيمية، ومن هنا فلا عجب أن نجد ابن مسكويه يشرف اللذة العقلية، باعتبارها رغبات إنسانية من نوع آخر، ويعلي شأنها إلى درجة لقداسة أحيانا، فهي لذة تامة وشريفة ولا تمل.



إن تفضيل اللذة العقلية سيجعل من السعادة خيرا على الإطلاق، لأننا نطلبها لذاتها كغاية، ونؤثرها لذاتها لا لشيء آخر غيرها.



إن التصور عند الفلاسفة المسلمين في مسألة الرغبة والسعادة، يعود إلى نظرتهم إلى الإنسان من خلال الثنائية (نفس/ جسد)، فتم تمجيد النفس والعقل، واحتقار الجسد والمادة، بل وجعلوا تحقيق السعادة خاصة، والفضيلة عامة، رهينا بمدى تجاوز عوائق البدن وتطهير النفس من الرذائل والشهوات الرديئة، والنزوات الفاحشة التي قد تعلق بها، فبقدر ما تلتبس النفس بالبدن وتتدنس بملذاته بقدر ما يبتعد الإنسان عن قبول الفضائل، وينخرط بالتالي في الشقاء والشر، وفي هذا السياق جعل مسكويه من مسألة معرفة النفس وإثبات وجودها، ومباينتها للجسد، المسلك الضروري لتحصيل السعادة خاصة وتهذيب الأخلاق عامة، فالجسد حسب إبن مسكويه مرادف للرغبة، والرغبة توحي إلى تحقيق اللذة الحسية، وبالتالي عدم سمو الإنسان إلى مرتبة مقدسة، ويضيف أيضا أن فضيلة النفس تكمن في التشوق إلى العلوم و المعارف، وبحسب إلحاح الإنسان وإصراره على طلبها تكون سعادته، إن تميز الإنسان بالعقل، هو ما يجعله يباين البهائم، ولا تكون السعادة لغير الناطقين، وجعل أشرف الناس وأسعدهم من كان له عقلا يتشوق به إلى العلوم والمعارف، وكانت الحكمة أسمى تجليات العقل البشري المتشوق، لزم بالتالي أن تكون الحكمة سبيلا إلى السعادة التامة و طريقا لتحصيلها،وكذلك بممارسة العقل والتأمل في الذات، وفي الموجودات، فتكون بذلك السعادة تأملية تتحقق بالإدراك العقلي، وهكذا سيحصل الفرابي السعادة، في الاتصال العقلي بين العالم السفلي والعلوي، ويقصى كل الرغبات والشهوات والملذات الجسدية، واعتبارها سبيلا غير موصلة للسعادة الحقيقية.[4]







[1] -ابن منظور: " لسان العرب" المجلد الأول، دار صادر بيروتـ الطبعة الثالثة، 1994 (ص: 422-423).



[2] - تحرير جون ستروك، البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا، ترجمة محمد عصفور. ص: 183/184، عالم المعرفة العدد 206.



[3] -محمد سيلا، عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة الحديثة نضول إفريقيا الشرق، 2001، ص: 100.



[4] -مقرر الفلسفة: الفكر الإسلامي والفلسفة، السنة الثالثة الثانوية، الشعبة الأدبية، دار النشر المعرفة، طبعة 1996-1997.




دروس في الفلسفه لتلاميذ البكالوريا:الوعي و اللاوعي

محاور الدرس




1) مشكلة الوعي



2) الوعي و اللاوعي



3) الإيديولوجيا و الوهم

- طرح الإشكالية: مشكل الوعي




تختلف مدلولات الوعي من مجال إلى آخر, ومن فيلسوف إلى آخر فمنهم من يقرنه باليقظة في مقابل في مقابل الغيبوبة أو النوم. و منهم من يقرنه بالشعور فيشير إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. ويمكن أن نجمل الدلالة العامة للوعي فيما يلي: ــ إنه ممارسة نشاط معين ( فكري, تخيلي, يدوي...الخ), و واعين في ذات الوقت بممارستنا له. و من ثمة يمكن تصنيف الوعي إلى أربعة أصناف وهي:



-1- الوعي العفوي التلقائي: إنه ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساس قيامنا بنشاط معين, دون أن يتطلب منا مجهودا ذهنيا كبيرا, بحيث لا يمنعنا من مزاولة أي نشاط آخر.



-2- الوعي التأملي: إنه وعي يتطلب حضورا ذهنيا قويا مرتكزا في ذلك على قدرات عقلية كلية, كالذكاء, أو الإدراك,أو الذاكرة.



-3- الوعي الحدسي: وهو الوعي المباشر و الفجائي الذي يجعلنا ندرك الأشياء أو العلاقات, أو المعرفة, دون أن نكون قادرين على الإدلاء بدليل أو استدلال.



-4- الوعي المعياري الأخلاقي:وهو الذي يسمح لنا بإصدار أحكام قيمة على الأشياء و السلوكات فنرفضهما أو نقبلهما بناءا على قناعات أخلاقية, وغالبا ما يرتبط هذا الوعي بمدى شعورنا بالمسؤولية اتجاه أنفسنا و اتجاه الآخرين.







و بالتالي فالوعي هو إدراكنا للواقع و الأشياء, إذ بدونه يستحيل معرفة أي شيء.لذلك يمكن تعريف الوعي بأنه « الحدس الحاصل للفكر بخصوص حالاته و أفعاله». فهو بمثابة "النور" الذي يكشف الذات عن بواطنها. أما اللاوعي فهو يدل إلى حد ما على الشيء والمتقابل مع الوعي. و هنا يمكن الحديث عن اللاشعور, باعتبار السلوك اللاواعي أو الذي يصبح لا واعيا, واقعة نفسية.



انطلاقا من هذا التصنيف الدلالي لمفهوم الوعي يمكن أن نتساءل عن:



- ما هو الوعي؟ 2- ما شكل هذا الوعي ؟ هل هو وعي بسيط و مباشر؟ أم غير ذلك؟ ما مضمونه الأول؟ ماذا أدرك في فعل الوعي على وجه الدقة و التحديد؟ ثم ما علاقة الوعي باللاوعي؟ و هل يكفي أن نكون على وعي لمعرفة أنفسنا؟ هل الوعي هو أساس حياتنا الواقعية؟ أو الوهم هو الأصل؟.







. - I- مشكل الوعي



لقد تحدث برتراند رسل عن الوعي و ربـطـه بالمــدركات الــحــســيــةأو الخبرات الحسية حيث أكد على ضرورة عدم فصله (أي الوعي) عن مثيرات العالم الخارجي .فهو عبارة عن ردود أفعال اتجاه وسطه,هذا يعني أن الوعي مجرد طاقة ذات درجة خاصة و غير مستقلة و لكنه يميز الإنسان عن الجمادات كالحجارة و الأشياء و من ثم فإن رسل يؤكد على حالة اليقظة و ليس حالة النوم أي أنه غير مستمر في الزمن . كذلك الإنتباه و مراعاة عامل اللغة مع إدخال تغيرات عليها,لأن اللغة في نظر رسل جهاز و نظام غير منسق, و هنا نجده يميز بين نوعين من اللغة : لغة مرشدة,تمكن من فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه.ثانيا :اللغة أداة مظللة وخداعة للتفكير,و من ثمة فإن كثيرا من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها ظلوا و أظلوا. هذا يعني أن للغة تأثير على الفلسفة و يتجلى في تناول القضايا الأخلاقية أو الميتلفيزيقية كالجوهر و الأخلاق, و الكرامة و الخير... إن اعتماد رسل على التحليل المنطقي يؤسس تمييزه للغة بناءا على مظهرين مختلفين و هما مجموع مفرداتها من جهة و تركيبها و بنائها من جهة أخرى.



إن الإنسان الكائن الواعي بذاته عند رسل يعني أمرين هما : دخول هذا الإنسان في علاقة على نحو الجهاد مع العالم الخارجي , و اكتشافه لذاته و لأفكاره و لعواطفه أي أن هناك امتحان للإنسان بإدراك وجوده الذاتي.و هنا يكمن مفهوم الوعي عند رسل و يتجلى و يذكرنا هذا الموقف بموقف جورج باركلي و الذي يرى أن الإدراك لايتعدى معرفة التصورات المعرفية المجردة أما عندما ندرك معطيات العالم الخارجي فإننا نكون حسب رسل فقط في مجال ردود الفعل اتجاه العالم , ونشترك في هذه الخاصية مع الجمادات. هذا يدل على أن الوعي لا يتحدد عند مستوى إدراك العالم الخارجي ,بل هو فقط رد فعل على النحو الذي تِؤذيه الحجارة و الجمادات عموما .



و هنا يقول:‹ فمادمنا نفترض أننا ندرك أشياء العالم الخارجي...قليلا جدا.› و لتوضيح هذه الفكرة يرى رسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا, و أن لها وجودا واقعيا ملموسا. ويتفق معه لوك في أننا لا ندرك من الواقع و العالم إلا بقدر ما تمدنا حواسنا به من معطيات حسية. هذا و يؤكد رسل على المعرفة القائمة على التجربة و على الحواس و على إدراك الكليات إدراكا فوريا و مباشرا و هو في نفس الوقت يؤكد على التمييز بين الذات الواعية و الموضوع, وعلى سبيل المثال لا الحصر إننا لا ندرك مدينة الرباط و مراكش إدراكا جزئيا , بل إننا ندركهما في إطار العلاقة الخارجية القائمة بينهما , و هذه العلاقة ليست من طبيعة نفسية صادرة عن الذات العارفة , و لكنها مستقلة عنها, تنشأ بطبيعتها في معزل عن فعل المعرفة في حد ذاتها.



مما سبق يتبين لنا أن الجزء الأساسي من مفهوم الوعي مرتبط بمدى إدراكنا للوجود الذاتي فنكتشفه من أفكار و عواطف فينا. و تحصل هذه العملية بواسطة الاستبطان , مما يدل على أن الاستبطان منهج يسمح و يمكن من ولوج العالم الداخلي في الإنسان, وفهم علاقة الذات الواعية بمحيطها الخارجي, أي أنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بشيء من بين أشياء العالم و الجمادات بل بذات لها طبيعتها الخاصة بها . و من ثمة فالشرط الأساسي لقيام الوعي و كل معرفة حسب رسل هو إدراك الوجود الذاتي للإنسان عن طريق الاستبطان.لأن الوعي ميزة خاصة بالإنسان , وليست فقط مجرد رد فعل اتجاه العالم الخارجي أو أنه فقط إدراك حسي له . فرغم أن رسل ينتمي للاتجاه الواقعي و يؤمن بدور الحواس و التجربة في غناء الوعي الإنساني بكل ضروب القوانين الطبيعية, فنجد فلسفته تضرب بجذورها عند الأفلاطونية و المثالية. و قد دفعه موقفه هذا إلى اعتبار الفلسفة علما استبطانيا, يمكن أن يستغني عن التجربة الحسية , فتصبح علما منطقيا تعتمد الرياضيات منهجية في التحليل ولهذا تسمى فلسفته بالفلسفة التحليلية.



بعد هذا السجال الفكري حول تعريف و ضبط مفهوم الوعي يؤكد رسل عل صعوبة تحديد دلالاته و معرف ما يمكن أن يصل إليه من حقائق, والوعي في هذا المستوى يطرح كلفظ غامض يحتاج إلى الكثير من التوضيح, فإذا كان رسل يجمع بين لفظ الوعي و حالة اليقظة متجاهلا حالة النوم ,فإن برجسون يتجاوز هذا الطرح ليؤكد على صيرورة الوعي في الزمن , ليشير به إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية.فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه غير ملموس يرفض أن يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي , حيث أنه دائم الحضور في حياة كل إنسان ,لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية مرتبة بشيء ما, أو موقف معين, بحيث تتدفق و تنساب عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته. إنه إدراك الذات وللأشياء في ديمومتها و استمراريتها.أما تعريف الوعي بشكل واضح و نهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى إبراز بعض من سماته ومظاهره هي : - الوعي ذاكرة , و شرط قيام و حصول الذاكرة التي تحفظ ماضي الإنسان في الحاضر, و هو أيضا قدرة على تجاوز الحاضر عقليا وتمثل صورة المستقبل.



فالإنسان الذي لا ذاكرة لديه لاوعي له, لذلك فشرط وجود الوعي هو وجود الذاكرة و استقراره بها ,ليصبح انفتاحا على الحاضر و الماضي و المستقبل.فعندما نفكر في أي لحظة معينة فإننا نجد هذا الفكر يهتم بالحاضر و بما هو كائن, لكن من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل و هذا يعني أنه لا يوجد وعي عند برجسون دون مراعاة حياة المستقبل فالمستقبل هو الذي يجعل الفكر يتقدم باستمرار دون انقطاع في الزمن و يجره إليه . و هو «أيضا دافع ...المستقبل». لفهم طرح برجسون بصدد تعريف مفهوم الوعي نستحضر أنه ينتمي إلى فلسفة الحياة والصيرورة و الحركة, و نؤكد على مجالين هامين في فلسفته عموما : مجال المادة المتميزة الصلبة, و مجال الحياة و الوعي المتواصل , و هذا يقع في نطاق الحدس فعن طريقه يمكن إثبات الحقيقة متجسدة في الصيرورة و ليست مجرد الحياة والوعي.



- أما إبن رشد فإنه بدوره يتناول مفهوم الوعي في علاقته بالعالم الخارجي ويطرح السؤال: هل الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟.



يرى ابن رشد على نحو معلمه أرسطو أن الإدراك الحسي شرط أولي و أساسي لقيام كل معرفة ووعي بموضوعات العالم الخارجي على خلاف رسل الذي يعتمد منهج الاستبطان بدل منهج الاستقراء في إدراك العالم الداخلي , وه شرط قيام الوعي لدى رسل , ويعبر هذا الرأي على الموقف الطبيعي للإنسان , الذي يقوم على نطاق الوعي مع الواقع. هذا يعني أن هناك تشابه تام بين الشيء في واقعيته و الشيء كما هو مدرك.لأننا لا ندفع الوعي إلى التحليل أو النقد, بل فقط يقوم باستقراء الواقع بكل جواهره و أشياءه عن طريق الوصف و التعميم و الترتيب...الخ , و لكن هل الإدراك الحسي بالمعنى الذي تقدم به ابن رشد و معلمه أرسطو هو الشرط الكافي و الأولى لقيام كل معرفة و كل وعي بموضوعات العالم الخارجي؟.



هنا سنوجه السؤال للفيلسوف الوجودي الفرنسي :ميرلوبونتي صاحب فينومينولوجيا الإدراك الحسي , التي تجعل من الإنسان الموضوع الأوللكل دراسة .إنه ينطلق من هذه



الفينومينولوجيا ليصل إلى فينومينولوجيا الوعي و الخبرة لأجل الكشف عن الطابع المفتوح للخبرة البشرية بصفة عامة. و يقصد بالإدراك الحسي تلك العودة إلى الأشياء و الرجوع إلى المعرفة الأوليةعن كل علم من أجل الوصف وليس من أجل التركيب .و يتساءل : هل تعني العالم الخارجي؟ ويقول إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية, إن هذه الذات ليست لها القدرة على تملكه. و لكنه الوسط الطبيعي أو المجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم و جل أفكارنا.



إن الوعي الإنساني حسب ميرلوبونتي يدخل في علاقة مشاركة مع العالم الخارجي, فيه تتحقق الإدراكات الحسية التي يمكن اعتبارها شرط أساسي لقيام الوعي بهذا العالم.







II -الــــوعـي واللاوعـي:







لمعرفة الحياة النفسية والعلاقة التي تحكم الوعي بالذات و العالم الخارجي , سيكون هذا الدرس عبارة عن تحديد و معرفة أصل الحياة النفسية و الكشف عن تدخل الوعي أو اللاوعي في تحديد وجود الذات. ثم الخلاصة إلى طبيعة انتاجات كل واحد منها.لهذا ننطلق من فرضية اللاشعور أو لنقل التحليل النفسي كنظرية عند فرويد, باعتبار اللاشعور يشكل مفهوما مركزيا يبنى عليه التحليل النفسي .إلا أنه يجب الإشارة إلى أن أعمال فرويد تشكل إلى جانب أعمال كل من ماركس و نيتشه تدشينا لمرحلة الشك في الوعي الإنساني. إن تراجع فرويد عن إعطاء الأهمية في التحليل للوعي أي الشعور, يفترض في المقابل وجود مفهوم اللاشعور كأساس و أصل للحياة.ليتخلى بعد ذلك عن هذين المفهومين لصالح مفهوم آخر هو مفهوم الجهاز النفسي المكون من ثلاث مناطق وهي: الـــــهـو, الأنـــا, الأنـــا الأعـلــــى. ونجد عبد الله العروي في مؤلفه ( العرب و الفكر التاريخي) يصنف ضمن الاتجاهات التي نقدت مفهوم الوعي و عقلية القرن 19 و بقول إن نظرية فرويد بدأت كمحاولة علمية عقلانية لإدخال اللاوعي في نطاق الوعي, و أن هذا الأخير يعلن لنا عن حقائق سابقة لنشأة الإنسان و المجتمع و اللغة , و أن منطق الميول و الرغبة هو منطق كوني أوسع بكثير من منطق العقل الإنساني المحدود. و نتساءل الآن ما هي مكونات الوجود النفسي عند فرويد؟ و كيف تتحدد الحياة النفسية لديه بناء على فرضية اللاشعور؟ و ما موقف فلسفات الوعي من هذا التصور؟



إذا كان ديكارت (1596-1650) قد مارس تأثيرا كبيرا على الفكر الغربي, وذلك من خلال جعل الحياة النفسية تطابق الشعور أو الوعي مطابقة تامة, مهملا بذلك الجانب اللاشعوري, و بالرغم من أن ليبنتز(1646-1716) قد انتبه إلى الحوادث اللاشعورية, فإننا نجد فرويد يدافع عن الطابع العلمي لاكتشافاته و يؤكد على فرضية وجود الجهاز النفسي "إنه ممتد في المكان , و مركب تركيبا مناسبا , و يتصور وفقا لمقتضيات الحياة و لا تبدو فيه ظواهر الشعور إلا عند نقط خاصة, و ظروف معينة."(الموجز في التحليل النفسي) .



يـــــــرى فرويد أن ما يمر بنا من خبرات حسية و ذهنية و انفعالية يسجله العقل بصورة ما و تكون ذاكرتنا أو حافظتنا بمثابة الأرشيف الذي نضع فيه تلك السجلات, فمن السجلات ما يكون ماثلا أمامنا في الشعور , ومنها ما نستطيع أن نبحث عنه فنستخرجه من بعض الخزائن ( في ما قبل الشعور)وطبقا لفرويد تتألف الشخصية الانسانية من انظمة رئيسة متعددة كالشعور وقبل الشعور واللاشعور وفي هذه الانظمة تركيبات ضمنية اخرى تقوم عليها الدينامية المشتركة للعمل . وبكلمة مبسطة يستعمل "الشعور" بمعنى مطابق للمعنى المستعمل في الحياة اليومية ، فهو يشمل كل الاحساسات والتجارب والفعاليات التي نكون واعين بها في أي لحظة . ويرى فرويد أن نظام الشعور يمثل فقط سطح الحياة العقلية ، وهو جزء بسيط إذا ما قورن باللاشعور . وهذا النظام يسير وفق المنطق والمألوف وما هو متعارف عليه ، وهو امر مقته السرياليون وتمردوا عليه.



وتشير مفهومة "قبل الشعور" إلى نظام يقع بين الشعور واللاشعور ، وتقع تحت طائلته نوعين من الافكار الاولى : سهلة التفطن مثل الذكريات التي لا ترتبط بالأم نفسه ، وهذه المحتويات تخضع لنظام "رقابة لينة" تحيل دون اختلاطها بعالم الشعور . النوع الثاني : افكار عسرة التفطن – لها علاقة ما باللاشعور - ، وربما تحمل شيئا من التجارب المؤلمة وهذه تخضع "لرقابة اكثر شدة" . وهي بكل احوالها محتويات لم تصل إلى مستوى "الكبت" في اللاشعور ، وتستدعى الافكار والذكريات من نظام قبل الشعور لكي تعين الشخص على التكيف في موقف يواجهه النظام الاخر والذي يمثل الامتداد الاوسع والاكثر عمقا واهمية عند فرويد والسرياليين هو نظام "اللاشعور" ، وهو تركيبة من المواد النفسية المختلفة التي لا تكون تحت تصرف الشعور مباشرة ، والتي يتألف قسم منها من حوادث "كبتت" الانفعالات المصاحبة لها من فترات طويلة ، وهي بجملتها خليط من الاحاسيس والتجارب المؤلمة والافكار والدوافع والرغبات المتطرفة المخالفة للجماعة ، والمستبعدة لاشعوريا من نظام الشعور إلى نظام اللاشعور . وطبقا لفرويد تبقى تلك المحتويات اللاشعورية حية لا تموت ، بل تظل نشطة تعمل على الوصول إلى نظام الشعور ، الا أن قوى الرقابة المشددة في الشخصية تحيل دون ذلك ، فتضطر هذه المواد المكبوتة أن تلتمس التعبير عن نفسها بطرق غير مباشرة "دون علم الرقيب" من خلال الحركات والافعال القسرية أو الاحلام والتخيلات وفلتات اللسان ، وزلات القلم، وما إلى ذلك . لذا يكون اللاشعور مؤثرا تاثيرا كبيرا في سلوك الفرد ومزاجه ويكون باستطاعته أن يغير افكار الفرد وعواطفه تغيرا واسعا دون أن يكون الفرد على علم بذلك ، (. د احتلت مفاهيم الشعور وقبل الشعور واللاشعور التي طرحها فرويد في كتابه "تفسير الاحلام" 1900 مكان الصدارة في نظريته حتى عام 1920 عندما قدم طروحات اعمق تفسيرا واكثر تعقيدا ومداخلة وهي "الهو ID والانا Ego والانا الاعلى super Ego " . طبقا لفرويد يمثل الـ "هو" القسم الاقدم الذي يحتوي على كل ما هو موروث من ميلاد الفرد حتى لحظة حاضره ، وهو مخزن الطاقة النفسية ، وتجري اغلب عملياته على مستوى اللاشعور ، ويعمل الهو على خفض التوتر وفق مبدا "اللذة" .



ويشير "الانا" إلى تنظيم معقد للعمليات النفسية ، يؤدي عمله وسيطا بين الهو بكامل اندفاعاته الغريزية والانا الاعلى بكل متطلباته الاجتماعية المثالية ويوفر انجاز الانا لوظائفه الاتزان للفرد ، والشيء المهم في عالم الانا أن التحكم هنا يخضع لمبدا "الواقع" أي ما هو موجود ، وممكن بالفعل وهدف هذا المبدا تصريف الطاقة لحين اكتشاف الموضوع الذي يرضي الحاجة ، فهو يعلق مبدأ اللذة مؤقتا ، من اجل مبدا الواقع .



اما "الانا الاعلى" فهو الممثل الداخلي للقيم التقليدية للمجتمع المحددة لكل ماهو واجب وينبغي أن يكون ، وبصيغة مثالية "الانا المثالي" ، وكل ما لا يجب ولا ينبغي أن يحدث وبصورة متطرفة "الضمير" وبذلك تمثل محتوياته كل ما هو مثالي وليس واقعي . فهو يشبه الهو من حيث أنه غير منطقي ، ويشبه الأنا في محاولته التحكم بالغرائز إلا أنه هنا يذهب ابعد من هذا في أنه لا يحاول فقط إرجاء الإشباع الغريزي بل الحيلولة دونه، وهكذا تؤكد نظرية فرويد أن الإنسان تركيب دائم الصراع بين أنظمته الشخصية وان القسم الأعظم من الحياة مغمور مبهم, لا منطقي غير محدد خاماته كتلة من الاحباطات والعقد والتجارب المكبوتة ، والغرائز المندفعة والمثل الاخلاقية المتطرفة المتراكمة على مر البعد الزماني الماضي للفرد .



إن تأكيد فرويد على ذلك العالم الغامض فينا ، وما ينطوي عليه من حقائق تمثل الشكل الاوضح لصورة الإنسان الحقيقي لغرابة أعماق عوالم اللاشعور وطاقاته المتأججة وراء هدف محاولة "إدراك" بعض الأبعاد والخواص في كينونتهم المغمورة وإنارة ما يمكن إنارته من الأماكن الخفية والتجوال في عالم غريزتي الموت "ثاناتوس" والحياة "ايروس" لإظهار معالم الإنسان الحقيقة وتسجليها في الفكر والأدب والفن على نحو حر والعالم الآخر الذي ولع السرياليون به واعتبروه منهلا مثمرا لمادتهم الأدبية هو الأحلام ، وذلك أمر آخر كان من أولويات اهتمام فرويد ، وصف فرويد الحلم باعتباره احد أهم الحيل التي تلجا إليها النفس البشرية لإشباع رغباتها ودوافعها وبخاصة تلك التي يكون اشباعها صعبا أو مستحيلا في عالم الواقع . يوضح فرويد في واحد من كتبه المهمة "تفسير الاحلام" أن الحلم تحقيق رغبة ، وأنه ليس أمرا من أمور الصدفة ، فهو مرتبط بالأفكار التي سبق أن كبتت في اللاشعور والتي تحاول جاهدة التعبير عن نفسها ، وان حدث وتمكنت من ذلك فإنها تضطر إلى الارتداد إلى مستوى الإدراك الحسي ، فتتحول تلك الافكار إلى مجموعة صور حية ومناظر بصرية في حالة الحلم . وبذلك يتحقق للنزعة المكبوتة اشباع وهمي ، ولما كان منبع الاحلام هو اللاشعور ، وحيث أن محتويات هذا العالم اللاشعوري -كما أوضح فرويد- جملة من التجارب المكبوتة في عالم سمته اللامنطق لذا تعبر تلك التفاعلات النفسية عن وجودها بشكل مموه يبدو أحيانا أمرا غرائبي وخلوا من المعنى بالنسبة لغير المتخصص.



ويؤكد فرويد على وجود عمليتين أساسيتين في عالم الحلم هما "التكثيف والنقل" ففي مقدورنا -والكلام لفرويد- أن نفسر عن طريق عمل التكثيف بعض الصور الخاصة بالحلم والتي نجهلها في حالة اليقظة جهلا تاما ، هذه الصور تتمثل في الوجوه البشرية المتعددة الشخصيات أو المزيجة ، أو تلك التصاميم الغريبة المتنافرة العناصر والتي تقدم في وحدة موضوعية من الحلم ، ولا نستطيع كشف هويتها أو إماطة اللثام عنها في أحيان كثيرة إلا بواسطة ذلك التركيب الرمزي المتنافر والمجتمع في صورة واحدة . أن شطرا كبيرا من اكتشافاتنا ، والكلام لايزال لفرويد ، بصدد عمل التكثيف في الحلم يمكن تلخيصه على النحو الآتي "إن مادة الحلم الكامنة هي التي تحدد المضمون الظاهر حتى في ادق تفاصيله تقريبا ، وكل تفصيل من هذه التفاصيل لا يشتق من فكرة منعزلة وإنما من عدة افكار مقتبسة من تلك المادة الأساسية وغير مترابطة فيما بينها بالضرورة بل من الممكن أن تكون منتمية إلى اشد ميادين الأفكار الكامنة اختلافا . أن كل تفصيل من تفاصيل الحلم هو بكل معنى الكلمة تمثيل في مضمون الحلم لزمرة من زمر الأفكار المتنافرة تلك" ،أن التنافر بين مضمون الحلم الظاهر ومضمونه الكامن لا يمكن أن يعزى إلى ضرورة التكثيف وما يرتبط به من تحويل الفكرة إلى موقف (الاخراج الدرامي) بل ثمة مؤشرات معينة تشهد على وجود عامل آخر وهو النقل ، "فأثناء قيام الحلم بعمله تنتقل الشدة النفسية للأفكار والتصورات التي هي موضوع عمل الحلم لتتلبس أفكارا وتصورات أخرى هي بالضبط تلك التي ما كنا نتوقع البتة أن نراها تأخذ تلك الحدة والكثافة الانفعالية" ,ويعتبر الكبت أساس الحيل الدفاعية جميعا, فكلنا نلجأ إليه بمقدار و عن وعى و إرادة, و لكن إذا أسرف الفرد في الالتجاء إلية كحل لمشكلاته و رغباته أنتقل به إلى حالة المرض و من ثم الوقوع في سلوكيات غير طبيعية. قالكبت المتصل يمنع الفرد من مواجعة مشاكلة مواجهة موضوعية و بالتالى عدم حلها



و فى كثير من الحالات تحاول الدوافع و الحاجات المكبوتة التعبير عن نفسها بطرق ملتوية لا شعوربة قد توقع الأنسان في الخطا أو الجريمة أو الأمراض النفسية, كما قد يظهر الشيء المكبوت فجأه فيحطم سدود الكبد كالنهر الجارف و يصبح القشة التى قضمت ظهر البعير, فقد يرتكب الأنسان جريمة لأسباب تافهة بسيطة:



· التعلية (التسامي): هو الارتفاع بالدوافع التي لا يقبلها المجتمع وتصعيدها إلى مستوى أعلى.



· التعويض: هو محاولة الفرد النجاح في ميدان لتعويض عجزه في ميدان آخر. (التوحد): هو أن يجمع الفرد ويستعير إلى نفسه ما في غيره من صفات مرغوبة.



· الاحتواء (الاستدماج): هو امتصاص الفرد في داخله قيم الآخرين.



· الإسقاط: هو أن ينسب الفرد ما في نفسه من عيوب إلى الآخرين.



· النكوص: هو العودة والتقهقر إلى مستوى غير ناضج من السلوك.



· التثبيت: هو توقف نمو الشخصية عند مرحلة من النمو.



· التفكيك (العزل): هو فك الرابطة بين الانفعال والأفعال.



· السلبية: هي مقاومة المسئوليات والضغوط.



· العدوان: هجوم نحو شخص آخر.



· الانسحاب: الهروب عن عوائق إشباع الدوافع والحاجات.



· أحلام اليقظة: اللجوء إلى عالم الحلم و الخيال بعيدا عن الواقع



· التحويل: تحويل الصراعات الانفعالية المكبوتة من خلال العمليات الحسية والحركية.



· التبرير: تفسير السلوك الخاطئ بأسباب منطقية.



· الإنكار: إنار لاشعوري للواقع المؤلم.



· (الإبطال): قيام الفرد بسلوك معاكس لما ارتكبه مسبقا



· الكبت: إبعاد الأفكار المؤلمة إلى حير اللاشعور



· النسيان: إخفاء المواقف غير المقبولة



· الإزاحة: إعادة توجيه الانفعالات المحبوسة نحو أشخاص غير الأشخاص الأصلية



· التعلية: اتخاذ بديل لتحقيق هدف أو سلوك غير مقبول اجتماعيا.



· التعميم: تعميم خبرة معينة على سائر التجارب.



· التكوين العكسي: التعبير عن الدوافع المستنكرة في شكل معاكس.



· الرمزية: اعتبار مثير لا يحمل أي معنى انفعالي رمزا لفكرة أو اتجاه مشحون انفعاليا.



· التقدير المثالي: المبالغة في التقدير ورفع الشأن بما يعمي الفرد عن حقيقة الشيء ويحرمه من الموضوعية.



نقد سارتر لمقولة "اللاّوعي".



إنّ أهمّ ما يمكن أن نستخلصه ممّا عرضنا من نظريّة فرويد في اللاّوعي، هو ضرورة أن نميّزه عنده بين فِعْلِيَّةِ السّلوك، وحقيقة السّلوك. ونريد بقولنا فعليّة السّلوك، الأفعال والأعمال الّتي يأتيها المرء، بماهي أفعال وأعمال خامّ وظاهرة متعيّنة بالإضافة للذّات، وبالإضافة إلى الذّوات الأخرى. أمّا المُرَادُ بحقيقة السّلوك، فهو المدلول أو المعنى الحقيقيّ له، أي العلّة المتخفّية وغير الظّاهرة فيه. فأنا، مثلا، قد آتي عملا ما، كأن أسرق كتابا من على رفّ المكتبة : وهذا الفعل منّي، لهو، من غير شكّ، فعلي أنا، وسلوكي أنا، متّحد بذاتي غاية الاتّحاد، ومتماه معها. إلاّ أنّ حقيقته نفسها، فهي ليست أنا، وذلك لأنّ ما قد يُفَسِّرُ مثل ذلك العمل منّي ليست فحسب تلك الظّاهرة في مُجَرَّدِيَّتِهَا، بل شيء آخر، أحقّ وأكثر فعليّة، وهو الهُوَ. فأنا هو الّذي، بلا شكّ قد سرق الكتاب، تماما مثلما أنّ هذا الفانوس، بلا شكّ، هو الّذي يضيء. لكنّماأصل الإضاءة في الفانوس، ليس هو الفانوس نفسه، بل هو المولّد الكهربائيّ، أي أنّ الفانوس إنّما هو فقط مجرّد متلقّي سلبيّ لفعل المولّد الكهربائيّ، فيلزم من ذلك أنّه ليس هو الّذي يضيء بالحقيقة، أي أنّه ليس الفانوس الّذي يفعل فعل الإضاءة، أو، بعبارة أخرى، ليس الفانوس الّذي يسلك سلوك الإضاءة. وكذلك الأمر فيما يتعلّق بفعل سرقة الكتاب، فلست أنا الّذي سلك ذلك السّلوك. يقول سارتر " إنّما أنا هو ظواهري النّفسيّة نفسها من حيث أعايناها في حقيقتها الموعى بها : فأنا، مثلا، هذا الدّافع لسرقة ذلك الكتاب من على الرفّ. إنّني متّحد به، واتّحد به بغاية اقتراف فعل السّرقة. لكنّ كلّ تلكم الواقعات النّفسيّة ليست هي أنا، لِمَا كنت أتلقّاها سَلْبِيَّ التلقّي، فأكون مضطرّا عندها لأن أضع الفرضيّات في أصلها وفي معانيها الحقيقيّة... ففعل السّرقة ذاك، إنّما هو في حقيقته صورة متفرّعة من فعل معاقبة الذّات.

ولكن لسائل أن يسأل، تُرى كيف تُفْهَمُ علاقة الهُوَ بالأنا، في فرضيّة علم النّفس التّحليليّ. هل تُفهم بنحو علاقة موضوع بوعي، أم بنحو علاقة وعي بوعي آخر ؟ لاشكّ أن جواب فرويد كان سيكون نافيا للوجه الأوّل، أي أنّه لايمكن له أن يقبل بتأويل الهُوَ بنحو الشّيء في ذاته الموجود بإزاء الوعي كمثل هذه الطّاولة وذلك الكرسيّ. فالهُوَ، كما كنّا قد رأينا، إنّما له أصناف شتّى من الفعل والسّلوك ؛ فهو أوّلا، يرغب، ويروم، ويتقبّض، وإلى غير ذلك. وثانيا، فهو يدرك أنّ الوعي الصّارم لا يتركه لِيَمُرَّ إلى الفعل مَا بَقِيَ على حقيقته المكشوفة، فيأخذ في التّقمّص، والتملّق، والمغالطة. ولكن، لعمري، هذه الأفعال كلّها الّتي نسبها فرويد للهُوَ، ليس يمكن البتّة أن يأتيها إلاّ موجود يكون على نمط الموجود لذاته، أي الوعي، وليس موجود يكون على نمط الوجود في ذاته، أي الشّيء. فإِذًا نستخلص من ذلك أنّ وضع الهُوَ في علاقته بالوعي، إنّما هو من سِنْخِ de même nature وضع وعي أوّل بوعي آخر. فتأمّلوا جيّدا اللّوازم الخطيرة لمثل ذلك التّأويل، ولمثل هذه النّظريّة. فنظريّة فرويد كانت تزعم بأنّ " الذّات ليست وعيا فقط "، وإنّما هي " وعي وهُوَ "، أي، وهذا هو اللاّزم الخطير، هي وعي ووعي آخر ؛ الوعي الأوّل يكون غير واع بالوعي الآخر، مع انّه هو الأصل فيه !!؟ فالنّتيجة الأخيرة إِذًا لكلّ هذه النّظريّة أنّ الذّات تصير منشطرة في نفسها، وأن تتلاشى وحدة السّلوك البشريّ آخِرَ التّلاشيّ.

ولنا أيضا أن نزيد ؛ هَبْ أنّ الأمر على ما تصفه النّظريّة التّحليليّة : أي أنّ الهُوَ هو حقيقة تقوم بذاتها في الذّات، وهي بما هي كذلك تكون غير موعى بها، مع كونها الفاعلة الحقيقيّة فيها، فهل كان ذلك يعني بالضّرورة أنّ السّلوك الإنسانيّ الواعي ما هو في آخر الأمر إلاّ أثر لفعل اللاّوعي ؟ فنحن نسأل : إذا كان الهُوَ، على ما تأكّده النّظريّة التّحليليّة نفسها، هو، على التّحقيق، " اللاّوعي "، فإنّ الهُوَ بما كان لاواعيا، يكون لا ــ وَعْيًا ؛ أي يكون بالذّات ما الوعي لايكون مُحِيطًا به. ولكن الفرضيّة الفروديّة هي تتحدّث أيضا عن أنّ الوعي من شأنه أن يقاوِمَ ويُعَانِدَ الهُوَ، كلّما اقترب للظّهور. ولكن، ليت شعري ؟ أيّ معنى لهذا الكلام ؟ أليس معناه أنّ الوعي إنّما يتصدّى باستمرار للهُوَ بما هو حقيقة ذات هويّة ينبغي للوعي أن يكبتها ؟ فالوعي لا يقاوم الهُوَ إلاّ لأنّه يكون على بيّنة من حقيقة الهُوَ، أي أنّ الوعي لا يكون نفيا للاّوعي إلاّ بالقدر نفسه الّذي يكون به واعيا باللاّوعي ؛ أي إلاّ بالقدر نفسه الّذي يذوب به وهم اللاّوعي في يقين الوعي.



الوعي عند هوسرل:



تقوم نظرية الوعي عند هوسرل على الابتعاد عن التجريبية والروح السايكولوجية التي تفسر الاحداث التاريخية، وتتوقف عند العمليات العقلية ، لتكشف تراكيب الوعي ذاته، والظاهرات نفسها، في محاولة لرفض الموضوعية حتى عن العلوم الطبيعية ، وكذلك استبداله للمعضلة الكانطية في عدم قدرة العقل على معرفة الاشياءالواقعة خارج حدوده، بان ما يدرك حسياً هو جوهر الاشياء وهذا ما يغنينا عن سواه.

هذا الايحاء بارتباط " الكينونة" بـ "المعنى" يؤدي إلى ان الشخص والشيء هما وجهان لعملة واحدة لانهما مرتبطان مع بعضها البعض، فلا وجود لاحدهما بمعزل عن الاخر.

هذا الحنين لجمع العقل والكون معاً، ضمن العقل ذاته هو " عزاء مناسب لمجتمع تبدو فيه الاشياء مغتربة ومفصولة عن الغايات البشرية ، والناس مغرورين في عزلة مقلقة". (ص 66). كان المعنى لدى هوسرل يسبق اللغة وهي نشاط ثانوي يسمي المعاني التي بحوزتنا! في حين نظر "فتيغنلشتاين" والمعاصرون بان اللغة تنتج المعنى، وحتى ان المعاني والخبرات فانها ـ أيضاً ـ موجودة لدينا منذ البداية ، لاننا نمتلك اللغة الحاوية لهذه المعاني. وما نظنه فرديا ما هو في حقيقته سوى تجربة اجتماعية تاريخية بمعناها العميق. ان نظرة هوسرل "الماهوية" تتعارض مع نظرة (هيدجر) الذي قدم عليها (الوجود) فانتقل من رقعة الفكر النقي، إلى فلسفة تتامل ما تشعر بانه حي. (ص 70) فالعالم ليس شيئا يمكن اذابته وتحويله إلى صورة ذهنية كالذي اعتقده هوسرل، بل انه كيان عصي على مشاريعنا، وان وجودنا هو جزء منه.

تخيل هوسرل موقعاً متسيداً للذات المبهمة، التي تطبع صورتها على العالم، بينما ابعد هيدجر هذه الذات، فالوجود "الانساني هو حوار مع العالم، واكثر الفعاليات اجلالاً هو الاصغاء وليس الكلام" ص (70).

فنحن نكتسب معرفتنا من طريق ارتباطنا بالعالم، وما النظرية سوى افكار تجريدية جزئية عن الاهتمامات الحقيقية، أي مثل "الفينومينولوجيا" مبحثه الفلسفي الاساس، بوصفه "علم اشكال الوعي وتامل الماهية والوجود الحق المطلق عامة".

وحاول تطبيق منهجه هذا في نظرية المعرفة، فحذف منها العياني والملموس في محاولة منه لدراسة بنية "الوعي المحض" تحليل "ظواهر" الوعي بما هو وعي. وهنا تختل العلاقة الموهومة التي اراد تكريسها ما بين الذات البشرية، والشيء (أو العالم بصفته الموضوعية " فيرجح من كفة الذات على حضور العالم. هذه الماهية الهوسرلية اعتبرها خصومها ضرباً من "المثالية" التي تتعارض مع طبيعة الفكر الواقعي، وانها شكل من اشكال الوعي البرجوازي ، الذي يعكس نسقاً خاصاً من المفاهيم البرجوازية العامة عن العالم وعن مكانة الإنسان ودوره وفق اساس نظري غير دقيق لرؤية العالم.



الوعي عند جاك لاكان:



جاك لاكان Lacan (المولود في 1901) لقد لاكان اتخذ موقفا انتروبولوجيا:من الممارسة للغة إذ أكد على الدور الحاسم للممارسة اللغوية ولنظرية اللغة في التحليل النفسي، متأثرا في ذلك بفرويد بحيث أسس لإعادة قراءة الفكر الفرويدي وأن يجعله مقروءا من طرف من ليسوا اختصاصيين في التحليل النفسي، مساهما بذلك في نشر الفكر التحليلي. ومن حيث إنه كان الوحيد تقريبا الذي استطاع أن ))يفهم التأثير الايديولوجي لفرويد خارج مجال العلاج النفسي، فقد أنشأ، بعد مايو 1962، نظرية الخطابات بصفة عامة. يقسم لاكان الخطابات إلى أربعة أنماط: خطاب السيد (Le disours du maître) وخطاب الهيستيري (Le discours de l'hysterique) وخطاب الجامعي (Le discours de l'Universitaire)، وأخير خطاب المحلل النفسي (Le discours du psychanalyste). الخطابان الأولان يشيران إلى علاقة السلطة (سلطة السيد) بالمعرفة (من حيث إن الهيستيري لا يمكن أن يشفى بواسطة المعرفة الطبية التقليدية، " فهو الذات المنشطرة، أو بعبارة أخرى فهو اللاشعور في حالة عمل، وهو يحرج السيد ويجعله ينتج معرفة (savoir)"؛ إن الاكتشاف الذي قام به فرويد، عبر الاضطرابات الهيستيرية، يدعو إلى التشكيك الجذري في كل من المعرفة والسلطة. فالجامعي والمحلل النفسي هما، في تعاصرهما، في موقعين متعاكسين: أحدهما هو موطن معرفة، والآخر موطن عدم معرفة. الجامعي هو ذلك الذي ينقل الثقافة كمعرفة؛ والمحلل النفسي - من حيث أنه "يجهل ما يعرف" - فهو ذلك الذي لا ينقل شيئا، اللهم إلا ضبطا يمارس على كل ثقافة: مثل هذا الخطاب هو ذلك الذي يسميه خطابا ينتمي إلى الحقيقة، الخطاب الذي يتلكم بواسطة اللاشعور والذي يجعل من التحليل النفسي علما يحاول إرساء أسسه. يمكن أن نجعل منظومة لاكان قائمة في العلاقة المتبادلة بين منطوقين خاصين به:



- اللاشعور هو خطاب الآخر،



- اللاشعور منتظم بنيويا على هيأة لغة.



الآخـر:



ليس المقصود بذلك شخصا آخر يكون لاشعوره هو الناطق باسمه. بل بالعكس فالآخرية (L’alterit) في المنظومة اللاكانية تبدو متطرفة، أي خالية من أي قوام إلهي أو بشري.



لآخر هو المكان الغريب الذي ينبثق منه كل خطاب: مكان العائلة، مكان القانون، مكان الأب في النظرية الفرويدية، أو مكان التاريخ والمواقع الاجتماعية، المكان الذي ترجع إليه كل ذاتية؛ أن نقول إن اللاشعور هو خطاب الآخر معناه إعادة التأكيد بصورة حتمية على أن الخطاب "الحر" غير موجود، وذاك هو القانون الذي يحكم كل خطاب. والآخر أيضا موقع في بنية الذات: إذ مثلما أن الآخر ليس ذاتا، بل مكانا وموقعا، كذلك فإن الذات ليست نقطة بل هي نتاج بنية مركبة. و لاكان ينشئ هذه البنية على حدث محدد بعينه يعترض الذات الفردية في مسارها وهو: مرحلة المرآة التي هي اكتشاف سريري قام به لاكان والتي تقع في المراحل الأولى من الطفولة (بين ستة وثمانية عشر شهرا). وعن طريقها يأخذ الطفل في الإحساس بذاته كذات مستقلة ويكتسب فيها صورته عن ذاته بالتعرف عليها في المرآة. والطفل ما يزال في هذه المرحلة تابعا كليا لمن يعوله وغير قادر على الكلام وعلى التغذية؛ إن تعرف الطفل على صورته في المرآة تجعله ينتقل من عدم الاكتفاء إلى الاستباق: استباق ما سيكون جسمه البالغ، كجسم مستقل وواقع في شبكة اللغة.



إن الانتقال الذي يقع في هذه المرحلة انتقال أساسي: فهو يضمن للذات صورة كاملة عن نفسها ويضع الأنا كهيأة نفسية لكنه يضعها - بتعبير لاكان - في "خط الوهم". إن الأنا كوهم fiction ينتج عن التواجه القائم في المرآة بين الذات والمسافة التي تفصلها عن صورها؛ إن الوهم يأتي أيضا من بنية الذات التي تتأكد من ثمة بذاتها. إن الهيئات النفسية التي يضعها فرويد: الأنا الأعلى، والأنا والهو تجد نفسها داخلة في علاقة تجعل التشبيه المكاني المتضمن فيها يختفي. فالأنا الأعلى يصبح هو الرمزي Le symbolique، مجال النظام والقانون، ومكان الخطاب الأبوي (وبذلك ينخرط التحليل النفسي في الانتروبولوجيا: إذ أن الرمزي هو نظام الثقافة بالمعنى الاتنولوجي)؛ والأنا يصبح هو المتخيل L’imaginaire، مكان الوهم، والحقيقة، والتغير، والملاحق التجميلية للذات التي هي ملاحق متحركة وهشة. والهو ليس له مكان إلا مجازا فهو المكان الذي ليس له مكان وهو العلة الغائبة للبنية، ويطلق عليه لاكان اسم الواقع Le réel؛ وإنتاجه يقع على مستوى موضوعات الرغبة. وموضوعات الرغبة، بالنسبة لفرويد، موضوعات متعددة، لكنها تابعة لعلاقة أساسية تحكم كل علاقة مع أي موضوع يدعوها لاكان العلاقة بالموضوع؛ وبالنسبة لميلاني كلاين ينقسم الموضوع إلى موضوع "جيد" وموضوع "سيء"، وفق علاقة متحركة وغير مستقرة تتوقف عليها علاقة الذات بالعالم. ويذهب لاكان بعيدا في إضفاء صبغة نسقية على الموضوع: فهو يطلق اسم "الموضوع أ الصغيرة" على الموضوع النوعي العام لكل موضوعات الرغبة: الجزئي والمنفصل، والمهمل؛ وهذا الموضوع هو الأثر والعلاقة الدالة على الغربة في قلب الذات، وهو علامة على قطيعة لا رجعية فيها: وهذا ما يجعل لاكان يطبعه بشرطة مائلة في الكتابة $ وهي العلامة الدالة على الانشطار الذي أشار إليه فرويد)).



مقتطف من مقاة جاك لاكاترين كليمان و التي ترجمها محمد سبيلا –مجلة فكر ونقد- العدد 6



III – الإيـديـولـوجـيا و الـوهــم



الإيديولوجيا: التعريفات







يرى بول ريكور(1913-2005) أن الإيديولوجيا ترتبط بثلاث استعمالات و يهم الاستعمال الأول معنى الاختلال و التشويه للواقع, و هو المعنى الذي يشيع بين عامة الناس و الذي كان مصدره الماركسية حيث تسند للإيديولوجيا معنى يجعل من الممارسة أساسا لها و أن الإيديولوجيا مصدر التشويه و القهر.



أما الاستعمال الثاني فربطه بول ريكور بالشكل الذي تظهر فيه الإيديولوجيا بالشكل الذي تظهر فيه هذه الأخيرة كظاهرة تشويهية و تزييفية بل يجعلها بول ريكور في هذه الحالة تبريرية أي أنها تحاول أن تتكلم بلسان الحاكم المسيطر و تشيد الشمولية و حين يبرز العنف داخلها تتحول الايديولوجيا إلى أداة قهر ونح الخوف أكثر من المظاهر العنيفة التي تخلفها طاحونة الصراع الطبقي. أما الاستعمال الثالث: فيربطه بول ريكور بما أسماه بالإدماج أي أن الجماعة تعمل على استدعاء ذكرياتها الأساسية باعتبارها أحداث أولية مؤسسة للهوية المحددة لهذه الجماعة , فهذا الاستعمال يساهم في تكوين عنصر جديد داخل بنية الذاكرة الجماعية.



إن بول ريكور يهدف من وراء تقسيماته هذه للإيديولوجية إلى تأكيد نقطة محورية لا تنفصل عن عملية الإيديولوجيا نفسها وهي حضور الوهم لتبرير وصفي لاسترداد الذكريات لتحقيق الإدماج.



أما علاقة الوعي بالوجود الاجتماعي فتك إشكالية أخرى من الفلسفة الماركسية إذ يؤكد رائد الماركسي كارل ماركس(1818-1883) على استحالة فصل وعي الناس بوجودهم الاجتماعي و يعطي ماركس للحياة الاجتماعية أهمية أساسية تحديد الوعي بل يجعلها هي التي تحدد الوعي فكيف ذلك؟



إن الإنسان عند الماركسيين كائن اجتماعي في جوهره, و بدون المجتمع لا يستطيع الإنسان العيش, إذ لا يمكنه أن ينتج الشروط الضرورية للحياة اللازمة لبقائه إلا في إطار المجتمع,



و لكن أدوات ذلك الإنتاج و مناهجه تعود لكي تحدد أول ما تحدد العلاقات الإنسانية, و خلاصة القول: إن كل مضمون للوعي الإنساني يحدده المجتمع و يعدل و يتغير و يتنوع بحسب التطور الاقتصادي .



أما بالنسبة لنيتشه(1844-1900) فهو يبرز الوعي الأكثر سطحية و سوءا بمعنى أن الوعي لدى الإنسان رغم تطوره في المستويات فإنه لا يدرك معنى وعيه لأفعاله و أفكاره ومشاعره, بل حتى حركاته فهو دائما يفعل نتيجة للإرادة قاهرة جاءت في صفة أمر (يجب عليك), و هو هنا يؤكد مقولة (النيهلستية) أو العدمية و تظل تسيطر على الإنسان فهو لا يعرف معنى الفكر الذي أصبح وعيا فالوعي عند نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من أجزاء الفكر السطحية و أكثرها سوءا.



إذا كان الوعي هو المؤول عن إعطاء صورة عن حياتنا الواقعية و طريقة تفكيرنا, فإلى أي حد يستطيع الوعي رسم صورة حقيقية عن واقعنا و ذواتنا؟ ألا تتدخل الإيديولوجية في تشويه الواقع و قلب الحقائق؟



1- الإيـــــــــــديـولـوجـيـا ...بــأي مـعـنـى؟



-ـ- أصل الكلمة:



لقد ظهرت لفظة الإيديولوجيا لأول مرة بفرنسا كعلم للأفكار , و يرجع الفضل في نحث المصطلح إلى دستوت دي تراسي (destutt de tracy) (1754-1836) إذ ارتبط به إبان الثورة الفرنسية لسنة 1789 , حيث أعطى لهذا المفهوم مدلولين اثنين و هما:



* مـــــدلـول فــــــلــــســفـــــي:



اعتبر فيه الإيديولوجيا علم أو شبه علم يقوم على الملاحظة و التجربة كنقيض لتفسير اللاهوت للعالم الذي يعتبره دو تراسي تفسيرا أوليا و طفوليا بينما الإيديولوجيا كما يتصورها تمثل التفكير الراشد و الناضج لارتكازها على الملاحظة و التجربة.



* مــــدلـول إبــيـسـتـمـولـــوجـــــي:



لقد أعطى دو تراسي مفهوما جديدا في كتابه ( مشروع عناصر الإيديولوجية) في بداية القرن 19 وهذا التعريف هو على الشكل التالي: « العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار, أي مجموع واقعات الوعي من حيث صفاتها أو قوانينها و علاقاتها بالعلامات التي تمثلها لاسيما أصلها» , هكذا يبدو أن دو تراسي حاول أن يعطي للإيديولوجيا بعدا علميا باعتبارها نسقا من الأفكار



و التصورات البعيدة عن التمثلات اللاهوتية و الميتافيزيقية للعالم في كل الأحوال, فأصبحت الإيديولوجيا بهذا المعنى ضد الافكارو الأطروحات المحافظة, خاصة وأنها ارتبطت بالثورة الفرنسية و ما أحدثته من تغير في بناء المجتمع الفرنسي , و انعكاسات هذه الثورة على صعيد الأقطار الأروبية تأسيسا على الدلالات السابقة, و ضدا على مفاهيمها نحث نابليون مدلولا جديدا للإيديولوجيا حيث اعتبرها أفكار المشاغبين الذين كانوا ضد حكمه ومن ثمة أخذت معنى انتقاصيا لدلالتها مع دو تراسي إذ أصبح نابــليـــون يـــنـــعــت خــصـومـه بالإيديولوجيين و ذلك في إطار الصراع السياسي بينه وبين معارضيه . وفي هذا الصراع و السجال ظهرت ما سمي سجال المصطلحات أو الإيديوفوبيا أي الخوف الشديد من الأفكار, فإن كانت تعبر عن شيء فإنها تعبر عن احترام المصالح و المطامح , و أصل هذا الاحترام يعبر تعبيرا قويا عن المنحى الايديولوجي و على دور الايديولوجيا في تفعيل الصراع بين المصالح و المطامح.



أما لالاند فيعرف الإيديولوجيا بأنها « العلم الذي يتخذ موضعا له دراسة الأفكار, أي العلم الذي يبحث في صفات الأفكار و قوانينها و خاصة أصولها ».







2- الـــمـــاركــســيــة و الإيـــــــديـولـوجــــيـا.



إن الايديولوجية أخذت تكتسي شيئا فشيئا معنى خاصا ,فهي في نظر ماركس و رفيقه انجلز«ليست سوى التعبير الفكري عن العلاقات السائدة في المجتمع’ تلك العلاقات التي تجعل من طبقة ما الطبقة السائدة على الطبقات الأخرى.» بهذا المعنى فالايديولوجيا مجموع الأفكار الذي تسود المجتمع الطبقي و الذي ترسم بفعل الشروط المادية و الروحية القائمة على صورة ناقصة و مشوهة للعلاقات السائدة فيه و في هذا المعنى يقول أنجلز :«الإيديولوجيا هي نشاط فكري ذلك الذي يدعى مفكر واعي في حين أنه إنما يصدر عن وعي زائف مغلوط ذلك لأن القوى الحقيقية المحركة له تبقى مجهولة لديه, و إلا لما كان نشاطه الفكري ذاك إيديولوجيا ».إذن هي البناء الفكري النظري القائم على وعي مزيف لكونه يجهل مكوناته الموضوعية, هذا و قد وسع كل من ماركس و أنجلز فيما بعد مفهوم الإيديولوجيا فجعلاه البنية الفوقية برمتها لعصر من العصور التاريخية أي مجموع النتاج الفكري, من أدب و فن و فلسفة و دين و أخلاق و تشريع بحيث يسود مجتمعا من المجتمعات في عصر من العصور التاريخية.



إن لنين lenine : يميز بين الإيديولوجيا البرجوازية و البرجوازية الاشتراكية, أما الإيديولوجيا الأولى فهي النسق الفكري الذي تقيمه البرجوازية لتخدع به نفسها و تخدع غيرها من الطبقات المضطهدة, أما الإيديولوجيا الاشتراكية فهي المذهب الذي يقود كفاح الطبقة العاملة و تنير لها الطريق و الذي يأتي من الممارسة النظرية , من المثقفون الثوريون الذين ربطوا مصيرهم بنضال و كفاح الطبقكــارل مـانــهايـم







يفرق مانهايم بين الإيديولوجيا الجزئية أو الخاصة, و الإيديولوجيا الكلية أو العامة فالأولى تعني مجموع الأفكار التي يعتنقها الشخص و التي يرى من خلالها حضوره مجرد غطاء شعوري لتحقيق الموقف الذي يصدر عنه , و الذي لا يعبر بصراحة لأنها تعارض مصالحه, فهي بهذا المعنى تبريرية تعمل على صرف النظر عن فحواها.



أما الإيديولوجيا الكلية هي مجموع التصورات التي تعتنقها جماعة ما تبريرا لموقفها داخل المجتمع.



من خلال ما سبق يتضح على أن الإيديولوجيا تحمل مجموعة من التأويلات و القراءات للأفكار و للبناء الفوقي عموما. فهذا بول ريكور(1913-2005) يرى أن الإيديولوجيا ترتبط بثلاث وظائف يأخذ الإستعمال الأول معنى الإختلال و التشويه للواقع و هو المعنى الذي يشيع بين عامة الناس و الذي كان مصدره الماركسية حيث تسند للإيديولوجيا معنى يجعل من الممارسة أساسا لها و أن الإيديولوجيا مصدر التشويه و القهر.



أما الاستعمال الثاني فربطه بول ريكور بالشكل الذي تظهر فيه الإيديولوجيا بالشكل الذي تظهر فيه هذه الأخيرة كظاهرة تشويهية و تزييفية بل يجعلها بول ريكور في هذه الحالة تبريرية أي أنها تحاول أن تتكلم بلسان الحاكم المسيطر و تشيد الشمولية و حين يبرز العنف داخلها تتحول الايديولوجيا إلى أداة قهر ونحت الخوف أكثر من المظاهر العنيفة التي تخلفها طاحونة الصراع الطبقي. أما الاستعمال الثالث: فيربطه بول ريكور بما أسماه بالإدماج أي أن الجماعة تعمل على استدعاء ذكرياتها الأساسية باعتبارها أحداث أولية مؤسسة للهوية المحددة لهذه الجماعة , فهذا الاستعمال يساهم في تكوين عنصر جديد داخل بنية الذاكرة الجماعية.



إن بول ريكور يهدف من وراء تقسيماته هذه للإيديولوجية إلى تأكيد نقطة محورية لا تنفصل عن عملية الإيديولوجيا نفسها وهي حضور الوهم لتبرير وصفي لاسترداد الذكريات لتحقيق الإدماج.



أما علاقة الوعي بالوجود الاجتماعي فتك إشكالية أخرى من الفلسفة الماركسية إذ يؤكد رائد الماركسي كارل ماركس(1818-1883) على استحالة فصل وعي الناس بوجودهم الاجتماعي و يعطي ماركس للحياة الاجتماعية أهمية أساسية تحديد الوعي بل يجعلها هي التي تحدد الوعي فكيف ذلك؟



إن الإنسان عند الماركسيين كائن اجتماعي في جوهره, و بدون المجتمع لا يستطيع الإنسان العيش, إذ لا يمكنه أن ينتج الشروط الضرورية للحياة اللازمة لبقائه إلا في إطار المجتمع,



و لكن أدوات ذلك الإنتاج و مناهجه تعود لكي تحدد أول ما تحدد العلاقات الإنسانية, و خلاصة القول: إن كل مضمون للوعي الإنساني يحدده المجتمع و يعدل و يتغير و يتنوع بحسب التطور الاقتصادي .



أما بالنسبة لنيتشه(1844-1900) فهو يبرز الوعي الأكثر سطحية و سوءا بمعنى أن الوعي لدى الإنسان رغم تطوره في المستويات فإنه لا يدرك معنى وعيه لأفعاله و أفكاره ومشاعره, بل حتى حركاته فهو دائما يفعل نتيجة للإرادة قاهرة جاءت في صفة أمر (يجب عليك), و هو هنا يؤكد مقولة (النيهلستية) أو العدمية و تظل تسيطر على الإنسان فهو لا يعرف معنى الفكر الذي أصبح وعيا فالوعي عند نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من أجزاء الفكر السطحية و أكثرها سوءا.



إذا كان الوعي هو المؤول عن إعطاء صورة عن حياتنا الواقعية و طريقة تفكيرنا, فإلى أي حد يستطيع الوعي رسم صورة حقيقية عن واقعنا و ذواتنا؟ ألا تتدخل الإيديولوجية في تشويه الواقع و قلب الحقائق؟



إن السؤال الذي يفرض نفسه هل يمكن التحرر من الإيدولوجيا في العلوم الإنسانية؟



رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيدعيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و ...

رسالة إلى أمي 😭 في 3يوم العيد عيدي يوم التحق بك يا امي 😪🤲 رحم الله أمي و أبي وسائر اموات المس لمين 🤲 #اللهم_صل_وسلم_على_نبينا_محمد   #ال...